فكرة فن المسرح في كتابات صباح الأنباري
صالح الرزوق
بدأت الحداثة ثورتها على العقل الكلاسيكي والرومنسي من نقطة تواصل ثم قطيعة. فقد
ارتبطت بالتعبير عن العقل ولكن بشكل ذاتي.
ولذلك توجد حداثات متنوعة بتعدد أشكال الذات المنتجة لها.
فحداثة الستينات كانت صدى لانفجار الثورة الصناعية في مهدها الأوروبي.. إنها رثاء
للطبيعة وتمهيد لانفصال المعرفة عن العقل الشامل. ولذلك كانت تبدو أقرب ما يمكن
لمعنى الحداثة الصناعية لارتباطها المباشر بتراجع الطبيعية وتوسيع فضاء التفكير
الصناعي.
وهذا بالضبط ما لا يتفق معه نتاج المسرحي العراقي صباح الأنباري المولود في بعقوبة
والذي يعيش في أستراليا.
هذه المفارقة طبعت كل أعماله التي تتبنى التجديد ولكن تغلب عليها نوستالجيا المكان
والماضي. فهما جزء من مكونات الذاكرة الانفصالية التي تسقط بالتقادم والافتراق.
ويمكن توضيح هذه الفكرة لو تابعت المحاور الأساسية التي يكتب فيها.
وهي أولا الخيال العلمي. وأهم مثال عليه مسرحيته التي صدرت في دمشق عام 2000 بعنوان
(ليلة انفلاق الزمن).في
هذه المسرحية لا يستعمل الأنباري آلة الزمن ولا الروبوتات ولا مراكب الفضاء ولكنه
يضع كل إنسان أمام نفسه. بحيث يتألف الشخص الواحد من ذاكرة قديمة وواقع معاش.
وهذا الفصام يقود الشخصيات إلى إدانة واقعها المريض والمتدهور.
وإذا كانت الفكرة تتألف من صراع يدور في الذات بين الماضي والحاضر. بين الشكل
الطبيعي لحياة افتراضية وشكل صناعي لحياة ملوثة فهذا يعني أنها تضع العقل الطبيعي
الكانتي الذي يتركب من الشيء بذاته أمام عقل الثورة الصناعي بكل ما يتميز به من
سلبيات. ويبدو أن خيال الأنباري هو مجرد إحياء لفكرة الطبيعة عن معنى الإنسان. وهذا
ولا شك يخلق مسافة تفصله عن
الحالة الوضعية لبني البشر.
الفئة الثانية هي المونودراما. ومع أنها تفترض وجود حبكة غير أنها أيضا ليست مثل
مونودراما مسرح الحداثة المعروف. فهي تعيد انتاج المواقف الدرامية لمشاهد تجدها في
أعمال شكسبير الأساسية ومنها مكبث وهاملت. حيث كل مشهد يتكون من مناجاة درامية
مستقلة تكشف فيها الشخصيات عن القلق والشك الذي تعيش
فيه. وقل نفس الشيء عن الفئة الثالثة التي تتألف من مسرحياته الصامتة. هذه
المسرحيات لا تعيد السيرة الفنية للبانتومايم ولكنها تذكرنا بلحظات فاصلة في
تاريخنا الاجتماعي الطبيعي حينما كان الإنسان يتواصل بتجريد الرموز والإشارات أو ما
يسمى بلغة الجسد. أو ربما ببدايات السينما قبل انتاج الصور الناطقة. كما هو حال
أفلام الشارلو و فيلم (المدرعة بوتمكين) لإيزنشتاين.
ولا شك أن الفرق واضح. فالمسرح الإيمائي يقدم حالة وليس حبكة بينما السينما الصامتة
ومثله مسرح الإشارة يبني قصة لها بداية وعقدة وخاتمة.
وسواء كانت الخاتمة تجزم بنهاية الأحداث كما في أفلام الشارلو أو أنها تكون مفتوحة
وتأتي على سبيل المجاز والتجريد كما عند الأنباري فهي تضع نتيجة لأسباب تراكمت خلال
تطور النص.
وهذا يأتي كجزء لا يتجزأ من استراتيجية التجديد الطبيعي في مسرحيات الأنباري. إنه
يترك فراغات لتبتعد ما أمكن عن المباشرة ولتحيط الشخصيات والأحداث بستار غامض ينقل
حالة الاغتراب الطبيعي عن واقع لا يمكن للإنسان البسيط أن يفسره.
وأعتقد
أن هذا هو أبسط مبدأ من مبادئ العبادات والطقوس الطبيعية وهو مصدر فكرة فن المسرح
ذاته.
كانون الثاني 2016