غزارة المعنى في النص الصامت

قراءة في نص السماح على إيقاع الرصاص

للكاتب صباح الانباري

أطياف رشيد/ العراق

يتميز النص الأدبي المسرحي بمميزات وإمكانيات يتفرد بها من بين الأجناس الأدبية الأخرى. فهو رغم غياب السرد والوصف يؤسس عوالمه التي تبنى في مخيلة القارئ بالنزر القليل من المعطيات التي يمنحها الكاتب، فتلك العوالم المتخيلة تبنى وتؤسس من خلال الحوار الذي هو أساس النص المسرحي وعماده الأول. وإذا كان الحال كذلك مع النص المسرحي الصائت كما يسميه الكاتب صباح الأنباري فكيف إذن بنص صامت لا يملك إلا رسم الحركة والفعل ليوصل رسالته وغايته، في النص محل القراءة والنصوص الصامتة الأخرى يكون المعنى خفيا متواريًا في الإشارات الحركية والصورة المكونة للمشهد، ويمرر كإشارات ولمحات لكنها دقيقة تقود القارئ إليها عبر ممرات ترسم الحركة والفعل كدليل نحو نور التخيل وبناء العوالم الروحية الإنسانية لتلامس قضايا الإنسان المعاصر.

يعتبر الكاتب صباح الانباري أول من وضع أسس كتابة المسرحيات الصامتة كجنس ادبي له مقوماته وخصوصياته التي حددها من خلال مقالاته وكتاباته النقدية ونصوصه التي جسد فيها حلمه في ان يجد المساحة الأدبية التي تناسب طموحاته وأحلامه. فالنص الصامت لابد أن يمتلك القدرة على المزاوجة بين فنين عريقين هما القصة والمسرح. مهتما جدا بالطاقة الكامنة في الايماءة والحركة وإمكانية تحول الشكل القصصي الى الشكل الدرامي الصامت دون الحاجة إلى الاستعانة بالحوار والكلمات. كما اعتمد بكثير من نصوصه على الصوت ولكن ليس الصوت البشري بل هي ضربات الصنج والصراخ والبرق والموسيقى وأيضا صراخ الحشود. كل ذلك كان في خدمة نصوصه، بل في خدمة مشروعه الأدبي.

ومسرح الأنباري هو (المسرح الذي يفعّل الداخل الانساني المهمل ويحاول أن يركز على الذاكرة الخارقة التي تستفز المدرك العقلي بعد توظيفها لمنظومة حركية ذات دلالات معرفية تؤسس مرتكزاتها في رؤيته لمفهوم خطابه من خلال رسومات اشتغالها الإيمائي الفاعل الذي رسمه المؤلف أو المخرج في آلية خلق الطاقة الداخلية لدى الممثل) *١

إذن النصوص الصوامت هي نصوص ترتكز بالأساس على رسم المنظومة الحركية لتفعيل الدلالات وتفجير المنظومة الإدراكية الجاهزة وغرس المعنى المبني وفق تشكيل حركي وانفعالي جمالي دقيق. إذن نحن أمام بناء صوري يعتمد في تخليق معناه ودلالاته على تفجير الطاقة الكامنة في توجيه الفعل والحركة الصامتة الى منطقة القول، ولكنه القول عبر صراع دال يتمخض عنه المعنى في شكل صورة. البناء هذا كما يقول الكاتب صباح الأنباري نفسه سوف يعتمد في اشتغاله (على التشكيل الصوري واعتماده كأداة من أدواته الأساسية. فالصورة تحتاج الى فعل، والفعل يحتاج الى حركة والحركة تتأسس على رغبة وهدف) *٢.

وفي النص قيد القراءة ((السماح على إيقاع الرصاص)) يحضر المعنى قويًا ضاجًّا بعنفوان الحركة والفعل، ويبرز العنوان الكثير مما عمد الكاتب أن يشير إليه، كما إن اختيار نمط الشخصيات الرامز دفعت بالإمكانيات التحليلية للخطاب الصامت الى أقصى حد من التفجير الدلالي. والمسرحية مهداة الى حلب عنقاء المدن السورية كما يعبر الكاتب. رسمت الشخصيات بكثير من العناية لتعرف عن نفسها سواء من خلال الوصف أو من خلال الحركة والفعل الذي تقوم به فتكشف عن أبعادها النفسية والفكرية، الشخصيات المرسومة عند أول النص وتلك التي ميزها ضمن الوصف الداخلي للحركة والفعل حددت لنا مسار اتجاه إيقاع النص ومسار القصة. فالشخصية الأولى: الرجل الأصفر التي ميزها الكاتب باللون الأصفر (يرتدي الملابس الصفر من قمة رأسه إلى أخمص قدميه) هذه الشخصية لتكون بمثابة الموّجه لباقي الشخصيات حينا وبمثابة الراوي للأحداث التاريخية حينًا آخر. ثم مجموعة من الشيوخ، مجموعة من الشباب، الرجل ذو الرأس البيضوي ومجموعة أتباع الرجل الأشداء وجلادين اثنين.

يبدأ النص حين يبدأ الرجل الأصفر بإعطاء الأوامر برقصة السماح لكلا الفريقين، الشيوخ والشباب من أجل أن يتواصل الجيلان ويندمجان في ردم الفراغ أو الخلاف فيما بينهما، الأمر الذي يجعله يعطي الأوامر ببدء الرقصة أولا للشيوخ وحدهم ثم للشباب وحدهم ومن ثم يعطي الإشارة بالرقص معا في إشارة لتواشج العلاقات بين الفريقين/ الجيلين، واندماج أفكارهم وذوبانها في غمرة رقصة للسماح والمحبة. حيث (يرفع كلتا يديه مثل قائد أوركسترا ويحركهما كإشارة لبدء رقصة السماح ثم يظل في مكانه، تؤدي مجموعة الشيوخ رقصة السماح على الطريقة التقليدية فترة تحددها إشارة الرجل الأصفر اللاحقة، وبإشارة منه أيضا تبدأ مجموعة الشباب أداء رقصة السماح بطريقة حديثة بينما يظل الرجل الأصفر في وقفته بلا حراك حتى يكرر الإشارة بالتوقف والبدء بالرقص من قبل المجموعتين معا، يرقصون ويرقصون ثم يندمجون في رقصهم مع الرجل الأصفر كل في مكانه، المجموعة الأولى على يمينه والمجموعة الثانية على يساره.) *٣

هكذا يقدم لنا الأنباري طبيعة المشهد في بدايته، بل ثيمة القصة والحكاية في مطلعها وبزوغها من أجل أن يبني لاحقا تطورات الاحداث راسمًا بالحركات كل عناصر المشهد وتفاصيله. ومن أجل أن يذهب الى الخطوة التالية في كشف الآتي يمنح الكاتب الشخصية الرئيسية الرجل الأصفر دوره البالغ في فتح مغاليق القصة والتي بإمكانه أن يرويها دونما كلمات (من خلال تفعيل النسق الحركية والايمائية التي تضمنها مسار القصة) *٤.  فبعد أن يكدر صفوهم ورقصتهم وانسجامهم صوت الرصاص القادم من كل الجهات يمنحهم الإشارة بمعاودة الرقص، معاودة الحياة، ومعاودة المحبة، والنهوض، بعد أن يزحفوا بكل الاتجاهات الى أن يتوقف صوت الرصاص. وهل تكتفي القوى الخارجية بهدير الرصاص لمنع ووقف رقصة السماح والحياة، لا، لأنَّ عاصفة هوجاء تضرب الراقصين، تهزهم بعنف وتحاول إسقاطهم ورغم قوتها وعنفها يقفون من جديد. ويعانق بعضهم بعضا لينسحب الرجل الأصفر الى دكة تراثية حلبية ليقوم مقام الراوي الذي يذكر بتاريخ مضى من تسلط وديكتاتورية تسيَّدت بجلاديها على رقاب الناس وأخذت منهم أجمل السنوات، وثمار الحياة الزاهرة. بعد ان يتوقف الجميع عن الرقص بضربة صنج مدوية، يدخل الرجل ذو الرأس البيضوي وهو (رجل طويل القامة حاد الملامح، برأس بيضوية، يغطي نصفها الخلفي ما تبقى له من شعر، وجبين عريض، وعينين جاحظتين وفم بأنياب طويلة يرافقه عدد من الرجال الأشداء ذوي أنياب مشابهة. ومخالب تشبه مخالب الضباع ... يشقون المجموعة شقين ... وجوههم واجمة وجباههم مكفهرة، ونفوسهم تواقة لإراقة الدماء والتهام اللحوم البشرية) *٥ حيث يستعرض الرجل وجوه المجموعتين (بنظرات ذئبية شزراء يتطاير منها الشرر) لكنه يغادر مسرح الحدث ليدخل الجلادان من اليسار ومن اليمين يحيطان المجموعة بسلسة حديدية فيعزلان المجموعة عن جمهور النظارة، ويخرجان فتطفأ الأضواء عن المشهد الصامت الأول والذي يسميه الكاتب المُصمَتُ الأول، وهكذا قسم مشاهده الثلاثة بهذه التسمية المميزة. ويستمر النص متقدما الى أكثر الفصول عمقا في الطبيعة البشرية، العنف والقمع من جهة وحب الحياة والتسامح من جهة أخرى وفي كل مشهد يكون النسر الكبير الذي يغطي بجناحيه المجموعتين وأرضهما.

ويفتتح لنا المصمت الثاني بحزمة ضوئية خافتة على الرجل الأصفر وهو يطوي صفحة جديدة من الكتاب الضخم، بينما يظهر الطائر الكبير يغطي بجناحيه الأفق كله، هكذا إيذانًا بغلق حقبة وتأمين وأمان للمشهد/ الحياة حيث تعاود المجموعة الرقص وتتخلص من السلاسل الحديدية. وبرقصهم تتحول الأجساد إلى أشجار مثمرة مزهرة، أشجار الفستق الحلبي، تتمايل بغبطة غناها بالثمر، ويتحول المشهد إلى كرنفال للألوان الزاهية. غير إنّ هذا الكرنفال سرعان ما تهدده القوى الظلامية من جديد، رجال بملابس سود كالحة، والرجلان الطويلان يدخلان المشهد من جديد، ليثيرا الرعب بدخولهما الذي يشبه إعصارًا مدمرًا، فتتمايل الأشجار/ الأجساد وتنحني كردة فعل طبيعية، لقوتها. يأمر الرجل الطويل بالانقضاض على الراقصين فيسقط صريعان، الجلادان يثيران الرعب والفزع، الأجساد/ الأشجار/ الراقصون يتألمون ويشعرون بالمرارة للجثتين، بعضهم يموتون وقوفا، وشعور بالانكسار ينتاب بعضهم الأخر. الرجل الطويل يشعر بالسعادة بعد مشهد التعذيب هذا يخرج ويقوم الجلاد بوضع الأسلاك مرة أخرى، بينما يحمل الراقصون الجثتين، الضحيتين، ويسيروا بها سيرا جنائزيا حزينا نحو الأفق البعيد فتُطفأ الأضواء من جديد.

ويطالعنا في افتتاح المصمت الثالث الرجل الأصفر وهو يقلب صفحة من صفحات الكتاب الضخم حيث (تفتتح الإضاءة بحزمة دائرية خافتة على الرجل الأصفر وهو يطوي صفحة جديدة من صفحات الكتاب الضخم) ويظهر من جديد الطائر وهو يلف الأفق بجناحيه الكبيرين، ويطلق صوتًا مدويًا، منذرًا ومهددًا. حيث يسلم الرجال بالملابس السود أسلحة خفيفة لنظرائهم، وهو هنا يعلن عن حرب داخلية يثيرها ويعززها هؤلاء الرجال بالملابس السود الكالحة.  فيبدؤون بإطلاق النار باتجاهات مختلفة، وبعد أن يسلمّوا الأسلحة للمجموعة، يخرجون ويتركون المسرح للقتلى.  وبصورة أكثر من رائعة يرسم الأنباري هذا المشهد (المجموعة تضع الأسلحة على الأرض تنتظر إشارة الرجل الأصفر بالرقص، يشير الأصفر ببدء رقصة جديدة، على نغم الموشح الذي يبدأ بطيئا وثقيلا ويتحول الى الإيقاع السريع المتدفق حيوية ومرحا، تقطع رقص المجموعة أصوات طائرات حربية مقبلة بسرعة فائقة، تسقط بعض القذائف هنا وهناك تشتعل الحرائق، يتقافز أفراد المجموعة في محاولة دائبة لحماية أنفسهم. يبتعد صوت الطائرات ولا تكاد المجموعة تسترد أنفاسها حتى ينقض عليها وابل من الرصاص. المجموعة ترد بالمثل مستخدمة أسلحتها الخفيفة، بعض منهم يسقط على الأرض يتلوى من شدة الألم وهو ينزف بشدة، وبعض يصرعه الرصاص، يستمر إطلاق النار والحرائق فترة قبل أن يسود الصمت والظلام) *٦. مشهد بليغ وغنيٌّ وأكثر قولا رغم صمته كاشفا عن طبيعة القوى المتصارعة في كل مشهد. يستفيد الكاتب أيضا من تقنية العرض على الشاشة لإظهار بعض المشاهد الخاصة بالمعارك والاقتتال حيث يثير الصوت ضجيجا هائلًا بصور مؤثرة ومارش جنائزي لأطفال ونساء وشيوخ مضرجين بالدم، وبعد أن يخفت صوت الموسيقى يعود الطائر يشق عنان السماء ناهضًا من بين الحرائق هادرًا بصوته الذي تردد صداه في أرجاء المكان ليغطي بجناحيه الأفق كله ويملأ الشاشة كلها وكأنه جزء من الحدث.

 ثم يتحول المارش الجنائزي إلى مارش حماسي وينهض الراقصون والمقاتلون على إيقاعه، يتقدمهم الرجل الأصفر ملوحين بأيديهم مع الإيقاع يهبطون الى أرضية الصالة، صالة الجمهور، ويشقون طريقهم الى خارج المكان، الى حيث النور والحياة والتسامح، يتبعهم الجمهور وتفرغ الصالة من الحضور بينما يستمر المارش حتى النهاية.

هذه هي قصة صامتة لحياة لا تعرف الحدود، وجمع من الناس ينهضون رغم الألم ومن الرماد ليقولوا كلمة التسامح لبعضهم.

إنَّ متابعة دقيقة لتفاصيل النص الصامت هذا نجد إنّ التصوير السردي للحالات الانفعالية والعاطفية للشخصيات قد كان واضحا بشدة في بعض المواضع مثل:

•       نفوسهم تواقة لإراقة الدماء والتهام اللحوم البشرية

•       يقف اثنان منهم بوضع تحفز وانقضاض على من تسول له نفسه الانقضاض على الرجل الطويل.

•       ينظرون الى الضحيتين بإشفاق وشعور بالمرارة.

•       ينجو من الموت، من كان محظوظا.

•       السماح على إيقاع الرصاص ((العنوان))

إذ استعان الكاتب المسرحي صباح الأنباري بلحظات سردية من اجل ان يصف الحالات الانفعالية والفعل والحركة وبيان الميول الداخلية والرغبات من خلال وصف الحالة التي أدت دورها بشكل ممتاز من غير أن يوغل في منطقة السرد ودون أن يخرج من فضاء وحدود نصه الصامت.

 من الجميل أن تكون فكرة النص، قائمة بالأساس على رقصة. وهذه الرقصة هي للمسامحة. وينتهي النص بما يشبه الثورة والتمرد على الظلم، وهنا يمتد البناء الجمالي المتمثل بالرقص إلى الثوري، ليمزج بصورة معبرة بين ضياءين ضياء الجمال الذي ابتدأ به وضياء اللوحة والثورة والنور في نهايته.

..........................................

الهوامش:

-   المجموعة المسرحية الكاملة – صباح الانباري – منشورات ضفاف والهيئة العربية للمسرح، طبعة أولى، ٢٠١٧، صفحة ٢٩٥

-   المجموعة المسرحية الكاملة، صفحه ٢١

-   نفس المصدر صفحة ٢٠٩

-   نفس المصدر صفحة ٣٤

-   نفس المصدر صفحة٢١٠

-   نفس المصدر صفحة ٢١٢