صراخ الصمت الناطق

قراءة في كتاب الصوامت

        

مشتاق عبد الهادي



  
إذاً ... هو اقتراح الصمت. ليس الصمت الذي يقتصر على كلمات العيون، أو تعابير الوجه. إنه صمت يتخذ من حركات الجسد حنجرة لصراخه. صراخ مصحوب بشهقة اللحظات التي تتنقل بين الجمل الصامتة وتعلنها ضربات الطبول، والتماع الصنوج، واسترسال الجملة الصامتة من خلال الموسيقى، أو ربما الهمهمات، وكذلك توهج أو خفوت الأضواء.

جاء صباح الانباري بصوارخه الشعرية ليتفرد في خلق جملة حركية شعرية صامتة يؤجج صرخاتها صمت الأنثى، وركوع الرجل. إنها قصة حياة شعرية صامتة أكاد أن اجعل حديثي عنها شبه شامل، ويختص بفردانية الوصف الناطق من خلال بث شخوص، أو بالأحرى هم كائنات توصف بالذئاب والكلاب البشرية.

 أنا أحاول من خلال قراءتي الخاصة لـ (كتاب الصوامت) للمخرج والكاتب المسرحي المبدع صباح الانباري الصادر عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر عام 2012  أن ابتعد قدر الإمكان عن حركات، ولغة المسرح التي أسهب زملائي المبدعين في الشرح والتحليل الخاص بها. أنا الآن أتصفح قصيدة صامتة تفض بكارات صمتها جملا شعرية ووصفية صارخة تتمحور في المكان المقترح مسبقا لحركة الشخوص، واقصد ديكور المسرحية، والإتقان الحرفي الذي مارسه الأستاذ صباح الانباري كونه ألف صوامته الصارخة بعقلية كاتب مسرحي امتهن الشعر، والإخراج المسرحي. لذلك نراه يعرف متى أو أين ينبثق الدم، أو كيف تخفت تلك الأضواء .

يبقى أن أناقش الجمهور أو القارئ المقترح لمسرحيات صباح الانباري الصامتة: هل كتبت هذه الصوامت أو الصوارخ لجمهور النخبة ...؟ واقصد به القارئ أو المشاهد الذي يتمتع بثقافة عامة، أم إنها كتبت لنخبة النخبة ...؟ واقصد في ذلك المشاهد أو القارئ الذي يختص بالمسرح وثقافاته الواسعة. اعتقد إن هذه الصوامت والصوارخ كتبت لكليهما إذ تمكن الانباري من خلال الحركات، والأصوات، والديكور أن يلبي رغبة النخبة، ونخبة النخبة فقط. ومن غير المعقول، أو حتى من غير المستحب لدى مبدعنا الكبير أن يسعى لاسترضاء، واجتذاب أصحاب الذائقة الضحلة المتمثلة بجمهور المسرح المبتذل الذي يجتذب الآلاف من المهووسين ببهلوانيات السيرك، والعاشقين لتموجات الأجساد الرجراجة التي اعتلت مسرح الأقزام والغجريات.


إن أستاذنا الانباري قدم لنا من خلال صوامته مسرح نخبوي يرتقي بمتابعيه إلى أعلى درجات السلم الإبداعي. وليست مشكلة الانباري أن لا يخص بمسرحه المتفرد أناس أرادوا لأنفسهم الاستقرار في أسفل السلم إن لم اقل هم في هوة تمتد في بواطن العتمات .
ختاما اشد على يد المبدع صباح الانباري الذي أضاف للأدب المسرحي العراقي، والعربي إبداع تفرد به، وكم أتمنى أن تبث آلهة الإبداع الروح في فكر وأقلام المترجمين ليقدموا إلى الآخر إبداعا تفرد به مبدع منا، وفاز بالريادة في تشذيب هذا الجنس المسرحي الخطير. ومثلما اعتنق أستاذي الانباري هذا الصمت الصارخ الجميل أتمنى أن يعمم الصمت على مشهدنا الثقافي، واقصد بذلك الصمت الإبداعي ليشمل العديد من أجناس الأدب الأخرى والتي صارت واجهة إعلانية للإسفاف، والتسويف، والتكرار، والانحدار الثقافي ونحن نعلم جميعا بان المرء إذا ما تمادى في اللغو الغير مجدي يصرخ به من قبل الجميع إن ... (اصمت) هكذا أرسل المبدع صباح الانباري رسالته المشفرة لتكون صرخة صامتة، ومدوية تهز عروش الديناصورات الثقافية في العراق. انه يوجه رسائله الصامتات إلى الكل ولكنه يخص بها ظاهريا، مسرحنا الذي صار لا ينطق إلا كفرا ، هذا على ما اعتقد مفتاح اللغز لصوامت صباح الانباري.

إنها صرخة إبداع صامتة في صميم اللغو الذي صار بذيئا ولا يطاق .