رمز الطلقة الأخيرة
في مسرحية صباح الأنباري (اطلاقة واحدة حسب)
صالح الرزوق
يتابع صباح الأنباري جهوده في تطوير أدواته المسرحية. وفي نصه الاخير، وهو
مونودراما مستوحاة من واقع الأحداث الدامية في بلده العراق، وعنوانها (إطلاقة واحدة
حسب) يقترب من مشكلة العنف والعنف المضاد، أو ما يسمى ثنائية الهدم والبناء. وذلك
من خلال قصة عسكري تنسحب كتيبته ويبقى وحيدا في مواجهة فصيل من المسلحين ومعه ست
عشرة طلقة فقط..
وإذا كانت فكرة المسرحية مألوفة وعادية ولها في الذهن قرائن (مثلا الطلقة الواحدة
والاربعون لبونداريف والتي تلعب بالفكرة نفسها- مقاتل ضد جيش عرمرم) فإن أدواته
وخطابه على خلاف أساسي مع من سبقه.
تعتمد المسرحية على مفهوم التقابل بين الرموز والصور. ورموز المسرحية ليست كثيرة
وهي أقرب ما تكون للاستعارة؛ فالأنباري ابتعد عن تسمية الأعداء بأسمائهم وأشار لهم
عدة مرات باسم الجرذان السود، مثلا يقول: يحيي ذلك الرجل الجرذان السود، ويقول
أيضا: الموت وقسوته الرهيبة القادمة مع أولئك الجرذان. وأحيانا يكتفي بتصويرها بشكل
جامد (دمى سود قاتمة وكئيبة)، أو بشكل طوطمي يتشابه مع هياة الماعز بالوجه الطويل
والشعر الأشعث والعثنون (وهو رمز فرويدي من رموز إبليس.
لقد فعل ذلك كامو في الطاعون حين ربط الموت الجزافي في وهران على سواحل المتوسط
بموت القوارض الرمادية القادمة من تحت الأرض، من سراديب وظلمات لا يمكن للإنسان أن
يتصالح معها. وكامو، بدوره، كان يحذو حذو سارتر الذي رمز للموت بفكرة الجدار،
وللحياة العبثية في مجتمع فاسد وميت بفكرة الغرفة.
ومع ذلك أرى أن استعارة الأنباري تأتي من خارج هذا السياق؛ فمفرداته وأفكاره لا
تأتي من حصيلة تفاعل الوجود مع العدم (في نموذج سارتر)، ولا من حدود التجربة (عند
كامو) حيث أن الحرية لا يمكنها أن تتفاهم مع اللاجدوى والعبث وأضاليل القانون.
لقد كنت دائما أعتقد أن الانباري مفتون على وجه الإجمال بالرعب والجانب الأسود في
الحياة، ولا يخلو نص لديه من جريمة، أو اعتداء على حياة بريء. والإشارات لا تعد ولا
تحصى في هذا النص، من ذلك قوله: رحلتي الأبدية ستعزلني عن هذا العالم المليء بالشر،
والظلام، والظلاميين، وأنا العارف أن أمي ستبكي عليّ بدموع من دم، أو قوله: رهبة
الموت التي تتربص للانقضاض على الأرواح الهائمة في شوارع الموت المدلهمة التي اختلط
سوادها الحالك بحمرتها الدموية القانية. وقوله أيضا: لحظات الموت مريبة ومربكة
فالموت ليس بأكثر من نقطة صغيرة جداً، ولكن لها القدرة الهائلة جداً على نقل الروح
من عالم حيوي مبهر إلى آخر خامل ولكن أكثر إبهاراً.
وأكاد أرى في تلك العبارات والصور أصداء من الأدباء غير التنويريين في عصر النهضة
المتأخرة لأوروبا، وبالأخص أدباء الرواية القوطية. لا سيما الذين أبدوا مرونة عجيبة
وخيالا خصبا في ترميز الشر والظلام. ويمكنك العودة إلى شريدان لي فانو مؤلف (العم
سيلاس)، أو برام ستوكر المعروف بروايته المشهورة (الكونت دراكولا). كلاهما كان يؤنس
الجرذان والقوارض. ويشخص هذه الحيوانات المدينية التي لا تتحرك إلا في الليل الدامس
أو في السراديب والأقبية. لقد اهتم أدباء أواخر الثامن عشر وبدايات التاسع عشر
اهتماما منقطع النظير بهذه الأماكن (الخرابات والقلاع القديمة والأنفاق)، ونظروا
إليها كبيئة حاضنة للشر والفساد والنوايا المريضة، وأضافوا لفلسفتهم عن المكان رؤية
شخصانية وملموسة للروح الشريرة. فهي قد تأخذ صورة كائن بشري منبوذ كالساحر
والعراف والأبله والمصاب بالأمراض المعدية، أو أنها تكون بشكل طير يتحسس منه
الإنسان كالبوم والخفاش، أو حيوان له موقع منخفض في سلم التطور و لو أنه من
الثدييات كالفأر والجرذ.
***
غير أن حساسية الأنباري لعناصر الرعب لم تكن نفسية ولا اجتماعية فقط، ولكنها ذات
بعد سياسي أيضا؛ فالحبكة في أدبيات ستوكر تركز على الغرائب أو الخيال العجيب
والمتطرف، ولا تخلو من فراغات لا يستوعبها المنطق، بينما تذهب عند الأنباري في
اتجاه تضاد وتقابل، ودائما نكون أمام أشرار ضد فكرة أو حالة. وهذا هو مجمل لعبته
الفنية في المونودرامات التي نشرها تباعا في السنتين الأخيرتين.
وحتى في حال أن الشخصية من غير العاقل (شجرة في حديقة الأمة أو تمثال في ساحة
الحرية)، فإنه يقدم لنا الحبكة وكأنها تجري في سياق سيرورة حلمية، فيها يرى
المونولوج نفسه بصور ورموز جامدة، ومن ورائها يكون صوت الفكرة، أو الحكمة هو البطل
الفعلي. ودفعه ذلك إلى أن يتمايز أيضا عن مجايليه من أنصار الواقعية البسيطة التي
تحض على النهاية الإيجابية والتفاؤل، ولا سيما الأدباء السوفييت.
إن الوعي اليائس والإحساس بالضعف البشري والوهن في نصوص الأنباري يضع المشكلة في
إطارها الصحيح، وهو التخلف والفساد. مع التأكيد على لمحات من البطولات الفردية التي
لا يخلو منها مجتمع. وبهذا المعنى يكون أقرب في نهاية مسرحيته للمشهد الختامي من
رواية همنغواي (لمن تقرع الجرس)، أو من قصة السوري فارس زرزور (حتى القطرة
الأخيرة)، والتي يواجه فيها مقاتل في سبيل الاستقلال مجموعة من المحتلين الفرنسيين،
فهذه الصيغة المؤجلة للموت تتوفر على شرطين مهمين، هما التطهير بالاستبسال والنهاية
المفتوحة. وهي صيغة لا تخلو من المجازفة، وتضعنا مباشرة أمام التفسير الفرويدي لسرد
العائلة؛ فالخيال عند فرويد لا يأتي من فراغ، او نشاط يتحرك تحت الكسل الذهني، بل
هو مثل الأحلام خزان للخبرات والتجارب التي تمر بالإنسان.
ولمزيد من التوضيح.. إن النهاية المفتوحة والتي تخلو من الجزم، وتترك الأمور في
مساحة غامضة من التكهنات، تعبر عن صراع بين حالة وجودية تحتاج لاتخاذ موقف. ولكن
يبدو أن هناك خطوط عزل بين مسرح الأحداث وموقف أبطال أعماله؛ فقد اختار أن ينتقل
بالمشكلة من المسببات إلى الشروط. وبتعبير آخر اختار أن يواجه الأزمة وهو خارج
المكان؛ فقد كتب عن الحرب ضد داعش، وهو في أديلايد مثل همنغواي. كانت كل رواياته
الهامة إعادة كتابة وتفسير للخلاف بين الأخلاق والسلوك والتقاليد، ولكن باستعمال
أداة التحويل، فكتب عن الأمريكي الذي قاتل الفاشية، وكأنه يقول مع فرانك كيرمود إن
دافع الحب انتهى دوره منذ بدأت المواجهة. ولكننا نحاول إرغامه على الاستمرار في
عمله، ولذلك لا مفر من الفوضى والقتل…
حزيران ٢٠١٥