جبل تفيأنا بظلاله الوارفة

 صباح الأنباري كاتب متعدد الأنساق

مؤيد داود البصّام

صباح الانباري كاتب متعدد الأنساق وهو واحد من مجموعة أصدقاء عرفتهم في مدينة البرتقال (بعقوبة)، منهم سعد محمد رحيم وفاضل التميمي وعبد الحليم المدني وسليمان البكري وسالم الزيدي وإبراهيم الخياط والقيسي والمرحوم مؤيد سامي والحلاج وصلاح زنكنة.. وتحسين كرمياني…. إلخ وكلهم مبدعون وعند زيارتنا لهم، لحضور الندوات مع صديقي شجاع العاني وصديقنا المرحوم سعد عبد المجيد تلميذ شجاع، الذي كان أستاذ في جامعة ديالى، كنا نلتقي بعض الأحيان صديقنا القديم المبدع محي الدين زنكنة موضوع الدراسة، وأبو آزاد قليلا ما كان يحضر ندوات اتحاد الأدباء فرع ديالى، التي كانت زياراتنا أكثرها لحضور ندوات ولقاءات في مقر الاتحاد بناية السراي القديم، وفي إحدى زياراتنا قال صديقنا شجاع العاني، نحن مقصرون بحق صديقنا محي الدين زنكنة، وكانت أول زيارة التي اصطحبنا إلى بيته صديقنا الروائي سعد محمد رحيم، فاتحة لزيارات ولقاءات متتالية، ومبدعو ديالى منهم من كان أختص بنسق فكري أو أدبي، ومنهم مثل صباح الانباري تعددت لديهم الأنساق يمتلكون هذه الميزة ويبدعون في المجالات التي يقدمون نتاجهم فيها، وعندما ندقق سنجد أن هذه المجموعة تشكل مجموعة أصدقاء تعايشت وتربت في هذه البقعة، وشكلت حضورها بعلاقة ابتدأت في جو ثقافي، كما سيورد بعضها الصديق القاص عبد الحليم مدني، وقد أنتج صباح الانباري مجموعة إعمال كان للمسرحية الصائتة حيزا مهما في إنتاجه تأليفا ً وتمثيلا وإخراجا ، إلى جانب الأرشيف لإعمال محي الدين زنكنة، الذي جمع وكتب وحلل إنتاج أستاذه كما يسميه، وهي ميزة طبعت أعماله بهذا الإخلاص لصديقه وأستاذه، المبدع الراحل محي الدين زنكنة، وما أدراكم من هو محي الدين زنكنة، هذا الرجل الصامت، بسحنته الجادة، التي تتحول عنده الكلمات والجمل إلى ثورة عارمة من الأفكار التي يغدق علينا بجودها وتحيلنا للحظة تأمل ودهشة، وانتفاضة عاطفية وعقلية، منحه صباح الانباري جهدا ً يستحقه وعملا ً رائعا ً يوقفنا لاحترام هذا الجهد للصديق والمعلم، وأن كان كتاب ( الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة )، هو جزء من ثمرة الجهد العام الذي قدمه صباح لأستاذه وصديقه، عبر زمالة أخذت سنين ليست بالقصيرة من الدرس والمتابعة، فهو بحق الوفاء الذي عرفته في مجموعة مدينة البرتقال بعضها لبعض وتصدرها المبدع فاضل عبود التميمي في إخلاصه للهم الثقافي والمثقفين، كتب المقدمة د. عبد الحليم المدني، موردا ً الذكريات الجميلة التي جمعته بالراحل المبدع محي الدين زنكنة، منذ عام 1967 ، والمفارقة الجميلة إن اللقاء جاء عبر تجمع ثقافي في احد بيوت الأصدقاء من مدينة البرتقال، وهكذا تنبني هذه العلاقة على أساسها الثقافي وتنمو ضمن هذا الحس الفني. كتاب الجبل الذي تفيأنا بظلاله ، جاء ب 118 ص من القطع المتوسط، أضاف المؤلف مقدمة توضيحية قصيرة عن سبب كتابته عن المبدع محي الدين زنكنة، ” انطلقت كتابات محي الدين زنكنة فكانت قريبة من الناس ومعاناتهم، ومن الفقراء وهمومهم، ومن الأطفال وتطلعاتهم، ومن المرأة ومكابدتها، ومن الشباب وجماحهم نحو عالم لا تسلب فيه الحريات، ولا يستغل فيه الإنسان أخاه الإنسان. هو الذي رأى كل شيء، ودون كل شيء، ولفت الانتباه إلى مدوناته منذ كتاباته الأولى التي رسخت صورها في أذهان القراء، والنقاد، والدارسين، والباحثين وستظل إلى زمن لا أحد يستطيع تحديده بالضبط، فكتاباته في بلادي كما هي كتابات شكسبير في بلاده، كثيرة، وغزيرة، وعميقة في التصاقها مع الواقع المعيش. ” ص21 . يروي صباح الذكريات من لحظة لقائه بصديقه وأستاذه زنكنة في تصوير جميل، علاقتهما منذ بداياتها الأولى، مع اعتراف رائع يتسامى فيه صباح الانباري، ليعطي درسا ً لمن يهمش من تعلم منهم وتأثر بهم، وكأنه خرج من فطر الحائط واحدا ً أحد، لم يتأثر ولم يؤثر فيه أحد، فيدلي باعتراف رائع  لكنــني كتلميذ طموح ومجد من تلاميذ زنكنة الأستاذ والصديق سعيت دوما ًإلى أن يكون لي أسلوبي الخاص، وطريقتي المتفردة في الكتابة، وأن لا أكون نسخة أخرى لهذا المبدع الكبير. ” ص26، وخلال هذه الصفحات في العناوين التي وضعها لهذا السفر الرائع يعيد تصوير بهاء هذه العلاقة ومدى ما أثرت فيه، والكتابات التي نشرها في الصحف والمجلات، وآراء الأدباء والكتاب، في كتاباته التي ظنوا أنها كتابات أستاذه محي. أن الكاتب صباح يسترسل في الحديث وفي تدوين اللحظات الحرجة في حياته وحياة محي الدين زنكنة الثقافية، وتوجهاته الفكرية، وكتاباته الإبداعية، ولعل العناوين التي أوردها، توضح ما أراد أن يقوله: (الدرس الأول زمرة الاقتحام / شبيه زنكنة غير الشبيه / هذا هو محي الدين زنكنة / جبل التواضع الأسطوري / زنكنة شاغل الوزارات الثلاث / بوابة الدخول إلى زنكنة )، محاولا خلالها نقل ما يستطيع من تذكر كل ما كان يحيط بعلاقتهما، وعلاقتهما بالأصدقاء والحياة الثقافية في مدينة البرتقال، والساحة الثقافية العراقية عموما، ثم يستمر في أيراد الأبواب التي تكمل القيمة الثقافية والفكرية التي قدمتها هذه العلاقة للثقافة العراقية، متوجا ً إياها بأول ببلوغرافيا متكاملة، عن مبدع عراقي بهذا الإسهام الرائع، وفي الفصول الأخرى، يقدم كيفية التعامل مع فكر وإبداع زنكنة،  (بوابة الدخول إلى زنكنة /درس في مراوغة الرقيب/ جراد محي الدين زنكنة / في الطريق إلى المنتجع / يوم محي الدين زنكنة / ذاكرة المكان .. كاورباغي ) للوصول إلى كيف فرض أدب محي الدين نفسه لينال معظم جوائز الدولة، وهي أعلى جائزة وضعت وقتها للأدب المسرحي، في السنين ما بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ويحدثنا عن حبه وشغفه بالمدينة التي عاش فيها، “،لقد أحب زنكنة مدينة البرتقال (بعقوبة) أكثر من أي مدينة أخرى فقد أمضى فيها ما يقارب 36 عاما ً تداخلت خلالها ذاكرته بذاكرتها، وفرحه بفرحها ومعاناته بمعاناتها، وآلامه بآلامها وأتراحها، وفيها ابتنى مجده الإبداعي الهائل ولهذا تراه يا صديقي يبكي لها ويتأوه من أجلها. ” ثم يورد إحدى نتاجات زنكنة ورأيه النقدي فيها، أن كتاب (الجبل الذي تفيأنا في ظلاله) من الكتب المهمة لأنها تنقل تفاصيل العلاقات الثقافية، بين المبدعين ووجهات النظر في إنتاج بعضهم البعض الآخر، إلا إنني أجد في بعض المواقف الكثير من التحامل في وجهة نظر صديقي صباح الانباري، عن الموقف الثقافي للنظام السابق تجاه المبدع محي الدين، فبالرغم من موقفنا من النظام السابق، إلا أنه والحق يقال، كرم مبدعنا بأعلى جائزة وهي جائزة الدولة، وطبع كتبه، ولو كان هناك موقف متشدد، كان يمكن إن تمر الجائزة الأولى وتعرقل في الثانية، ولكن هذا لم يحصل فقد نالها عدة مرات مما ينم إن الموقف لم يكن بهذه الحدية منه، وقد قدمت عدة  رسائل وأطارح عن إبداعات زنكنة، في الجامعات العراقية، طلب مني في إحداها الذهاب إلى مدينة الحلة، هناك لحضور مناقشة أطروحة ماجستير عن مسرح محي الدين زنكنة، وذهبنا وكان بمعيتنا صديقنا الراحل الشاعر محمد علي الخفاجي، واستقبلنا المرحوم قاسم عجام، وكان واحد من أعضاء اللجنة د. محمد أبو خضير، ولو كان للنظام تشدد تجاهه، لمنع كتابة الاطاريح والرسائل، خصوصا إذا عرفنا إن النظام السابق كان يتمتع بمركزية صارمة. وهناك نقطة مهمة يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار لنظرة النظام السابق ومثقفيه، تجاه كتابات الراحل محي الدين زنكنة، أنه كان يكتب آلام البشرية عموما ً، والإنسان المحروم في عالم الرأسمال والاحتكارات، كان يدافع عن قضية عالمية، تنطبق في كل وقت ومكان وعلى كل إنسان مضطهد ومحروم، أنه كان يتحدث بلسان الأكثرية في عالم الاستغلال والجشع، ولهذا لم يكن هناك موقف رسمي ضده، أو تحريضي يبنى عليه. يبقى كتاب (الجبل الذي تفيأنا بظلاله) ليس جديرا بالقراءة حسب، وإنما يشكل أهمية للمكتبة الثقافية والحراك الفكري، لأنه يميط لنا اللثام عن جوانب مهمة من الحياة الثقافية في مدينة البرتقال والساحة الثقافية العراقية، وعن حياة المبدعين محي الدين زنكنة وصباح الانباري.