تحولات في المسرح - قراءة في أعمال صباح الأنباري
صالح الرزوق
يراهن صباح الأنباري في سلسلة
مسرحياته الصامتة، الصادرة في بيروت عن دار ضفاف والهيئة العربية للمسرح في مطلع
عام 2017
(1)،
على تبديل فكرة المسرح وتحوير عمودين هامين من أعمدة هذا الفن، وهما الحوار
والتطهير أو الكاثاريسيس.
بالنسبة للحوار. من اسم النوع تفهم أن الشخصيات غير ناطقة، ولكن من قال إن التواصل
محدود بالكلام؟.
فالتحاور شرط مسرحي، مع ذلك لا توجد لهذا الشرط فروض مسبقة، فأدوات الكلام يمكن أن
تكون بالإشارة أو الصورة أو الحركة، بالإضافة إلى اللسان. وكما يقول مارسيا جيد: إن
التواصل بالعين طريقة مؤثرة لتشكيل المعنى، ويمكن أن تعطي انطباعات شخصية عن نفسك
لو امتلكت زمام جسدك
(2).
وتضيف الأكاديمية البريطانية ثلاث أدوات تعبير هي:
- المفسرات مثل طريقة الجلوس أو حركة الرأس.
- والمنظمات التي يلجأ إليها المستمع لإنهاء حوار أو للاستمرار به.
- ثم الحواجز التي يختبئ وراءها المتكلم لو تعرض للإحراج.
ولا يفوتني هنا أن هذه المسرحيات، كما ورد في المقدمة، توظف حركة الجسد والايماءة
والإشارة لإقامة حوار مع موجودات العالم ولتوصيل معنى إلى جمهور النظارة (ص12).
أصلا خضعت اللغة على مدار تطور البشرية لعدة مراحل وأطوار، وكان التكلم هو خاتمة
هذه المراحل. وباعتبار أنه نتاج وضعي
يمكن أن تتوقع في أية لخطة الانتقال لطور آخر. وعلم السيميولوجيا أساسا يعتمد على
لغة الإسقاط والصور، ومنها إشارات المرور وخرائط الملاحة والتي تتحكم بحياتنا أكثر
من الكلام ذاته.
وباعتقادي إن المسرح فن تفاعلي. ولا يعتمد على الحوار فقط. وغيابه ليس نهاية
الحكاية. ولدينا ألف طريقة للتأثير بعقلية المشاهد. ولو ضربنا مثالا من عالم
الموسيقا والغناء إن توزيع الكلمات له مدلول بحد ذاته، وقد يبدل من الرسالة
الأساسية أو فحوى الكلام.
ومسرحيات الأنباري لا تخلو من وسائط نوعية كالتماثيل، أوقطع الديكور ذات المعنى
الطقوسي كالزقورات والقبور. أضف لذلك المشاهد التي تنقلها لنا شاشات ضخمة، فهي تشكل
خلفية للحبكة كما في (ابتهالات الصمت الخرس) أو كما في (قيامة ليزرية) و(السماح على
إيقاع الرصاص). حتى أن هذه المشاهد يمكن مقارنتها بالجوقة في المسرح الكلاسيكي. فهي
جزء من ذات الكاتب الإبداعية. إنها لا تكتفي بتوجيه أسلوب تفكيرنا، ولكنها تصادر
على أسلوبنا في التأويل. بتعبير آخر هي رقابة من المؤلف على الأداء والتفسير. وبلغة
فوكو هي سمة بنائية تحول التمثيلات في اللغة إلى تمثيل مضاعف كالتالي:
صورة – رمز – لغة. ولا ضرورة للاستطراد. إن كل هذه الأدوات هي حامل لمحمول وهو
المعنى.
لقد كان الحوار شرطا من شروط الدراما، إنما لم يحدد أحد إمكانياته أو أسلوبه، ويمكن
أن أضرب هنا مثالا من توفيق الحكيم، فقد رأى أن الدراما العربية بدأت مع نوادر
البخلاء للجاحظ. وفي أحد الأعداد القديمة لمجلة (الرسالة)، التي كان يديرها المربي
الأستاذ أحمد حسن الزيات، مشهد مسرحي بقلم توفيق الحكيم أعده باقتباس حكاية من
نوادر البخلاء، في محاولة منه لإثبات أن المسرح فكرة ونوع وليس ثيابا جاهزة ومسبقة
الصنع.
وهناك أكثر من وجهة نظر تشير أن الجاحظ كاتب درامي حتى لو أنه لم يكتب تمثيليات
(والكلام لشوقي ضيف)
(3).
وفي المواقف والمشاهد التي كتبها خميرة لفن المسرح. فهي تنطوي على حبكة ونقطة
تنوير.
وإذا كان بمقدورنا أن ننسب بكل سهولة القصائد النثرية للشعر الكلاسيكي، الذي نسميه
ديوان العرب، لماذا لا نسمي المشاهد الدرامية بمسرحيات صامتة؟. ولا أعتقد أن
الحوارفي الدراما له دور أهم من
البحور في الشعر.
إن عمود القصيدة الجاهلية هو الوقوف على الأطلال ووصف مشاق الرحلة ثم الدخول في
الموضوع من هجاء أو مديح. وعمود المسرحية الكلاسيكية هو وجود شخصيات بينها تناقض
يقودنا إلى نقطة تنوير المشاعر والعلاقة مع الذات والعالم، وكل هذه الشروط متوفرة
في مسرحيات الأنباري. أصلا إن مسرحيته (الالتحام في فضاءات الصمت) هي تحويل لقصة
قصيرة من تأليف الدكتور عبد الحليم المدني، والجديد فيها هو اقتران القراءة مع
المشاهدة (ص 32).
إن الحوار في صوامت الأنباري غير مباشر. وهو بين ثنائيات (كما هو الحال بالتقابل
والتضاد). وهذا معروف أيضا في الشعر
والرواية. فقصائد الأمريكي المعاصر جون أشبري كلها مبنية على المقارنة بين الطبيعة
العذراء والمدينة الصناعية. ولا تخلو قصائده من مديح لأيام طفولته البريئة في
الأرياف وذم لعذاب وشقاء أيام شبابه في المدن. وهذا الحوار لا يستعمل الكلام
المنقول، ولكن الاستعارة والكناية. كالتقابل مع صور في الذاكرة وصور تراها العين.
وهذا له علاقة بفلسفة الذاكرة وعلاقتها بالنسيان وترميم الماضي. أو كما يقول الناقد
حمزة عليوي: مثل هذه التراكيب تتألف من وحدات سردية، نصفها دال ونصفها مدلول.
وهو ما يفعله الأنباري مع إبدال بسيط. ولنضرب مثالا عمليا من مسرحية (دولة السيد
وحيد الأذن).
يتدرج الصراع فيها من العلة الاجتماعية إلى الخطأ السياسي (ص 282). وهو ما يترجم
نفسه بصورة أعصبة وميول عدوانية. ويقوده في النهاية إلى تصوير ثنائية تضاد. العولمة
من طرف (ص 282) وقارع الطبل الجوال المحلي من طرف آخر (ص 284).
اما بالنسبة للتطهير.
فالتعديلات التي لحقت به في هذه النصوص هي مثل التعديلات التي ألحقها لاكان بفرويد.
لقد تحول التفسير النفسي إلى تركيب لعقدة الذنب. بمعنى أن تفكيك العواطف انتقل
لمرحلة تكوين البنية. وهذا فرق شديد الأهمية. وهو برأيي يشبه النقلة الهامة للعقل
من الانصياع للعاطفة إلى تحفيز و تحريض الانفعالات.
وأعتقد أن التبدل لحق بالهدف كذلك.
فالكاثاريسيس فيض بشري لعاطفة إلهية.ويتحكم بها الإيمان القديم بطراز تعدد الآلهة.
فلكل وظيفة طبيعية طقس ولكل طقس إله. في حين أن التطهير في فكرنا الحديث هو وعي
إدراك بالفاجع ووسيلة لتفسيره إن لم يكن لتغيير نوعية تصوراتنا عنه. فالمأساة في
الدراما الحديثة تنبع من وعينا بالعجز المرافق للهوية أو الانتماء.
وللتوضيح.
يمكن العودة إلى نص (طقوس صامتة). إن الوعي بالمأساة عرفاني وناجم عن صراع بين
غريزة الاستئثار والأنانية عند
الجلاد وغريزة البقاء عند المرأة (تعبر عنها المرأة الهاربة – ص 65). بينما وعي
المأساة في أوديب غنوصي، ويأتي نتيجة خطأ في الحياة، وليس في التوزيع. وأعتقد أن
أوديب حين ألحق العقوبة بنفسه عمل على تحرير المكبوت وليس على تفسيره. وهذا هو
الكاثاريسيس الإغريقي. لكن في مجمل مسرحيات الأنباري لا توجد عقوبات لسبب بسيط، أن
القانون لا وجود له. ولكن لدينا نظام تضحية إجباري يحل محل طقس التهام القربان
المقدس، وهو برأيي نوع من القسر في وعينا بمبدأ التضحية. وهذا هو أقسى أنواع
الوعي..
أن تفرط بما لا تريد خسارته.
ويمكن لمسرحية (آلانيون) أن تكون أفضل مثال. فالأم لا تضحي بإلقاء ابنها في المياه
( ص 277) لأنه ثمرة من ثمار الفاحشة،
ولكن لأنها مضطرة للاستسلام للعناية الإلهية.
لقد كانت المشاعر فردية عند الإغريق، وتنبع من مصدر ميتافيزيائي. أو أنها تعبر عن
المشيئة الإلهية الجبارة أو القدر. سمها ما شئت. فهي طاقة مفارقة ومنفصلة ولا قدرة
لنا على تبديل المدار الذي تأخذه حول صراع الرغبات. غير أنها في أعمال الأنباري
نمطية، وتضع فئة أمام فئة أو غريزة أمام غريزة مضادة وأحيانا مبدأ أمام مبدأ معاكس
كالليل أمام النهار، والعدل أمام الظلم، والشيخوخة أما الشباب، وفي النهاية الطغيان
أمام حرية الموجودات...
ولذلك تحولت جريمة نحر الإله على يد أوديب، وهي استجابة لتحقيق مبدأ إشباع اللذة،
إلى رهاب الأبناء عند الأنباري. وهذا ما تسبب بأنهار من الدم.
وعليه إن محور هذه المسرحيات ليس الحركة والصمت ولا المشاهد التي يسميها الكاتب بـ
"المصمت"، ولكن التناوب بين غريزة الموت والحياة، فكل مسرحية تقوم على التوازي
الافتراضي بين الأقطاب الأساسية. وهو ما يفعله المسرح الطليعي عموما. وأضرب مثالا
على ذلك بمتوالية (مالكو) لأحمد يوسف داود
(4)
و(أصحاب المفاتيح) لميلان كونديرا.
إن سياسة نفي السابق باللاحق يقودنا لتشكيل وعي خاص بالانفعالات وليس بالغرائز.
ومشكلة مالكو كانت مع نفسه. فهو لا يهتم لسقوط تدمر في أيدي الرومان بقدر إحساسه
بانعكاس ذلك على ظروف حياته. وكذلك هي مشكلة كروتا وخادمه يرجي في (أصحاب
المفاتيح). لا يوجد اهتمام بالنظام ولكن بفوائد الهرم الاجتماعي المسموح به.
وأنا أقرأ ذلك على أنه انفعالات وليس عواطف. أو أنه إدراك وليس معرفة. ويأتي من
داخل التجربة المعاشة.
وإن ما يسميه الأنباري، في المقدمة، بمتلازمة التأثر والانفعال
عند اسخيلوس (ص 14) هو عبارة عن وعي إدراك برموز الانفعالات.. ما هو مصدرها، وكيف
تعمل؟؟!.
وإذا تابعت موضوعاته لن تجد مقاربة مطلقة للرموز والتصورات، كما هو الحال في إبدال
المصادفات المستحيلة عند يوريبيديس، أو في تحويل عقدة أوديب من الأب إلى الطبيعة
الإلهية كما في (هاملت). فهو يفسر الغرائز بشكلها النفعي: السلطة بحب التملك،
والاغتصاب بمشكلة الحرمان، والمعجزات ببحث الإنسان عن إدراك المعرفة، وهكذا.
بالنتيجة إن المسرح الصامت يزيد من مقدار المعاناة، ويضاعف من الخزين أو الخبيئة،
ويحول الشعور إلى انفعال أو تعبير عن انفعالات ضمنية ومستترة. وكما قال سارتر:
الانفعال يقبل الترميز والصياغة بينما العواطف تكون عامة وجارفة وغير نوعية.
وبتعبير آخر العاطفة هي منبع ذاتي وغير موضوعي للمشاعر. بينما الانفعالات هي لاشعور
معرفي يساعد الوعي على فهم العقل
وطريقة عمله. وبالتالي إنه يدل بطريقة نوعية على كل نطاق الشعور، أو أنه يدل على
الواقع الإنساني برمته (كما يقول سارتر أيضا) (5).
..............................................
1- المجموعة المسرحية الكاملة، المجلد الأول: المسرحيات الصوامت، منشورات الهيئة
العربية للمسرح بالتعاون مع دار ضفاف، الإمارات وبيروت. 2017. 312 ص. وأرقام
الصفحات تحيل لهذه المطبوعة.
2- أساسيات لغة الجسد، مجلة تاتو، دار المدى، بغداد، آذار 2014.
4- مالكو شخصية وردت في مسرحية من جزئين هما (الخطا التي تنحدر) وصدرت عام 1972
و(مالكو يخترق تدمر) الصادرة عام 1980.
5- نظرية في الانفعالات ،
مهرجان القراءة للجميع، القاهرة، 2001. ص 39 .