المبني للمجهول في مسرح صباح الأنباري
بقلم : صالح الرزوق
تحتل صيغة المبني للمجهول (أو اللامحدد) مرتبة متقدمة بين الخطوط العريضة لمسرح صباح الأنباري، فهي المسؤولة عن تحويل الحركة والواقع إلى نشاط عاطفي وذهني، ثم إلى رموز عامة.
ولذلك تتحول الشخصيات من أبطال أو لاعبين على خشبة المسرح لشرائح وإشارات الغاية منها التعبير عن الطبيعة الضمنية لفئة من المجتمع. على سبيل المثال: الأطفال المجنحون يرمزون لفئة من الأبرياء كأنهم إبدال لصورة الملائكة الأطهار. وأنكيدو وجلجامش يرمزان لمعنى المقاتل والأب الطيب على التوالي. أما خمبابا فهو الطاغية. بينما الغابة هي المجتمع الشرير المعاصر وكأنها نفس الرمز الثابت الذي يعكس قيمة تفيد التدمير والاغتراب كما فعل الفرسان الصعاليك (1). وبشكل عام إن لاسم الصفة في هذه المسرحيات نفس معنى الاسم الدال على النوع. ومن الواضح أنها صفات تميل للوجه الباكي من فن المسرح.. الوجه الذي يذرف الدموع فقط.
لقد ترك هذا الأسلوب من المجاز في الدراما مجالا مفتوحا للقارئ فما بالك بالمخرج. لا شك أصبح عبء نصف التأويل من مهماته. وهذا بعكس التقاليد المرعية في الفكر الطبيعي الكلاسيكي المرهون للعقل وليس الشعور، والذي لا يترك شيئا للصدفة والاجتهاد.
وترافق ذلك مع جملة إجراءات أخرى من أهمها ( سوى حذف عناصر الملهاة الضاحكة) غياب أدوات أساسية لا مناص منها.
أولا وفي المقدمة تفاصيل الديكور، وهذا يعني أن نقوم نحن ببنائه وتخيله بحيث يحقق المعادلة الصعبة التي تساوي ما بين دور اللغز في التشويق ( وهذه ضرورة شعبية ) والإبهام ( وهذه ضرورة نخبوية). إن مسرحية بلا ديكور تشبه رواية بلا شخصيات. وهذا منعطف هام بدأ في فرنسا مع ظهور الرواية المضادة التي أرادت أن تعيد تصوير العالم، ولكن تركت لنا مهمة تفسيره. هل نحن إذا على عتبات فن المسرحية المضادة؟..على أية حال أظن أن النثر في بواكيره اهتم بالإطار وبالبيئة المباشرة المؤثرة بالأحداث، فقط ليمارس دوره الرقابي الصارم، وليحاول إعادة تعريف رغباته. لقد كان يتعرف على نفسه وعلى أفكاره بغاية التصالح مع الموضوع.
وثانيا نوع الموسيقا الحاملة للرسالة، هل هي موسيقا عاطفية ناعمة أم أنها موسيقا شعبية وكرنفالية. وهنا أرى أن الموسيقا في المسرح بأهمية العروض والقافية في الشعر. ويمكن أن تكون أداة مكملة للمعنى أو مجرد ضرورة.. يمكن أن تفسر الحكمة من الحوار أو أن تلعب دور قوالب جامدة تتكسر عليها حرية الدراما. وبها يتحول الخوف الميلودرامي والاجتماعي الرخيص إلى رعب من المأساة البشرية العامة.
وأخيرا الأزياء لتوضيح موقع الشخصيات ومكانتها.
ويبدو لي أن صباح الأنباري خصم عنيد لكل أصول التراجيديا الواقعية التي تستعمل الثياب الزاهية والمزركشة والأثاث الثقيل الذي يرمي بظل قاتم على الأرض يناسب غياهب القدر وفجائعه ودمويته. لقد كان الأثاث جزءا من أخلاق العصر وجزءا من البنية الخاصة لمجتمع شديد العمومية. كما هو واقع الحال في معظم أعمال الأخوات برونتي وبعدها جين أوستن ذات النغمة الإصلاح – عاطفية، وفوق ذلك أعمال آرثر ميلر الكآبية التي تقطع بأحزانها نياط القلب. لقد لعبت مثل هذه التفاصيل في الفلسفة الواقعية نفس الدور الذي كانت تلعبه الطبيعة عند الرومنسيين. بمعنى أنها كانت أداة مسخّرة لتعكس الجو النفسي وأحوال الروح والوجدان.
**
وبالمثل كانت الشخصيات في هذه الأعمال أشبه بشخصيات تجريدية، بعيدة عن الواقع، ومهمومة بشؤون القلب والوجدان المريض. ولذلك أصبح من المقبول تجريد الأفكار أيضا وتصويرها بشكل رموز مباشرة، أو تحميل الأخلاق والسلوك إشارات تنم عن المنشأ الطبقي وليس لضرورات واقعية ولا أسباب معقولة.
وفي هذا السياق ظهرت العرّافة وبلورتها. وكانت الغاية أن تتغلب على الواقع وأن تفككه وليس بالضرورة أن تقرأ المستقبل، وكأنها تريد القفز من فوق الأسباب إلى النتائج مباشرة.
غير أنه إذا استفاد صباح الأنباري من هذه المعطيات فقد حولها من أداة إلى رمز، ومن ظاهرة عجيبة تساعد على تخدير العقل وتحرير العاطفة إلى دلالة.
فهو في مسرحيته ( عندما يرقص الأطفال )(3) لم يستعمل هذه الأداة الغريبة لكسر جدار المنطق وتحرير المكبوت، ولكنه طورها لتكون جزءا لا يتجزأ من واقع التخلف والتبعية الذي لا بد لنا من تحديه واكتشاف أنجع الوسائل للتغلب عليه.
وهنا يطيب لي أن أنوه كم كانت عرّافة العصر الوسيط في أوروبا مدعاة للتشاؤم. دائما ذات وجه رفيع شاحب أو أسود. وربما تنتمي لقبيلة من الغجر. وترتدي الثياب المرعبة. وتتكلم بأخشن صوت ممكن. أو بلغة شكسبيرية دقيقة: وجهها كوجه الماء الراكد – و يغشاه ما يغشى المستنقعات(4).
فقد كان فن العرافة الفكتوري لا يرتبط بنشاط المخيلة ولكن بهدف المخيلة. وهذا هو شأن العرّافة التي صنعت مصير مكبث، ثم حولت مفهوم الحب العذري في وقت لاحق إلى سلطة على الجسد باعتبار أنه مادة لموضوع عرقي. حتى أصبح من الصعب القول أن هذه الشخصية هي مجرد علم مبسّط بالغيب. لقد كانت أقرب لتعبير غير مباشر عن هزيمة أخلاق دالت دولتها. وترتب على ذلك تحول في مستوى الصور ثم في اتجاه تفسير الواقع.
وليس هذا هو شأن عرّافة صباح الأنباري. فهي في أفضل الأحوال وسيلة مساعدة تضيف للمعنى بعض المعارف، وللجو الدرامي بعض الظواهر الطقوسية. إنها لم تتحكم في مصير الشخصيات، بل قدمت البدائل وفضل القيمة، وضغطت لتحويل المأساة الباكية والدامعة إلى حزن له ما يبرره أو إلى لغز يمكن لبداهة الإنسان أن تتعرف عليه. وهذا يعني أنها لعبت نفس دور الوسيط الربوي الذي يكسب من كل الأطراف. ووضعها ذلك في مكانة عطالة تراكمية غامضة لأنها مركبة أصلا من عطالة الواقع المكسور وعطالة البدائل السحرية.. من المسافة التي تفصل بين اللاشعور وأسبابه ( كما يفضل لاكان أن يقول )(5).
و إذا كانت مصادر الرعب في المأساة قد تحولت إلى شك بجدوى الحياة القصيرة. باعتبار أنها أقصر من أن تؤمن للإنسان فرصة لتحقيق أمنياته وأحلامه. فهي السبب الكامن وراء القسوة والعنف في المسرح العالمي ولا سيما عند أرتو. ولكن عند صباح الأنباري يضاف لها لذلك رعب تقني يتلخص في تحطيم المفاهيم المتعارف عليها بفن المسرح. مثلما فعل كلود سيمون مثلا في المستنبت الزجاجي حيث أن النص ينقسم إلى سطور ناقصة وكلمات مرتبة بشكل مثلث أو مستطيل وما أشبه. إنه يلعب لعبته بواسطة بهلوانيات وغرائب بصرية. وهذه هي الغاية على ما أعتقد من الاعتماد على الحركة والامتناع عن الكلام.
إن مصدر التباين إذا هو في الخلاف بين الوظائف.. من ذهن رومنسي يمجد الألم والمعاناة ويراه مدخلا لتطهير النفس الخاطئة من عارها، إلى ذهن لامعقول ينظر بعين الشك والريبة لكل أشكال الدمار والشقاء والمعاناة.
لقد كان المبني للمجهول واللامحدد هو المسؤول، برأيي، عن القسمة المنحازة لعناصر الرعب في النص. فهو لا يحسب حساب الشكل المخيف الذي ترتجف منه الأوصال، ولا يرسم قلعة حصينة بشبابيك من حديد، أو بيتا كئيبا يغلق عليك أبواب الأمل والتفاؤل. ولكنه دائما يهتم بالشخصيات الغامضة كالأشباح والأرواح والعفاريت وغير ذلك.
وهكذا تنقسم كل مسرحية إلى شكل بسيط من غير إفراط في الزخارف، ومضمون معقد ضائع بين مجموعة من الاحتمالات والمعاني. أو بلغة هيغلية سطحية: تنقسم إلى موضوع – صورة وذات – محتوى. وهذا يعني أن صباح الأنباري ينتمي لمرجعيات الذهن النهضوي الذي تتآلف فيه الأضداد ( بتعبير المرحوم ليسلي فيدلر) حيث أن التناقض سمة ضرورية تعكس واقع الذهان المرضي، وفي نفس الوقت تسخر من أسباب الإضطراب الذي يمزق العالم(6).
ومن هنا يدخل أحيانا على المشهد ما يقول عنه ليسلي فيدلير أيضا: القرين (7)، وهو خيال المرآة الحامل لمشاعر الاغتراب المسؤولة عن تدمير البنية المتماسكة للشخص المعاصر، بحيث لا يستطيع في النتيجة أن يتعرّف على نفسه، و لا أن يرى الفرق بين الإدراك والإحساس. ولكنه يتمكن أنطولوجياً من الانتباه لمأساته الخاصة: كيف أنه بطل غير محدد، وكيف أنه نسخة فقط لشخص من درجة ثانية. وكأنه يقول مع بطل قصة (المرآة) لهاروكي موراكامي: إن انعكاس خيالي في المرآة لا يعكس حقيقتي(8). وهذا يؤكد الفرق بين نشاط الإنسان الليلي ونشاط الإنسان النهاري(9). أو أنه يبين الفرق الملموس بين خيالات تنمو في اللاشعور وعالم الواقع. وكأننا أمام نسخة تجريدية معدلة من دكتور جيكل ومستر هايد. ولذلك تكون غايات ومقاصد الحياة مجرد احتمال وتكهن.
هوامش:
1 – انظر كتاب الصوامت. ويتضمن 16 نصا صامتا. منشورات دار التكوين. دمشق وبيروت. 2012 .
2 – أرى أن رواية ( قصة حب مجوسية ) لعبدالرحمن منيف حققت نجاحا مبهرا بسبب اعتمادها على تفاصيل الأزياء الكرنفالية العجيبة. وكان بلزاك دائما يسهب في تفاصيل ثياب شخصياته السطحية والتافهة لتبدو وكأنها شخصيات هامة ومؤثرة في الأحداث. والواقع أنها كانت ذات موقع في النص والخيال الاجتماع – واقعي فقط. ولكن كان فن المسرح في بواكيره عبارة عن شعر حواري وتطور إلى حواريات نثرية. ولم يهتم بمسألة الإخراج ربما لأن أصل المسرح هو التواصل الروحي مع الرب. وهذا يحتاج لإقناعه بأدوات قلبية لا تعول على البصر ولا العقل كثيرا. فالرب لا نهائي وغير منظور. واستمر ذلك حتى العصر الوسيط وصعود نظام فكتوريا الإصلاحي. وانقلبت الأحوال مع عودة العقل للتحكم بمصير الفرد داخل المجتمعات وانتشار المذاهب الطبيعية والواقعية على وجه الخصوص. ومن هذا المنعطف بدأت المسرحيات بالتمهيد للمشاهد والفصول برسم صورة مفصلة لخشبة المسرح.. الأزياء والديكور والموسيقا. انظر مسرح آرثر ميلر و ج ب بريسلي و غوركي بالمقارنة مع تراجيديات شكسبير وإسخيلوس.
3 – الكتاب السابق. وهي مسرحية صامتة. ص 166. و أعيد نشرها بعد تعديلات هامة بشكل مسرحية حوارية عام 1996. انظر النص في موقع الكاتب الإلكتروني.
4 – The Stranger In Shakespeare. Leslie Fiedler.
قام بترجمة هذه المقالة المتميزة محمد أبو خضور و نشرتها وزارة الثقافة السورية بعنوان المغربي كغريب. فصل من كتاب عطيل و راسكولينكوف. تأليف مشترك. دمشق. 1983 .
5 - The Four Fundamental Concepts Of Psycho-Analysis. Penguin. 1994.
6 – Leslie Fiedler. As in note 2 .
7- Love And Death In The American Novel. Penguin. 1982 .
8 – أعاد الكاتب الياباني المعاصر هاروكي موراكامي في عمله القصصي: The Mirror المنشور في كتابه: Blind Willow Sleeping Woman. Vintage. 2007 . ص 67 اكتشاف ظاهرة المرآة وهي مرحلة مهمة في تكوين الهوية النفسية للأشخاص، حيث أن المرآة تعكس إضاءة خفيفة وخيالا لبطل القصة في الليل ولكنها تختفي في النهار. وكان لاكان قد أكد أن بطة تركية تعرفت من انعكاس صورتها في المرآة على رفيقتها الضائعة. بمعنى أنها لم تلاحظ الفرق بين الإدراك والمحسوس. وبين أيضا أن الطفل يكتسب صورة جسم الآخرين في المرآة أسرع من اكتساب صورة جسمه الخاص ( انظر: ص 134 – علم النفس وميادينه. منشورات الدار المتحدة. دمشق. 1993 ).
9– هنا أرى أن اللعب بالأسلوب وبشكل التعبير أجدى من تيار الحدس الذي يأخذ شكل عاطفة مبهمة ومرعوبة.
آب 2012