الصامت والصائت في ((طقوس صامتة))

مشتاق عبد الهادي - قاص واديب عراقي

 

صدرت للكاتب والمخرج المسرحي صباح الأنباري طقوس صامتة ومسرحيات أخرى عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد لسنة 2000 وهي مجموعة تشتمل على ستة نصوص مسرحية ، ثلاثة منها   صائتة، والأخرى صامتة ، حيث حاول المؤلف في المسرحيات الصائتة (اسطرة) ألا أسطورة من خلال زج شخوص إبداعية في مجال المسرح والفن التشكيلي. وإذا قلنا أن الأسطورة هي حدث تاريخي يشوبه الغموض بسبب تعدد الروايات والمصادر المتحدثة عنها ففي (زمرة الاقتحام) أجاد المؤلف اسطرة شخصية، وشخوص الكاتب المسرحي الكبير محي الدين زنكنة من خلال محاولة   استغلال شخوص زنكنة التي تتميز   كل واحدة منها بميزة تفتقر إليها  الأخرى وفي حالة جمعها في زمرة واحدة تعمل عمل جسد واحد ، ستكون  لهذه الزمرة قدرات خرافية من خلال إيقاف عامل التلف الخلوي في جسم الدمية / الإنسان الذي تحول وجوده المادي إلى وجود (مائي) يؤثر ولا يتأثر بالعوالم المحيطة به ، من هنا وبمعالجة مسرحية / إخراجية رائعة، يقترح المؤلف / المخرج استغلال  إنسان أو كائن ليس له وجود مادي، وذلك بعد فشل التجارب بسبب الوجود المادي، هنا  يقترح اسم محي الدين زنكنة الذي تتصف شخوص مسرحياته بالشراسة والخبث والخديعة المعلنة ، ومع إنزال هذه الزمرة من فضاء الخيال إلى ارض الواقع يبتكر الأنباري مسميات علمية لأسلحة وأجهزة اطلب من الرب أن لا يوفق أحدا بصناعتها، وذلك لان مبدعتا الأنباري من خلال مسميات وصفات هذه الأسلحة المرعبة بدا وكأنه يحاول تدمير العالم، وبالرغم من كل ذلك تفشل الزمرة  في تأدية مهمتها بسبب سيطرة مبتكر شخوص الزمرة على مصائرها وقواها، ويستدعي خالق الزمرة ويرفض المساومة بالرغم من التعذيب، ويستدعي من خلال سلسلة وجودية مؤلف المسرحية بسبب إمكانية استغلال صداقته بخالق الزمرة ومع كل الضغوطات التي تعرض لها الاثنان لم يفرطا بالعالم الذي حاولا جاهدين الحفاظ عليه .

في هذه المسرحية كان الأنباري مؤلفا وناقدا وممثلا ومخرجا وميثولوجيا وموثقا لسيرتين ذاتيتين في نص واحد. إن الأنباري يواظب في جميع أعماله المسرحية أو الإخراجية أن يكسر حاجز الحياد الذي يخفي دور المؤلف في النص ، ذلك الحاجز الذي يجعل الحركة الإيقاعية والتعبيرية وحتى الحوارية بعيدة عن ظهور لمسات المؤلف على الخشبة ولم يكتف أستاذنا الأنباري بإظهار لمساته في الكتابة والإخراج المسرحي فقط ، بل توغل في عمق   الحدث وذلك عندما صير وجوده الإنساني محورا في هذه المسرحية وكذلك في مسرحية (الصرخة) ففي هذه التجربة الرائعة نجد نص حديث تتخلله المشاحنات والمقاطعات والمعاناة في الفكرة والتنفيذ والتي تدور دوما   خلف كواليس المسرح والتي غالبا ما يجهلها الجمهور.

إن الأنباري يكتب النص المسرحي بطريقة إخراجية يعبر فيها عن نبل العمل الإبداعي مهما كانت صفته ، فمثلما رفض أستاذنا محي الدين زنكنة صفقة مغرية مقابل عتق شخوص أعماله المسرحية ، رفض الفنان (منير) في مسرحية (أزهار وعقارب) أن يغير بفرشاته العقارب إلى فراشات مقابل ثمن باهظ يدفع عن  كل عقرب يتحول إلى فراشة ، وذلك لأنه متيقن أن سر نجاح وسر اللوحة أو أي عمل إبداعي يكمن في عنصر التضاد، وكذلك لأيمانه الشديد بان العمل الإبداعي يصبح من حق الجمهور حال انتهاء اللمسات الأخيرة     فيه ، وفي هذا تضاد كبير ونبيل ما بين المادة والإبداع.

إن الأنباري لا يمنح مفاتيح نصه المسرحي بسهولة حيث انه يعمل بحذر محاولا إعداد ثيمة مغايرة أو صياغة مسرحية مغايرة للتجارب الأخرى حتى جعل من مسرحياته الصامتة وهي(طقوس صامتة)،(حدث منذ الأزل)،(متوالية الدم الصماء)، جعل كل المسرحيات من خلال الحركات والدبكات والرقصات والإيماءات الخفية والظاهرة ، صوتا نسمعه حيث أن الأستاذ صباح الأنباري خلق في ستة نصوص مسرحية عملا إبداعيا يتوفر فيه عنصر التضاد حيث أن الصائت صامت وغامض في الثيمة ، والصامت صائت بل صارخ ، أذن قدم الأنباري طقوسا صامتة ، وصائتة    وذلك من خلال أيجاد عنصر(الإيقاع الحركي الذي يشمل حركة الممثلين وحركة الديكور وحركة الإضاءة) (*) ، ولا أجازف أن قلت بان طقوس صباح الأنباري  الصامتة والصائتة متفردة بإبداعها بالرغم من انه (والعياذ بالله) ينعت نفسه  بـ(  المغمور) / زمرة الاقتحام ص 56 . وليس في ذلك النعت غير السمو والجمال فمن المعروف لدى الجميع هو أن الثمين وحده هو الخفي أو.. المغمور.

.................................................................................

(*) إيقاع العرض المسرحي واستجابة جمهوره. دراسة للأستاذ سامي عبد الحميد. مجلة أسفار العدد (15) آذار   1993

                                                           مشتاق عبد الهادي  

                                                           قاص وأديب عراقي

صحيفة أشنونا ـ التأريخ 15/9/2001 ديالى

صحيفة العرب العالمية ـ التأريخ 20/9/2001 لندن