الشخصية المسرحية في ( كتاب الصوامت) لصباح الأنباري

د. صالح الرزوق         

صالح الرزوق

 

 

في ( كتاب الصوامت ) لصباح الأنباري الصادر حديثا عن دار التكوين بدمشق (1) و بيروت نظرة بانورامية لجنس أدبي جديد متفرع من المسرح هو التمثيل الصامت، مع نصوص تطبيقية  بلغ عددها ( 16) ستة عشر نصا مسرحيا ، تتألف في معظمها من مشهد واحد أو ثلاثة مشاهد على الأكثر.

و بغض النظر عن الجزء التنظيري الذي احتل أكثر من نصف الكتاب يبقى ما يعنينا بالنسبة لكاتب و مخرج معاصر، و هو النصوص التطبيقية و التي جاءت في معظمها قريبة جدا من مفهوم الدراما الأصلي الذي يرى الأنغلو ساكسون أنه تحليل نفسي لما يقولون عنه ( aftermath). 

في هذا الكتاب، الشامل و المتميز حقا، يقدم لنا صباح الأنباري وجبة دسمة وأصيلة من المشاعر وهي في منعطف حاسم أو منعطف تجريدي يصلح لكل الأزمنة وكل الأمكنة. وهذا يضعه عند المفصل الحساس من المفهوم الأساسي لفن الدراما: أن يفسر المشاعر البدائية بخصوص صراع الحياة والموت، وأن يضع العاطفة الغامضة التي تأخذ شكل الخوف أحيانا والموت أو الدمار أحيانا أخرى في إطارها الصحيح. وهو تحديدا الوضع البشري السائد، وما ينطوي عليه من عبث ولا معقولية واغتراب (كما يقول في المقدمة )(2).

وهذا بالضبط ما فعله الإيرلنديون بعد الحرب الثانية ابتداء من جويس وانتهاء ببيكيت، حيث أن الموضوع هو المهم والشخصيات مجرد ظل لوجودهم الطارئ وغير القانوني، فهم أبطال بلا قدرات خاصة، ويرزحون تحت أعباء مجتمع مهزوم وخاسر، وفي نفس الوقت محرومون من القدرة ومن تحديد الاتجاه. لقد أصبح البطل عبارة عن شخص يقف أمام مسؤولياته العامة وأمام لغزه الجوهري وغالبا في حالة تكهن أو انفصال ودهشة لاكتشاف معنى العلاقة الشائكة بين الإنسان والإنسانية، وربما لاكتشاف  معنى الضرورة وجوهر العبودية. وهنا وجه المفارقة: أن يتحول بأس الطبيعة، وضمنا بأس المخيلة، إلى فاصل صامت، وإلى مربع أبيض، و بلغة الفكر السياسي العام إلى قوة احتجاج صامت، يجب أن نتكهن بما أزمعت عليه.

لقد وفرت الدراما الإيرلندية لصورة العالم والإنسان شيئا من الحساسية العنيفة، وكانت دليلا على عمق وأصالة المعاناة بكافة أبعادها: من الناحية الأنتروبولوجية (مفهوم العرق)، ومن الناحية المذهبية (مفهوم الطوائف)، وأخيرا من الناحية السياسية (مفهوم الدولة).

وأعتقد أن خلاصة أعمال صباح الأنباري تصب في هذا الحوض المعرفي والعاطفي بعد التخلص من المقدمات والدخول مباشرة في العواقب ( الـ aftermath ). فهي تفسر آلام الصورة المكبوتة التي دخلت في طور البحث عن التطابق. وبعبارة أخرى: إنها تحاول تخليص الروح من أدران الأفكار المسبقة والتي نعزوها لخصوصيات الصور الجزئية.

إنه من غير الممكن أن تجد في عموم هذه المسرحيات إشارة خاصة واحدة لأفراد متميزين لهم نشاط جزئي، وهي دائما تضغط بالصورة وبالجملة الهادفة والمركبة، وأحيانا المباشرة لتصحيح نطاق النشاط، ولتحويل الصورة من معناها الجامد، المرسوم بشكل أشخاص ومشاهد يابسة لا تتحرك وتقف تحت الضوء وتحت وابل من الموسيقا، إلى أداء. وأوضح مثال على ذلك مسرحيته (قطار الموت) حيث أن الحل الوحيد المقبول لكسر السكون هو في الالتزام بخطوط وهمية تشبه خط القطار الحديدي، وهي التي تحدد للأشخاص كل حركاتهم وأفكارهم (3).

وهكذا يتحول الموضوع لديه إلى مضمون، فيعبر بتسلسل الأحداث عن حالة بشرية أو موقف إنساني، وطبعا من خلال العواطف السامية (اليونانية الراقية) كالتأسي والتفجع والاغتراب. وذلك لتحقيق هدف متفق عليه في الدراما: وهو التخفف من الأمراض ومن جوهر العجز البشري أمام جبروت الطبيعة وسلطان القدر. ولكن مع إضافة بسيطة هي بأغلب الظن من منعكسات المدارس الواقعية بكافة أشكالها، وأقصد بذلك تجسيد إرادة المجتمع وضمير اللاشعور التواصلي العام كبديل مادي عن الإرادة الإلهية العمياء.

لقد أصبح بإمكان بسطاء الناس، كالشباب والنساء المغمورات، أن يظهروا على خشبة المسرح وأن يدلوا بدلوهم وأن يغيروا من الاتجاه ولكن ليس من النهاية. و وصلت نسبة الأبطال العاديين و الشخصيات المغمورة ما يزيد على ثمانين بالمائة من الشخصيات الأساسية في مجمل النصوص. وهكذا لم يعد من الضروري الاقتصار على أبطال اسثنائيين: كالملوك الذين يحملون صولجاناتهم والرهبان والآلهة.  

و مع ذلك لم تكن الشخصيات بسيطة و لا هي واقعية. و جاءت تحمل صفات النمط الاجتماع - سياسي الذي تعبر عنه، و بهذه الرؤية توزعت على ثلاثة أنماط هي:

1 – الشخصية المباشرة: التي يمكن قراءتها بسهولة مع قليل من التصورات والتفاسير.

2 – الشخصية المضاعفة: وهي التي تنطوي على دور رمزي مناط بها، ولذلك يمكن تعميمها أو حتى ترميزها وبلغة السيمياء المعاصرة إنها عبارة عن واقع إسمي مجرد، وظاهرة لنشاط قابل للتكرار، أو إشارة.

3 – الشخصية الشاملة: وهذه تندمج مع الظواهر الأساسية لنشاط اللاشعور، ولا يمكن لها أن تؤدي إلا دور الطبيعة البشرية في خصوص لحظتها و لذلك إنها تنقل حدسا عاما أو تعبر عن غريزة دائمة في حالة صراع مع غيرها كصراع البناء و التدمير و مثله صراع الخوف و السعادة ، إلخ...

وهذا يفسر لماذا لا يوجد لديه اسم علم واحد، ولماذا تتقلد غالبية الشخصيات الاعتبارية (من النمط المضاعف والشامل) أل التعريف.

غير أن النمط لا يحدد طبيعة هذه الشخصيات. فهي تندرج أساسا تحت بند عريض هو اسم النوع، وهو لا يدل على واقع اجتماعي أو عاطفي، ولكنه يشير إلى الحالة الوظيفية التي ترادف معنى الدور في المسرح. والغريب في الموضوع أنها ذات اسم نوع مباشر. فالكاهن (في متوالية الدم الصماء)  يحمل هذا الاسم مع أنه صفة أو وظيفة. ولا تضيف اللغة أية صفات مميزة أخرى، لا من ناحية الثياب ولا الجو العام ولا حتى الإيحاءات. وهذا شأن الجنود في مسرحية (حدث منذ الأزل) حيث تنعدم الأدوات المساعدة التي تعرّف بهوية العسكري ومنها البذة والبسطار أو أقله غطاء الرأس.

لذلك إن التطورات في الحبكة الدرامية لديه شبه معدومة. و يمكن النظر لهذه الشخصيات (بمفردات رولان بارت ) على أنها من فصيلة " الذات - شخص" ولو تعددت أسماؤها، فالملك حامل التاج هو نفسه الرجل الذي يضع نظارات سوداء ويحمل العصا، والكهول حاملو الصولجان هم أنفسهم الكهول حاملو الهراوات (4) . و يرمزون بوضوح للسلطة الغاشمة ولكن بأزياء ورموز متنوعة.

وباعتبار أن جنس الشخصية علامة تحمل في طياتها بعض الدلائل نلاحظ أن عدد الذكور بالمقارنة مع الإناث يبلغ عدة أضعاف. ففي خمس مسرحيات صامتة يبلغ العدد الإجمالي لذكور الدرجة الأولى  25  مقابل  8  فقط من الإناث (5). وأعتقد أن هذه معلومة ذات قيمة، إنها لا تضع في حسبانها أن النساء هم نصف المجتمع، لأنها لا تهتم أصلا بالموضوعات الاجتماعية، ولا حتى بالمكائد والدسائس التي تدور في المكاتب والقصور وتستخدم فيها النساء، ولكن بموضوعات الحروب المدمرة التي تدور رحاها في الميدان. وبهذه الطريقة يتحول الصراع إلى مواجهة بين العناصر والأنظمة: كالمدينة بصورة ضرورة عامة والطبيعة بصورة هروب رومنسي من القيود، أو الماضي بشكل علاقات جامدة والحاضر بشكل مفاجآت وخوارق لا يمكن تفسيرها.

باختصار إن دراما صباح الأنباري ليست قصص أشخاص ولكنها طقوس لحالات، ومن هذه الحقيقة لا تتوفر فيها تفاصيل الدراما المعروفة وعلى رأسها: أبطال يتورطون مع الحبكة وانعطافات الحبكة ( reversals بلغة المعلم الأول أرسطو). ويضعها ذلك على قدم المساواة مع كل تقاليد القصة المضادة: حيث أن البطل يختفي والشخصية المحورية تموت وخيط الأحداث المنطقي ينحسر ليقدم لنا العالم نفسه من خلال أشيائه ومن ضمنها الإنسان باعتبار أنه في مرحلة تشيؤ وعطالة عاطفية وسياسية. حتى أن السرد يصبح أشبه بعين كاميرا تبصر ولا تحلل، وتنقل لنا بحيادية تامة ما يدور حولنا دون أن تتدخل في التعليق على مايجري.

ومن هنا يبدأ الانفصال عن مسرح اللامعقول بصيغته الإيرلندية ويقترب من الأسلوب العام للقصة المضادة.

إن صباح الأنباري لا يغادر أرضه، وهو يستغل كل الفرص المواتية لتعميم صور شخصياته التي تعاني من آلام وأمراض الحضارة باعتبار أنها غرائز أوشكت على الإفلاس أو بنية لذات لا تعقل نفسها، ويركز غالبا على مشكلة البديل. وهكذا يتحول الواقع إلى ملعب لطبقة واحدة هي البورجوازية الصغيرة التي لا تتعرف على نفسها ولا على أرشيفها، ويتحول النص إلى مشاهد متكررة، ومونولوجات معصوبة ومريضة بالوهم.

وهذا يرشح مسرحياته لتكون مرثية ممتازة لأبطال من طبقة منقرضة أو أوشكت على الأفول، وحان الوقت لأن تحسم أمورها.

 

 

الهوامش:

 

1- صدر في نهاية 2012 و يبلغ حجمه 287 صفحة توزعت على ثلاثة أجزاء كالتالي: مقدمة نظرية، و نصوص تطبيقية، و مقالات عن موضوعة الصمت في المسرح اشترك بكتابتها عدد من المتخصصين و الصحافيين.

2 – مقدمة كتاب الصوامت، ص27.

3 – قطار الموت. ص 157. 

4 – في طقوس صامتة ( ص60) تبلغ نسبة بسطاء الناس 9 من أصل 10، و هذا لا يترك غير شخصية واحدة للبطل المتميز وهو هنا السياف، والذي يرادف معنى ابن إله، لأنه لا يقرر الأقدار من تلقاء ذاته، ولكنه ينفذ الإرادة الإلهية ويحمل أداة العقاب.

5- تفصيل هذه الأرقام كما يلي: طقوس صامتة 7 ذكور + 3 إناث ، حدث منذ الأزل 3 ذكور + 3 إناث ، متوالية الدم الصماء 3 ذكور، الالتحام في فضاءات الصمت 5 ذكور + 1 أنثى، محاولة لاختراق الصمت 7 ذكور + 1 أنثى.

 

شباط 2013