الرعب والدمار في مسرحيات صباح الأنباري

صالح الرزوق

 

 

أجد في مسرحيات صباح الأنباري نوعا من العنف التكويني من ناحية المنشأ. بمعنى أنه جزء من نظام الإنتاج والتفكير وليس جزءا من الموضوع فقط.

فهو عنف يتخطى الحبكة ويؤثر في شكل المسرحية إن لم نقل في بنائها.

ولتوضيح الفكرة أضيف: إن الحكاية تتضافر مع الأسلوب لإضفاء جو من الرعب الذي لا نعرف مبرراته. إنه رعب ناجم عن ميول غريزية تنبع من المصادر.

حتى أن الصراع الذي يحرك الشخصيات هو غريزي. أو لنقل إنه مهني. ففي مسرحيته المتميزة (عندما يرقص الأطفال) يكون الصراع بين المجتمع وثلاثة مخبرين هم الشواف والشمام والسماع.

وبالعودة للشخصيات الأساسية نجد أنها تتوزع بين عدة أنماط مرعبة تلقي الرهبة في نفس القارئ: فهي إما أنها مخبر أو مارد متوحش أو إرهابي أو قناص يقتل الناس جزافا.

وهذا يعني أنها شخصيات مفطورة على الغرائز التدميرية وكل ما من شأنه أن يهدد بقاء الإنسان وسعادته.

وفوق ذلك هي شخصيات تحمل بذور فنائها في داخلها. مثل أي إنسان عصابي مأزوم لا يستطيع أن يحل مشكلته مع نفسه فما بالك بالآخرين. و لذلك لا يرى حلا إلا بتحويل غريزة الموت (حسب مبدأ إشباع اللذة) نحو غيره. وأحيانا يضطر لتنفيذ هذا الحكم بنفسه فيقدم على الانتحار. كما هي نهاية القناص في مونودراما (القاص والقناص).

وهذا اختلال صحي لا يختلف كثيرا في أسبابه وأعراضه عن جنون العظمة الذي يودي ببعض الزعماء والقادة كما في مسرحية ( كاليغولا ) لكامو. فاللاجدوى هنا تترادف مع معنى الشك بالقانون، وبالأخص إذا انعدمت المبررات ولم يكن الهدف واضحا. وهي حالة الأنباري بالذات.

وما بين السلوك السادي والمازوشي تجد قوسا عريضا من أشكال الاعتداء على النفس وتدميرها كالاغتصاب والتمثيل بجثة الميت وأحيانا الغزو...

ويكفي أن اذكر كمثال على ذلك مسرحياته في كتابه (شهوة النهايات) الذي يقدم لنا صورة من الاعتداء المضاعف، فهو غزو عسكري أجنبي تقع خلاله جرائم حرب تصل لدرجة أكل لحوم البشر، وإرغام الأب على التهام لحم ابنه. إن كل عبارة في هذه المشاهد تحمل علامات أوديبية وبفعل استعراض عكسي.

فالأب هنا يتساوى مع الابن. والشعور يكون بمستوى اللاشعور. والقتل يكون بمعنى الاعتداء على كل المحرمات، كالشرف (بقيمته المثالية التي وضعها فرويد في قائمة الرومنسيات). حتى أن الموت النفسي يتعادل مع الموت المادي. ويصبح الابن المغدور به والأب الأسير والأم المعتدى على شرفها بمنزلة واحدة.

إن أفراد العائلة، وبتحويل فرويدي مباشر، يتحولون لرمز جنوسي قابل للانجراح.

و لكن كل تلك الأشكال العنفية  والإجرامية تبدو لنا في المسرحيات مرفوضة إنما بلا تقديم مبررات.

وهذا يبعدها عن حبكة السير الشعبية والمرويات التي لا تخلو من التخطيط للدسائس أو للتآمر مع نوايا مبيتة يمهد لها الراوي بكثير من الشروح والتفاصيل حتى تقنع القارئ البسيط.

إن غريزة الموت عند العرب القدماء شكل من أشكال الحياة. إنها الخوف الذي يترصد لنا بشبحه خلف كل منعطف. وهي الشك الذي نحمله معنا. ولذلك إن الموت في السير الشعبية وسيلة من وسائل الدفاع عن الحياة. فهو تنبيه بضرورة الاحتراس من المخاطر.

وهذا يعطي لتلك السير مضمونها النفسي ويساعد على تطوير الحبكة.

وهو كما أرى منشأ مبدأ الدراما عند الإغريق. فبالخوف وإثارة مشاعر القلق والترصد يطهرنا من عيوبنا وعللنا. ويلفت الانتباه لما لدينا من نواقص ونقاط ضعف.

وقل نفس الشيء عن مسرح شكسبير. إنه مسرح تسيل فيه الدماء. ويكون القتل غيلة وغدرا أحد أنجع السبل للتخلص من الخصم.

ولكن عند شكسبير الميت لا يموت. ويبقى بمضمونه النفسي وذكرياته وبصورته التي تتحول لجزء من عالم الوجدان حتى تحتل ضمائرنا وتتحول لمضمون رديف. أو لاستعارة غير مجازية نصبح بواسطتها أندادا.

لقد استعان شكسبير على نقائص الواقع بعالم الأحلام. وكانت أحلاما من نوعين: طبيعية مثل الغرائز التي هي مصدر للتخصيب والبقاء والديمومة، أو مرضية كأحلام اليقظة وتدل على فصام وصراع بين الرغبات وبين الواقع.

بعكس ما يفعله صباح الأنباري. فالموت العنفي لديه هو سبب تاريخي يحرك العصاب والأحداث ويخلق الأزمات، ولا يبدو نتيجة لعجز التاريخ وانحدار سلم الأخلاق والسلوك مع تدهور الحضارة وانتقالها من مرحلة الازدهار لطور السبات.

وهذا يتضح بلا مقدمات في أولى أهم مسرحياته وهي ليلة انفلاق الزمن الصادرة في دمشق عام ٢٠٠٠.

في هذه المسرحية، وهي علامة في المسرح العربي المعاصر، تأخذ الأحداث منعطفا سرياليا يضع المنطق عند حدوده القصوى. بحيث كل عبارة تبدو وكأنها تكتفي بنفسها. بلغة أخرى: يبدو النص وكأنه مباشر ومكشوف وعرضة للسماع والمشاهدة (الحواس) ولا حاجة بنا لتفسيره.

مع أن الشكل الفني كان منقسما على نفسه ويتألف من طبقتين: خيال وأصل، أو الشخص وظله. فأبطال المسرحية الثلاث يحضرون حفلا ليجدوا لأنفسهم  توائم وشخصيات تشبههم بالشكل و لكن ليس بالمحتوى.

ومن هنا تبدأ المفارقة.. أن التاريخ يعيد نفسه ظاهريا فقط، بينما هو في الواقع مختلف، فالماضي متآكل والمتبقي مجرد أفكار ميتة.

و كأنه يريد أن يقول: إنه حتى فكرة الدراما طرأت عليها تحولات في البنية والأساليب والأدوات. وهذا يعني أن الفن نفسه مات بمعناه الكلاسيكي وحلت محله فنون متحولة.

ألا يؤكد ذلك أن الأنباري يكتب وهو تحت مؤثرات الفنون التي تهتم بالموت وما يترتب عليه من رعب وقلق.

و خذ على سبيل المثال الروح العدمية و الغامضة في مسرحية ( بانتظار غودو) لبيكيت، أو رواية ( مالون يموت ) له أيضا.

ففي أعمال الأنباري و كتابات الإيرلندي بيكيت اهتمام تراجيدي بأشياء لا يمكن تسميتها أو تعريفها، ولكنها تظهر لنا بشكل نهاية محتومة. وهي تستوجب منهما نوعا من الرحيل بالأفكار لما وراء حدود تجربة المنطق الملموس. فقد اختار كلاهما أسلوب التعبير عن التراجيديا بلا دراما متطورة. وإن اكتفى الانباري بتجسيم وتوسيع دائرة القنوط والخوف فقد تحدث بيكيت عن المعاناة بمطلق المعنى، حتى أن حياة مالون كانت بنظره خلاصة للكد والشقاء بلا سبب ولا جدوى. ولم يؤثر ذلك على أسلوب رسم الشخصيات كرموز فقدت الاتجاه وغرقت بفيض من المعاني، ولكن أيضا على أسلوب بناء المسرحية. فقد تحولت لنشاط نفسي بلا أحداث.

وهنا أرى أن صباح الأنباري ينتمي لموجة الفن القوطي الجديد (على وزن الكلاسيكية الجديدة والرومنسية الجديدة والأفلاطونية الجديدة وما شابه ذلك)، فهو يركز على جماليات الشعور بالرهبة وعلى تطوير الخوف من الأماكن المظلمة والضيقة ( الكلوستروفوبيا)، مثل قلعة أوترانتو لوالبول أو أحزان الرماد لوليد إخلاصي. وهذا شيء يستحق النظر.

فالمسرح يتألف من نظارة يجلسون على مقاعدهم في صالة معتمة ومغلقة. ومن ممثلين لا يستطيعون الابتعاد عن خشبة العرض المسرحي. وعليه إن فن المسرح أصلا هو فن يرعى الكلوستروفوبيا ويحاول أن يطهرنا منها. وهذا كاثاريسيس جديد. غير عاطفي ولكنه فني ونفسي ومادي.

ان الاعتداء الذي يشنه الأنباري على الشكل الكلاسيكي للمسرحية وعلى طريقة بناء الشخصيات، وتسهيل الأحداث من غير حبكة، وانما بواسطة تحريض مشاعر يمكن حضانتها في الوجدان، يحررنا من الالتزام بقوانين كادت ان تتحول لتعاليم لا يجوز المساس بها. وهذا تطهير للعقل وتحرير للذهن والعاطفة.

ولربما من هنا جاءت فكرة العروض في الهواء الطلق.

 

آب ٢٠١٤