الحداثة والتاريخ في المونودراما عند صباح الانباري
د. صالح الرزوق
تمهيد
اقترب الأدباء العرب من التاريخ بعدة أشكال.. إما بتسجيل الوقائع وتدوينها ثم إعادة
تفسيرها كما فعل رائد الرواية التاريخية جرجي زيدان في مستهل القرن الماضي، أو
باستعارة الجو التاريخي بما فيه من مشاكل ودروس وعظات ومطابقتها مع الواقع الحالي.
وكان ذلك على سبيل الترميز للهرب من وجه الرقابة الصارمة.
ولئن لا يوجد خلاف على الطبيعة الرومنسية لروايات جرجي زيدان، وهذا نفهمه لو أخذنا
بعين الاعتبار دخول المنطقة في مرحلة تحديث حملت عناوين عريضة مثل التنوير والنهضة
والمثاقفة وما إلى ذلك، فإن الحال يختلف فيما عداه.
كانت تعتبر الرموز التاريخية التي لعب بها زكريا تامر لعبته حداثة، و لكن ماذا نقول
عن المدونات المملوكية التي استوعب بها جمال الغيطاني التاريخ النفسي لأزمة العرب
المسلمين وهم في لحظات ضعفهم وخسارتهم؟..
لا شك من الصعب أن نتجاوز الهم الحداثي لهذه النماذج، غير أن الذهن المحرض لحركة
الأحداث وتوسع دائرة الشخصيات، لم يكن ضمن هذا التوجه. فقد حكمت الرؤية ذات مريضة
ومندمجة مع الطبيعة الفقيرة للمجتمع والأرض، وفي نفس الوقت كانت تستجيب لمبدأ السبب
والنتيجة الذي هو جزء أساسي من الفلسفة الواقعية.
وأعتقد أن السرد العربي كله، منذ خمسينات القرن الماضي، وحتى منتصف السبعينات، يدين
لرؤية رومنسية كئيبة لها بعد اجتماع - سياسي. وبكلمة مختصرة: رؤية تدخل في قانون
واقعية غارودي.
وهناك عدة أسباب تفسر ذلك: في مقدمتها دخول أفراد المجتمع في دورة حياة مختلفة، من
أهم صفاتها التخلي عن الانتساب للعشيرة، وتقبل نظام الأسرة، الركيزة الجديدة للطبقة
المتوسطة، والنرجسية الناجمة عن ظرف المخاطر، والمسؤولة عن توسيع دور الفرد في
المجتمع دون منحه مزيدا من الحريات.
لقد تآزرت كل تلك الأسباب لتلغي صوت المنطق الكلاسيكي، ولتحل محله صوت العاطفة
الفردية، بكل أوهامها عن الماضي الغني والخصب والمعطاء، والحاضر البائس والناقص،
المجدب والمصاب باختناقات و أوهام.
لم تصل الحداثة لجوهر المخيلة الفنية عند العرب، لا في القرن العشرين و لا الألفية
الثالثة. و لا تزال المدرسة الواقعية بإطارها الاجتماعي والمتأثر بما حققه السوفييت
من إنجازات، هي أفضل ما تم تقديمه على أيديهم للحداثة. وأرى أن ما تبقى هو رومنسية
جديدة في ثوب قشيب ومعاصر. ألم نعترف باندحار الكلاسيكية وعودتها باسم الكلاسيكية
الجديدة. ألا تحصل الآن استعادة لتراث أدب الرعب القوطي في أوروبا باسم القوطية
الجديدة؟!!.
ثم إنه لا توجد أية علاقة أصل وفرع بين تراث الحكاية عند العرب وفن الخيال اليوم.
والرواية أو القصة لو استعارت بعض الأدوات من الحكاية الشعبية فهذا مجرد "تعريب"
لما هو حصيلة إنتاج عدة شعوب من بينها العرب. فما بالك بفن المسرح المفقود عندنا
أصلا؟..
و انطلاقا من هذه القناعات أرى أن قصص غادة السمان بصوتها المرتفع الذي نقول إنه
تيار شعور، أبعد ما يكون عن المؤثرات الفنية الأصلية المتمثلة بفرجينيا وولف وتراث
المرأة المعاصرة في أوروبا، و أقرب لنبوءات وانتقادات نيتشة أو نبي جبران. فهي لم
تكن مجرد امرأة تدعو لتحديث العلاقات النفسية لحضارة تنتج أدواتها، ولكن ضمير امرأة
تتحول من صيغة الجمع لصيغة المفرد، ومن الاهتمام بما يدور في الحياة إلى ما يجري
خلف كواليسها. حتى أن صوت الواقع لديها لا يعدو أن يكون مجرد أصداء لمشكلته
الأساسية وأثره في التكوين النفسي واللغة والتصورات. وإنه بشكل عام لا توجد حداثة
عربية حقيقية، وإنما ردة فعل تجاه منطقها الأصيل الحامل لهموم مجتمعات تنتج الحداثة
وترعاها وتحترق بنيرانها. وإنه من المبكر على العالم الثالث بكافة مستوياته أن ينقل
رسالة من الذهن الصناعي لمكوناته، ولا سيما أنه لا يزال في نطاق عقلية قبل صناعية،
وتمهد لاستهلاك أدوات العقل الحديث، وليس لتشكيله.
المونودراما بين التاريخ والحداثة
وفي هذا المضمار أرى أن مسرح صباح الأنباري، وهو مسرحي عراقي من جيل الثمانينات، من
الطليعة أو بمصطلح أدق النخبة، التي قاطعت الرؤية الاختزالية لتصنيف فنون القول
والخيال. فلا هو يهمل الواقع ولا يوسعه على حساب الهموم الشخصية للأفراد المتأثرين
بعمق الجرح الناجم عن هزائمنا المتتالية. ولا يحاول استعارة أدواته ممن سبقه، ولكن
يعتمد على التجريب والبراغماتية. وعليه يمكن أن يكون مثالا عن المسرحي الطليعي
التجريبي الذي وظف التاريخ ومشتقاته للتعبير عن حالة من الشك والخيبة. وقد كانت
استفادته من التاريخ بمستوى ما فعله المرحوم سعدالله ونوس.. لقد استفاد منه بشكل
حامل لمحمول، أو رسالة ذات مغزى مستتر يجب أن نشترك معه لحل كافة رموزها
وإشاراتها.. سواء القريبة أو البعيدة.
وهذا يعني ضمنا انه ليس كاتبا تاريخيا على شاكلة معروف الأرناؤوط مؤلف الملحمة
الكبرى التي أعاد فيها تركيب فجر الإسلام وبأسلوب رومنسي وبيان مشرق يضع كل ثقته في
اللغة والبلاغة والعاطفة الجياشة تجاه فترة من الماضي.
وهو كذلك ليس تاريخيا بالمفهوم الدقيق الذي شق له الطريق ميشال زيفاكو أو والتر
سكوت، حيث أنه لا يعتمد على التشويق والحبكة القوية والمفاجآت والمغامرات وما يترتب
على ذلك من تركيز على أهم نقطتين هما من دعامات الرومانس التاريخي: أقصد الحب
المكبوت ونداء الوطن. هذه الثنائية المتكررة التي لا تخلو منها قصة مخاطر وترفيه.
لقد كان صباح الأنباري يعمم الحالات الخاصة ويتكلم عن مفردات هي جزء من الضمير
العام كالجندي المجهول والشجرة القديمة والعامل والإنسان البسيط وما شابه. وغامر
بتفكيك مثل هذه المفاهيم وصولا لأسلوب يعتمد على العجائب والأساطير والمرويات
الشفاهية الشعبية والمونولوج الدرامي soliloquy الذي نطلق عليه اسم (مونودراما).
وبظني يمكن أن تتوفر عناصر المونودراما باللاشعور وعن غير عمد. فرواية (المساكين)
لدوستويفسكي هي مونودراما بامتياز، ومثلها رواية مالون يموت لبيكيت.. لأن البطل شخص
واحد. والشخصيات الأخرى كلها ثانوية ونتعرف عليها بعيونه. والمكان غرفة يسكنها هذا
الشخص. وكذلك الزمان فترته محدودة تبدأ مع وعي هذه الشخصية ويقظتها، وتنتهي بنهاية
الحدث الذي تتطور معه.
معنى وأشكال المونودراما
إن النصوص التي يديرها ممثل واحد، في مسرح صباح الأنباري، تستحق وقفة خاصة، لأنها
أقرب لجماليات الزمان، وتنظر للواقع بصيغة الماضي. وهذا هو التاريخ بمعناه العريض..
إنه ذكريات ومدونات من عهود لا يمكن أن نسدل عليها الستار لأنها ذات علاقة بما يجري
حاليا. فهي الماضي المستمر عند الذهنية الأنغلوساكسونية، أو بيت الذكريات والأرواح
عند الذهن الفرانكوفوني واللاتيني، وهي أيضا المدونة التي لها شكل السيرة الذاتية
عند كل هؤلاء.
وإنه لا يمكن تقسيم نظرته للتاريخ إلى نماذج وأنماط منفصلة، وبالعكس هو يوظف عدة
أساليب وأنماط تتكامل فيما بينها. وبوجه عام يمكن تفكيك هذا التكنيك لمجموعة من
العناصر والمكونات.
لأنواع الأزمنة المعروفة وهي: زمن النص والزمن التاريخي. وكلما كانت المسافة بينهما
أطول اقترب النص من معنى المدونة التاريخية.
وإن لهذه المسافة في مسرح صباح الأنباري عدة مستويات:
- أسطورية غير محددة ولها علاقة بنشاط الذهن.
- وشعبية تختصر عاطفة الأفراد المحرومين من الثقافة والتعليم دون أن تلتزم بفترة أو
حقبة معينة.
- وإخبارية تسجل وقائع معروفة من التاريخ الغابر والمعاصر.
أما بالنسبة لموضوعاته وعلاقتها مع التاريخ فهي أيضا من عدة أنواع.
1- يأتي في المقدمة كل ما له علاقة بتاريخ وذهن بلاد وادي الرافدين. وأقصد بذلك
التاريخ الحضاري لشرق نهر الفرات. و غالبا ما يكون التركيز على الوقائع الدامية
والصراعات والحروب. ولو وضعنا بعين الاعتبار أن المسألة تبدو من طبيعة الأمور وليس
تعبيرا عن الصعود الحضاري وما يستلزمه من توسع- ظاهِرُه التبشير برسالة المدينة
وباطنه التعبير عن منطق وروح الانفجار الاقتصادي، يمكن أن نفهم الأبعاد غير
الإثنوغرافية التي تنطوي عليها مسرحياته. فهو لا يعيد إنتاج المقابل الذهني
للأسطورة التاريخية التي تختص بالماضي ، ولا حتى المقابل لفكرة العلاقة الرحمانية
بين الشخص والأرض، بالاستناد لفكرة أمنا الأرض ومفهوم الأمومة المرتبط بالرحم وما
شابه، ولكنه يوظف مبدأ التحويل الفرويدي لفتح ملفات العنف والقهر والتناحر السياسي
ومن زاوية وطنيات عامة. وعلى هذا الأساس بكل بساطة نستطيع أن نقرأ ما كتبه عن
أوبشانيم والأمير أور زبابا وسوى ذلك بعد استبدال هذه الأسماء بما يقابلها من
شخصيات واقعية معاصرة. وبعملية إبدال بلاغية بسيطة تتحول أيضا هذه الأسماء لمصطلحات
أو موضوعات لها علاقة بأزمة المجتمع المعاصر وعلى رأسها الطاعة والولاء وفن الحكم
وما شابه. أو بتعبيره الشخصي ( مسألة العلاقة الافتراضية بين السلطات على الأرض
والسماء - مسرحية مذكرات كرسي ).
2- النوع الثاني وهو خاص بالتاريخ السياسي المعاصر. وتبدو رسالة صباح الأنباري هنا
واضحة وبلا تفاصيل. ولذلك لا يهتم برسم ملامح وقسمات الشخصيات. ولا يبذل جهدا
لتحديد طراز الهندسة المعمارية وتخطيط الشوارع والمدن. فهذا تحصيل حاصل ويرتبط
بمعرفة مسبقة في ذهن القارئ وبالتالي المُشاهد. وبالمقارنة مع أحمد يوسف داود الذي
قدم للمسرح العربي أكبر عدد من النصوص التاريخية نلاحظ كيف كانت التفاصيل في
الديكور والمباني والسمات والقسمات المحسوسة للشخصيات تلعب دورا في تمكين العلاقة
البصرية مع القارئ. إن الشك بقدرة القارئ - والمخرج أيضا في استكمال مثل هذه
التصورات يرتبط فعلا بالمسافة الزمنية التي تفصلنا عن زمن الأحداث.
ولذلك إن هذا الأسلوب يبدو أقرب لمعنى المسرح الاجتماع - سياسي. فهو يحمل علامات
نفسية فارقة تهم الإنسان المعاصر وقضايا المجتمع المدني كالطغيان والفساد وسوء
الإدارة في مختلف العصور. وبرأيي إنه بذلك يقدم أول إشارة على بدايات الحداثة، لأنه
يكسر المنطق الكلاسيكي المعروف للواقعية الطبيعية من تفاصيل في الشخصيات والمكان.
وفي الوقت نفسه يهتم بالقيمة النفسية للشخوص. وعليه يتحول اهتمامه من الكناية إلى
الاستعارة، ومن العلاقة الطبيعية للجزء بالكل، الى علاقات التشبيه الناقص. ويسجل
لغويا انخفاضا في عدد حروف وأدوات التشبيه. وهذه أول علامة حقيقية على الدخول في
عصر الحداثة برأي معظم النقاد.
3- النوع الثالث أسلوب السيرة الذاتية. ووجه التأكيد فيه العنوان الذي يبدأ دائما
بكلمة (مذكرات). وهل يتذكر المرء إلا الماضي الذي هو تاريخ غير مدون؟!..
ولكن يوجد فرق شاسع بين البيوغرافيا وفن السيرة عند صباح الأنباري. ويمكن دائما
ملاحظة عدة فواصل معنوية بين مجريات الأحداث والمونولوج. أهمها أن السارد من نمط
الراوي الذي يعرف كل شيء. وبالتالي هو الكاتب المسرحي نفسه الذي يمسك كافة خيوط
ومجريات الأمور بين يديه. ثم إنه نموذج أو رمز غير عاقل كالتمثال والكرسي والشجرة،
ولكن ينطبق عليه ما ينطبق على العاقل من السمع والكلام والشعور والرؤية. وكأنه
تمثال الأمير السعيد بطل قصة أوسكار وايلد. وهذا يؤهله ليلعب دور شاهد على عصره.
وليس على مرحلة محددة من التاريخ فحسب. وقد فعلت الأعمال الضخمة والثلاثيات
المعروفة ذلك، ولكنها كانت مشروطة بمنطق صراع الأجيال ودورات التاريخ، حيث أن كل
شخصية تمثل نفسها وجيلها، وبالتالي هي جزء من اللحظة النفسية للصراع.
بعبارة أخرى: لقد كانت كل فنون السيرة الذاتية شهادة على عصرها، ولكنها تحمل موقفا
شخصيا. فالذكريات هي موطن للتجربة الشخصية والخبرات المرتبطة بها. وغالبا ما يتم
استغلالها لتحديد موقف خاص من الزمان والمكان. حتى أن بعض أهم الروايات التي تعتبر
علامات فارقة في تاريخنا الأدبي كانت بضمير المتكلم وتستند على وقائع من الحياة
النفسية. وإذا كان من المبكر أن نبت بموضوع ضمير المتكلم في مونودرامات صباح
الأنباري يمكن أن نتلمس بدايات لتعويم المعنى، بحيث أنه يأتي من فوق الموضوع وهو
الصراع. مع الاحتفاظ بمكانته في المضمون والمغزى العام وهو الخطاب. فالأحداث في هذه
النصوص المسرحية القصيرة لها شكل تفسير حالة. وتعبير عن موقف نفسي من عصاب لشعور
عام.
4- أما النوع الأخير فيرتكز على مجموعة من العوامل والأساليب المساندة كالأسطورة
التاريخية غير المكتوبة والملاحم التي لها نصوص وقراءات متنوعة والسير الشعبية
والحكايات أو المرويات الشفاهية. وهي كلها ذات علاقة بتصوير المجتمع والذهن في
مرحلة غابرة من التاريخ. وإذا لم يعوّل صباح الأنباري عليها كما فعل سعد الله ونوس
وآخرون اهتموا بالتراث الشعبي، كوسيلة لمعارضة الذهن الرسمي المهيمن، فقد قدمت له
بعض الحلول الإخراجية لتغطية أحداث لها علاقة سببية ببعضها بعضا،
ولكنها تجري في أمكنة وأزمنة متباعدة.
لم تكن، إذاً، الحكاية في هذه المسرحيات متسلسلة، و لكنه الخطاب. بمعنى أنه اعتمد
على الفضاء الذهني العام للمشكلة المسرحية، وهذه إحدى العناصر الحداثية الأخرى التي
ربطت لديه رؤيته للتاريخ بمفهومه للتحديث.
لقد لعبت مثل هذه التقنيات نفس الدور الذي لعبه تيار الشعور، في أهم نصوص الحداثة،
عند جويس و فوكنر و وولف. ولم يكن ذلك مجرد تعبير عن روح رومنسية لا تستطيع أن
تتصالح مع نفسها. كانت اللغة والصور في أدب حداثة الستينات أداة ذاتية ووسيلة
للإعراب عن التبرم من النفس ومن موقفها إزاء العالم الشخصاني. وقل الشيء نفسه عن
جيل السبعينات، فقد تبنى هذه الرؤية الرومنسية المتبرمة والمريضة لينتقد بها واقعه
وذهنه. لقد كان حتى جيل السبعينات رهين المحبسين أيضا. لا الشكل من عندياته
والمضمون يدور في مدارات وهموم شخصية ذات ديكور واقعي أو سياسي عام. وكان الهم
الاجتماعي يقتصر على تحديد احتياجات الطبقة المفترضة. فهي طبقة مثقلة برغبات فرضتها
أدوات الإنتاج والسلع المستوردة. غير أن هذه النصوص لم تضع العودة للوعي بالذات
شرطا لتحقيق تاريخها، ولكنها انفصلت عن مخصوص الذات، وبدأت من لحظة اجتماعية لها
قوس أو طيف عريض.
**
لا نستطيع أن نؤكد أن لصباح الأنباري تراثا ملموسا في المسرح التاريخي. لأنه لا
تتوفر في مجمل مسرحياته الشروط الضرورية، و لا حتى الحد الأدنى منها، و أقصد بذلك:
1- الديكور و الأثاث و الأزياء: فهو لا يقدم و لو إشارة واحدة لبلاط في قصر أو لبرج
في قلعة أو ما يوازي ذلك. و يكتفي بتقديم الممثل على الخشبة من غير تفاصيل و كأنه
يهبط من الفضاء الكوني.
2- والفترة الزمنية لا تنتمي لأية حقبة. و يمكن أن تجري الأحداث اليوم أو في
المستقبل. وإن إحساس الدراما عنده لا يتكفل بمعنى الزمن. وبالعكس غالبا ما تكون
المشاهد متحركة وراء خطوط الأزمنة. وأحيانا كما في بعض مسرحياته المبكرة يدمج
المشهد الواحد أشخاصا من أحقاب وفترات متباعدة. إن العازل التاريخي أو جدار الزمن
لا يشكل عند صباح الأنباري أي عائق. ولذلك هو رمزي. ويتكفل الحدس باستبعاده تماما،
ثم تأتي مشكلة الميتافيزيقا الوجودية لتلغيه من قائمة اهتماماتنا بمعناه الدرامي.
وليتحول إلى قيمة سلوكية وأخلاقية مستمرة كما هي حال كل الأحفورات النفسية.
3- وكذلك بالنسبة للمكان. إنه خشبة المسرح، ولا شيء غيره. ويمكن لأي فضاء حركي أن
يكون حاملا لأداء الممثل. وهكذا يرادف الفضاء النفسي معنى المكان. وتتحول خشبة
المسرح والإظلام ودوائر الإضاءة إلى حامل لمعنى. وهذا بدوره هو القيمة الدرامية
ودلالتها. ولذلك يصعب علينا أن نحدد الخلفيات الأساسية للمثل. وبالمثل لا نستطيع
تعيين مصادره لا على مستوى المجتمع ولا الواقع. ومن الممكن له أن يكون غريبا، ليس
بالمعنى الفكتوري للغريب، ولا حتى بالمعنى الوجودي له. وإنما كما نفهم ذلك في أدب
الخيال العلمي. فهو قد يكون من سكان الفضاء. أو بكل بساطة من عالم آخر ليست مفاتيحه
بين أيدينا. وهذا يفترض بنا حيازة ملكات خاصة تجاه مفهومنا للتمثيل.. فهو قد يدل
على شيء غير المحاكاة الطبيعية ومحاكاة النواميس، ويعمل على شخصنة ما ليس له حدود
ملموسة أو صورة جاهزة في الذهن كالواقع النفسي واليوتوبيا الذهنية.
4- وأهم مما سلف رؤيته للصراع. إنه ليس معركة بين أضداد. ولم يسبق لصباح الأنباري
أن كتب عن معركة تاريخية ولو من بنات خياله. ولم يقدم لنا صورة متكاملة عن شخصية
واحدة من التاريخ القديم والحديث. وأفضل ما فعله بهذا المضمار تصوير العنف الناجم
عن سوء تقديرنا للتاريخ. وهو عنف غريزي وغير محدد. ويعبر عن المعنى الفرويدي لغريزة
الموت وما يرتبط بها من تهور وتشكيل لمعالم الشخصية الانتحارية أو المجرم أو
السفاح.
***
و هكذا يمكننا القول إن صباح الأنباري لا يكتب مونودراما أو دراما تاريخية بل إنه
يقتبس من معين التاريخ جزئيات تتساوى في أهميتها مع ما يقتبسه من الواقع. وهو يهرب
من مواجهة ما يجري تحت ضوء الشمس وفي حياتنا المباشرة وبعدة طرق. منها التفكير
السريالي الذي ينظر للواقع المادي كما هو نفسيا وليس كما يبدو للعين المجردة. ومنها
أيضا بالإحالات للذاكرة وأحفوراتها. ولذلك يمكن أن يكون أقرب لروح التجريب بنسخته
الحداثية، التي لا ترى ما حولها من الداخل ولكن من أعلى ومن خلف. وهذا يفترض
التركيز على مبدأ التغريب والاحتفاظ بمسافة بين العقل والنفس، كما هي كل فلسفة
الحداثة التي بشرت بها مدرسة فرانكفورت.
عموما توجد سوابق لمثل هذا الموقف التاريخي من الحداثة. خذ كتابات محمد الراوي على
سبيل المثال. لقد وضعت الأداة في خدمة الأسلوب، وكانت العلاقة عضوية، والرؤية تجد
ما يساندها من داخل التجربة الاغترابية لوجود يخرج من قوانينه. وإذا لم يلتزم صباح
الأنباري في النص الواحد بشكل محدد من الرؤية للتاريخ، فهذا فقط لأن الذات لا
تستطيع أن ترى الفضاء المناسب من داخل القانون المفروض لأية مرحلة. لقد وضع التاريخ
بالتوازي مع حياة الرموز الشخصية، أو بالتقابل معها. وكانت رؤيته وفق قانون دينامية
تحريك الدلالات والدوال، وهكذا قدم إضافة للمسرح التجريبي المعاصر، كما فعل في
مسرحياته الصامتة التي على ما أرى هي محطة أساسية في المسرح العربي.
***
لا يزال أمام صباح الأنباري شوط ليقطعه قبل تأصيل المونودراما، ضمن تجربته، سواء
بمفهومه للتاريخ أو الحداثة. فهو لم يقدم لحينه غير عدد محدود منها. و لكن هذا لا
يقلل من قيمة ما يفعل مع رفاقه الآخرين أمثال خالد الصاوي و المرحوم قاسم مطرود
ووليد إخلاصي، إلخ... إنه تمهيد لأسلوب مسرحي لا يزال في بداياته في عموم الأدب
العربي.
شباط 2013