التأصيل والتجريب في مسرح عبد الفتاح رواس قلعه جي
أمينة عباس
من هنا ابتدأ رحلته التي عززها ما وفرته الشبكة العنكبوتية من سبل الاتصال به
والتعرّف على شخصيته المتفردة والمتواضعة في آن واحد، ولم تختزل الشبكة ما بين
الأنباري وقلعه جي من بعد جغرافيّ هائل فحسب بل إنها ربطتهما بقرابة أدبية وفنية
وفكرية قلّ مثيلها، ووجد الأنباري كمتابع لمجمل منجز قلعه جي المسرحيّ أن من نتاجه
ما يرقى إلى مستوى الريادة فنياً وفكرياً، وقدحت في ذهنه شرارة فكرة الاحتفاء به
على طريقته الخاصة بالكتابة عن أهم ما يميز منجزه كمبدع مسرحي فوجد أن شاغله الكبير
في هذا هو تأصيل المسرح العربيّ والنهوض به عن طريق التجريب كضمانة لتطوره، فتناول
في فصول هذا الكتاب تأسيساته في التأصيل والتجريب، ولمّا كان التجريب المسرحيّ موضع
اهتمامه الكبير قرر تناول سيرته الذاتية بطريقة غير تقليدية فكتب سيرة ذات تجريبية
افتراضية مستنداً في هذا على اشتغاله الأساسي على نصه المسرحي “الفصل الأخير” الذي
افترض السيرة بطريقة درامية جديدة مسرحياً بعد أن وضع في مفتتح الكتاب ثبتاً بسنوات
الإبداع التي بدأت عام 1969 وانتهت بنتاجه الذي خصصه لدراسة المسرح الحديث.. وفي
الفصل الثاني وهو فصل مختص بالتأصيل كتب عن التراث وموجهاته في مسرح عبد الفتاح
رواس قلعه جي وتناول أهم مسرحياته التي استلهمتْ التراث بطريقة خلاقة منتجة كمسرحية
“سيد الوقت الشهاب السهروردي” ومسرحية “ليلة الحجاج الأخيرة” ومسرحية “النسيمي هو
الذي رأى الطريق” ومسرحيات “تشظيات ديك الجن الحمصي” ومسرحية “دستة ملوك يصبون
القهوة”.. وسعى الفصل الثالث “التجريب” إلى بيان وتحليل العملية التجريبية من خلال
إلقاء الأضواء على التجريب وموجهاته في مسرح عبد الفتاح رواس قلعه جي وتناول في هذا
الفصل مسرحية “الرجل الصالح أيوب” ومسرحية “فانتازيا الجنون” ومسرحية “مدينة من قش”
ومسرحية “باب الفرج”.
مثابة مسرحية سورية
ويوضح الأنباري في كتابه أن التأصيل الذي هو بصدده جعل غير الأصيل أصيلاً بإسناده
إلى جذر معرفيّ له خصوصيته وتاريخه وطبيعته الاجتماعية، ولم يجد الباحثون برأيه
والمشتغلون على التأصيل جذراً أفضل وأكثر فاعلية وهيمنة على العملية التأصيلية من
جذر التراث، ولمّا كان المسرح وافداً غربياً فرض حضوره على العملية الأدبية العربية
قام العاملون عليه بوضع أصول عربية له عن طريق العودة إلى الأشكال شبه المسرحية
العربية واستلهام التراث العربي شخوصاً وأحداثاً استلهاماً مشرقاً وابتكار الطرق
الفنية لتأصيله عربياً، وبما أن قلعه جي من الذين استرسلوا في مفهوم التأصيل
والتراث كان محور هذا الكتاب.
ويشكل قلعه جي مثابة مهمة من مثابات المسرح السوري والعربي المعاصر ويمتاز ككاتب
مسرحيّ باشتغالاته على التراث بنية أساسية من بنى تأصيل المسرح العربي، وتتأسس
اشتغالاته على استلهام المادة التراثية استلهاماً فنياً فكرياً مشرقاً لأنه ينطلق
إلى فضاءات المعاصرة وهو لا يراوح في ماضي التراث بل يعمل بدينامية على جرّه إلى
الحاضر القائم وإسقاطه عليه، وتكاد هذه الاشتغالات تنحصر في اعتماده على شخصيات كان
لها أثر واضح في حياة الناس، ولعلّ أبرز هؤلاء الشخوص في تراثنا العربي الإسلاميّ
هم المتصوفة الذين امتازوا بعطائهم الفكريّ المشرق ونزوعهم إلى الحقّ بأسلوب
صوفيّ
خالص مثل الحلاج والسهروردي والنسيمي وجلال الدين الرومي والتي يروق لكاتب مثل قلعه
جي تناولها بصفاتها ومواصفاتها.
ويشير الأنباري إلى أن قلعه جي وجد فيها تعويضاً شعرياً عن هجره للشعر في الكتابة
المسرحية فهي شخصيات امتازت بمكانتها العالية في الإبداع الشعريّ الذي فاق في جوهره
وصوره الكثير مما كتبه مجايلوهم من الشعراء، مبيناً الأنباري أن قلعه جي لم يكتفِ
بكتابة النص التراثيّ بل تخطى ذلك إلى التنظير ضمن دائرة اهتمامه فكتب العديد من
المقالات في مجال التراث، ومثلها في النقد المسرحيّ نظرياً وتطبيقياً، فضلاً عن
تناوله بالدراسة والتحقيق بعض الشعراء المتصوفة مما خلق لديه أرضية خصبة لإنبات
بذرة مسرح عربيّ خالص اشتغل على تأصيله بروح تجريبية ما انفكت تقدم الجديد مجترحةً
الأشكال الفنية المختلفة ومصاهرة بينها من جهة وبين التراث والمعاصرة كما في
مسرحيته “تشظيات ديك الجن الحمصي” من جهة أخرى.
كتب قلعه جي عدداً غير قليل من المسرحيات التي تعنى بالتاريخ والتراث كـ “هبوط
تيمورلنك-اختفاء وسقوط شهريار-جلال الدين الرومي-السهروردي-النسيمي-ليلة الحجاج
الأخيرة”.
....................................................................
هذا المقال رقم : 31
of 50
من العدد
15181-تاريخ 07-11-2014
الكتاب صادر عن اتحاد الكتّاب العرب ضمن سلسلة الدراسات ويقع في 101 صفحة.