ملحق اوراق.. جريدة المدى
آفاق :تجليـات السـرد
سعد محمد رحيم
يخوض
الناقد والكاتب المسرحي صباح الأنباري تجربة الكتابة عن عوالم محيي الدين زنكنة
السردية، وتحديداً في مضمار القصة القصيرة، وذلك في كتابه (تجليات السرد وجمالياته
في قصص محيي الدين زنكنه/ الموسوعة الثقافية/ بغداد 2011).. وإذا كنا نعرف زنكنة
صائغَ نصوص مسرحية كبيرة مثل (السؤال، العلبة الحجرية، رؤيا الملك) وروائيا من
الطراز الأول كما في أعماله
(ئاسوس، بحثاً عن مدينة أخرى، ثمة خطأ ما في مكان ما) فإن معلوماتنا عن إبداعه القصصي ضئيلة إلى حد ما، لاسيما أن حجم هذا الإبداع بالقياس الكمي أقل بكثير من منجزه في الحقلين الروائي والمسرحي. غير أن هذا لا يقلل من قيمة ذلك الإبداع القصصي الذي تمثل في كتابيه (كتابات تطمح أن تكون قصصاً) و(السهل والجبل) وفي قصص أخرى نشرها في الصحف والدوريات.
ينبئنا الأنباري في مقدمة كتابه بأنه بصدد المعاينة النقدية لقصص زنكنة التي كتبها
بين عامي (67 ـ 1986) أي أنه سيكتفي بدراسة القصص المتضمنة في مجموعة زنكنه الأولى.
أما المنهج الذي يعدنا به فهو الذي يفضي إلى "إمكانية التوغل في أغلب قصص زنكنه
وسبر أغوارها واستبطانها واستقرائها وتحليلها وتصنيفها اعتماداً على قواعد وشروط كل
نص من نصوصها". أي أن الناقد يسعى إلى دراسة القصص في ضوء ما تقترحها القصص نفسها،
وما تكشف عنه من أساليب وبنى فنية ورؤى وجودية وإنسانية. ويعود الأنباري في الصفحة
التالية ليتحدث عن تناوله لسيرة القاص منذ طفولته ليبين "حدود تأثره بالأحداث
المريعة وتأثيرها في أغلب قصصه القصيرة"، وليبين "أيضاً المهيمنات والموجهات
لأعماله القصصية والروائية". وهذه التزامات عسيرة وعدنا الأنباري بتحقيقها في متن
دراساته عن القصص. وأعتقد أنه، وبسبب محدودية المساحة المتاحة له، اكتفى بالكشف عن
الموجهات الفكرية، والرؤية إلى الذات والمجتمع والعالم في تلكم القصص. وهي
الموجِّهات والرؤى التي ستفعل فعلها في تشكيل بنى النصوص والطريقة التي تعامل بها
القاص مع الشخصيات والأحداث وقبل ذلك مع اللغة القصصية وأسلوب تحديد النسق السردي
لكل قصة. ولم يسهب في الحديث عن المسائل الفنية ـ الشكلية والجمالية. وعموماً
"فالشكل، عنده (زنكنه) ينمو من رحم الفكرة ويكبر معها حتى تتضح ملامحه الفنية" على
حد تعبير الأنباري.
في تقصيه عن مرجعيات أدب زنكنة يشير الباحث إلى طفولة تعاني الحرمان، وعسف الأب
وسطوته، وحادثة كاور باغي الشهيرة في كركوك في العام 1948 والتي شهد بسالتها
ودمويتها محيي الدين الطفل فتركت في نفسه أثراً عميقاً. فضلاً عن تحدره القومي
الكردي، وما يوحي به من معاني التعرض للاضطهاد من قبل السلطات الديكتاتورية،
والكفاح في سبيل الحرية. على الرغم من المنحى العام لتفكيره والذي يظل ذا أفق
إنساني وتقدمي.
يلاحظ الناقد أن قصة (السد يتحطم ثانية) تفصح عن ثيمتها منذ السطور الأولى. وهذا ما
سيدفع بالقصة إلى الأمام. ذلك "أن الإصرار الكامن في رحم جملة القصة الاستهلالية
(السد تحطم ثانية) هي النذير والبشير بما سيؤول إليه مصير السد في النهاية". وزنكنة
الخبير في الكتابة المسرحية يطوّع عنصر الدراما الأساس (الصراع) لجعل القصة تنمو في
مسارها الفني المناسب. أما في قصة (سبب للموت.. سبب للحياة) فيشير الناقد إلى
خاصيتي الاختزال والتركيز التي برع زنكنة في الاستفادة منها في بناء قصته من غير
زوائد تثقل البناء وترهِّله.
يستخدم زنكنه، بحسب الأنباري، الرمز والإشارة في كتابة قصته.. ينوب الجزء عن الكل، ويوحي الحدث الواحد بدلالات التجربة برمتها. وإذا كانت الدراما تتداخل مع الشكل السردي في معظم قصص زنكنة، فإن الحلم يمتزج بالواقع، مثلما نجد في قصة (حيث الناس يعيشون كالهواء). وينعكس اضطراب الخارج على دواخل الإنسان، كما في قصة (اضطراب في ألوان النهار). ويتخلق تآلف هارموني دقيق بين الرمز والواقع، كما في قصة (الشمس، الشمس).
ذلك بعض مما يعالجه صباح الأنباري، بعمق، في كتابه الآنف الذكر.