ثنائية التناقض بين الواقعي والرمزي
2/2
ملحق ثقافي
الثلاثاء 6/9/2005
د.حمدي موصللي
خلصني أرجوك. سديد: (يحاول تخليص الخادم من أبيه) أبي ((الأب يترك الخادم ينفلت منه ليمسك بسديد) أبي.. ماذا تفعل.. انك تهاجمني (يصرخ به) أبي الأب: ((ينتبه لنفسه)
ها.. سديد.. ماذا حدث.. ما سبب كل هذا (المصدر المسرحية) ـ وتستمر الأحداث إلى أن يصل أخيرا الفنان الذي رسم اللوحة برفقة أحد أتباع الأب الأمنيين بالقوة (رجل مخابرات)،ثم يحاول الأب أن يعتذر بلباقة عم فعل به رجل الأمن (المحضر) مؤكدا غباء هذا الجهاز الذي لا يفرق بين الفن وغيره. ويدور حوار طويل بينهما عن الفن والطبيعة وعن ابتكار مصطلح الواقعية السحرية الذي تبناه الفنان لتوضيح الطريقة التي بواسطتها يعبر عن فهم الطبيعة.. إلى أن يأخذ الحوار طابع الصخب والانفعال في عدم فهم الآخر (الأب) للفنان..الأب الذي يصر على المسألة السحرية (الشعوذة) والفنان الذي يصر على الحالة الإبداعية للفن من خلال عمل الألوان والفرشاة.. الفنان: أنت تحاول اتهامي بالشعوذة.. أليس كذلك؟ الأب: كلا.. لكني، فقط، أريد التأكد من قدراتك السحرية الفنان: يبدو انك أخطأت في طلبي يا سيدي..فأنا لست الشخص الذي تريد.. أنا فنان.. مجرد فنان يتواصل مع العالم والحياة من خلال فرشاته وألوانه.. ولا يعرف أي شيء عن الشعوذة (المصدر المسرحية). ويصر الأب على أنَّ الفنان قد مارس السحر فجعل عقارب هذه اللوحة أداة تدمير موجهه له بغرض تدميره والقضاء عليه ,تبدأ عملية الأبتزاز والتهديد من قبل الأب للفنان الذي يرفض كل أساليب الإغواء المادي وحتى التهديد بالقتل الأب: (متراجعا) معك حق.. لا أحد، اليوم، يقوم بعمل دون مقابل.. سأمنحك عشرة آلاف دينارا عن كل عقرب تحوله الى فراشة الفنان: عشرة آلاف فقط؟ الأب: لا. سأمنحك مكافأة إضافية.. بضعة آلاف أخرى الفنان: آلافك، هذه، يا سيدي، كلها، لا تعادل تغيير عقرب واحد الأب: حسن.. أنا موافق الفنان: موافق؟ على ماذا؟ الأب: على دفع هذا المبلغ لقاء كل عقرب من عقاربك الفنان: وأنا غير موافق الفنان: حين تكتمل اللوحة وتعرض للناس فإنها تصبح ملك مرحلتها.. لا ملك الفنان الذي أنتجها الأب: هذا يعني انك تريد رفع ثمنها الفنان: الإبداع لا يعادله ثمن مهما كان الثمن باهظا (المصدر المسرحية). والقتل برأيي الأب هنا هو قتل الإبداع (مرهون بقتل الفنان وتحطيم الريشة وبعثرة الألوان..) أي تحطيم اللوحة وما فيها من زهور وحتى العقارب والتي هي انعكاس داخلي لحالته المتسلطة الأنانية (الأنا العليا) وقتل العقارب يعني (قتل الأب.. انعكاس سيكولوجي للحالة التي هو عليها ) الأب: ينظر الى الرجل ذي المعطف الطويل الذي ما يزال واقفا يصغي عند الباب.. أنت.. تعال (يشير برأسه الى الفنان فيسحبه بقوة نحو الخارج) توقف (يتوقفان) لن اسمح لك بمقابلتي ثانية الا والفرشاة بيدك.. هل فهمت (الفنان يكتفي بابتسامة معبرة خفية تشير حنق الأب) خذه (يخرجان. الأب يتوجه الى اللوحة) لقد أرسلته الى الجحيم (يشير في اثر الفنان) وسأجعلك تلحقين به الان أيتها الفاجر (يتقدم منها اكثر وسأجعل من زهورك، هذه، وقودا لجحيم لم يحلم به ساحر يوما (يتقدم اكثر) وسأرمى رمادك على اكبر مزبلة في المدينة.. ها.. هل.. تعتقدين أنني خائف منك أو متردد في تنفيذ ماأريد.. حسن.. حسن.. سترين ان سحرك كله غير قادر على الوقوف بوجهي.. وان لا أحد يستطيع عصيان أمري.. ما أريده هو الذي ينفذ.. وما تريدينه أنت ليس سوى هراء.. هل تسمعي (المصدر المسرحية). أخيراً ينفذ وعيده متحديا اللوحة وعقاربها بالقضاء عليها.. يهجم عليها بالوقت الذي نسمع به المؤثرات ذاتها التي حدثت في المشهد الأول حيث نرى و نسمع الأصوات والمؤثرات الغرائبية نفسها. ونرى الإضاءة تخفت قليلا ثم تطفأ ليبرق الضوء عدة مرات خلال تقدم الأب وتراجعه أمام اللوحة. وما ان يظلم المسرح حتى نسمع صرخة الأب. تفتح الإضاءة خافتة على المسرح. نرى الأب في وسط الخشبة ماسكا يده.. متألما غير مصدق ما حدث. يستمر وقوفه وتحديقه باللوحة لفترة وجيزة.. تختفي بقعة الإضاءة، من عليه، تدريجيا مع الموسيقى لتضاء اللوحة، في الوقت نفسه، تدريجيا أيضا مع الموسيقى. تستمر الإضاءة مركزة عليها مدة قصير قبل أن يسدل الستار (المصدر الأخير المسرحية). هل مات الدكتاتور، السيد، المستغِل بفتح التاء وكسر الغاء،المتسلط (الأب) كلها رموز لشخصية قالت أنا (الأنا).. الرأي الفني المكان: جاء مكملاً للحدث و ملازما له في آن واحد (مترف ومحدود).. وقد أجاد الكاتب استغلال المكان بطريقة جيدة ساعدته عناصر السينوغرافيا الأخرى في عكس تفصيلات الحالة،و أ برزت جمالياً علاقاتها المختلفة على الرغم من تناقضاتها ضمن نسيج الحدث. / اللوحات ـ المؤثرات على مختلف أشكالها / الزمن: ملازما للمكان مقيد،ولا يمكن فصله عنه وهو الفترة الممتدة منذ لحظة بداية المشهد حتى موت الأب. بعدها يصبح حرا غير مقيد (لأن الزمن في النهاية هو طليق).. ولأن المقولة الأخيرة للمسرحية تعني الإنعتاق.. الشخصيات: أجاد الكاتب بتقنية المحترف رسم شخوصه،ولعل شخصية الأب (المتسلط) وما حملها من أفكار ونوازع للشر والتسلط وحب السيطرة / تعكس صورة واقعية للحدث الراهن لكثير من الشخصيات المخيفة على الصعيدين العام (ملك جائر ـ حاكم دكتاتور ـ عسكري قائد وعسكر مجرمون وشعب مقهور) وخاص (عائلي ـ طائفي ـ قبلي ـ عشائري ـ أُسري ) كلها رموز لواقع راهن ويومي ضاقت بها مساحات الأوطان. أما شخصية الفنان (بقعة الضوء ومبعث الأمل في هذه المسرحية) وهي مشكلة في حياتنا الثقافية والفنية وهي (كيف يمكن للفنان أن يحافظ على عطاءاته ومستواها والتزامه بأفكاره التي يريد لها أن تكون فاعلة وبناءة وسط انحدار الفن على أيدي البعض،وتوجهه نحو مستويات تجارية / المرأة التاجرة وداد /. أما بقية الشخصيات فكانت عادية مكملة يمكن الاستغناء عن بعضها وهذا لن يؤثر على استمرارية الحدث وشفافية الفكرة في النهاية. (شخصية الابن نوار أو شخصية أحد الخدم مثلاً).. الرأي الفكري مجموعة من الأفكار المطروقة والعادية صاغها الكاتب،وعبر عنها رمزياً بفكرة أحادية الجانب تعني (الإنعتاق أو الحرية) بأسلوب أخرج هذه الأفكار من سطحيتها ودلالات معانيها ليعمل على صهرها في بوتقة واحدة بعد أن غاص بعمق إلى مكوناتها الداخلية ليعكسها على شكل لوحة قالت الكثير مم نطمح أن نقوله نحن،وإن شابها المباشرة أحياناً. اللغـــة المسرحية جانب التخيل في اللغة / التكنولوجيا الحديثة باتت كفيلة اليوم أن تغني الكاتب المسرحي عن اللجوء إلى تلك الخدع اللفظية /.. ما أردت قوله أن الحشو اللغوي الذي يضاف عادة للنص الدرامي للحاجة لم يعد مطلوباً وهذا يعني أن كاتباً عظيما كشيكسبير لو كان يعيش في عصرنا لاستغنى عن تلك الزيادات كما يقول الصديق وليد اخلاصي ـ على كل حال هذا الكلام لا يخص اللغة المسرحية في مسرحية زهور وعقارب ـ وعند الحديث عن جانب التخيل في اللغة في المسرحية المذكورة جاء التكثيف اللغوي ليكمل ببراعة رسم اللوحة التي اتكأت المسرحية عليها..هذا الجانب عزز مقولة المسرحية فهرب من السردية إلى الاختصار والتبسيط، إضافة في أنها أسهمت في تقليل الأخطاء التقنية التي يقع فيها الكثير من كتاب المسرح عند رسم الحوار. باختصار: الحوار جاء في معظم التراكيب / لين ومرن ـ سهل التركيب والحفظ بالنسبة للممثل ـ دلالاته السيميائية واضحة ومعبرة عن الحالات والإرهاصات لدى الشخصية بشكل جيد وواضح/.. مآخذ على تقنية النص لاحظ: نوار: أبي أسرع.. أرجوك (يعتصر نفسه) سيقتلني السم. جملة يعتصر نفسه في وسط الظلام غير مرئية للنظارة ومحسوسة بالنسبة للقارئ وحملة: نوار: (صارخا متألما) نادي على خادمي بدل وقوفك، أمامي، كالأبله وحملة نادي على خادمي / طالما أن الأب هو الذي يحق له أن يملك ويأمر..الخ فلا يجوز لهذه الجملة أن تقال على لسان الابن ولأن الابن نوار لا يملك سوى هذه الجملة على لسانه وبعض الصراخ ثم يختفي في المسرحية نهائيا وبالتالي ستترك هذه الجملة تفسيراً آخرا وتساؤلاً في الذاكرة. الطبيب: شيء أجهله لعدم حدوثه من قبل.. حضرتك تعرف أنني تخصصت بدراسة السموم كلها ولكنني لم اعرف سما بإمكانه أن يفعل ما فعله هذه السم الغريب بذراع شقيقك.. لذا حقنته بمضاد حيوي و أرسلته الى المستشفى لإجراء المزيد من التحاليل المختبرية جملة إنني تخصصت بدراسة السموم.. هذه من اختصاص أطباء الجرثوميات (العاملين في المخابر الخاصة والشرعية والكيمياء) وبالتالي طالما أن الطبيب هو طبيب العائلة أو الأب كما جاء ذلك على لسان الأب يفضل حذف هذه الجملة.. ـ بالإضافة إلى بعض الهنات هنا وهناك..وهذا لا يقلل من أهمية النص المسرحي الجميل الذي يهب نفسه مباشرة للخشبة..
..........................................................
1 ـ فريدريتش دورينمات / مشاكل المسرح / problems of theatre..new York ,1958 - p.30ـ راجع ـ the dark comedy - the development of modern- comic Tragedy - J.H.STYAN /1968ـ منشورات وزارة الثقافة السورية /
1976/.. 2 ـ المصدر السابق
3 ـ R.Peacock ,The Art of Drama - (London 1957) P.189 / كتاب فن المسرحية / 4 ـ بولونيوس والد أوفيليا في مسرحية هاملت لوليم شكسبير
5 ـ ولد الناقد والكاتب المسرحي صباح مسلم عبود (صباح الانباري)عام 1954 /عام 1976 تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة ـ بغداد/قسم الفنون المسرحية/ من إصداراته ثلاث مسرحيات صامتة عن اتحاد كتاب العرب بدمشق بعنوان (انفلاق الزمن) وهي مسرحيات من الخيال العلمي. وله مؤلفات أخرى في البحث (البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنة وكتاب آخر بعنوان (ارتحالات في ملكوت الصمت وهي مجموعة مسرحيات صامتة.)..عن الانترنيت ـ موقع مسرحيون