الجرأة على النص

    من بين الملامح التي ظهرت خلال هذا المهرجان المسرحي (مهرجان أوال المسرحي) , ملمحٌ برز في عرضي (الصرخة) للفنان طاهر محسن،و(الجلف) للفنان عبد الله سويد ، وهو ملمح الجرأة على النص المسرحي خلال التناول في الإخراج.

فقد بقي النص المسرحي متسيّداً فكرياً (خفياً) للعرض المسرحي، يشتغل المخرج المسرحي من خلاله  أو به،دون أن يحاول أو يفكر في الخروج عليه.

وكأنما يتوجّب على المخرج دائماً أن يكون تابعاً .. أو على الأقل متساوقاً مع النص،لا ندّاً له..ولا خارجاً عليه .

وبقيت هذه الفكرة مترسّخة في المسرح لأنها تخفّت داخل سياق خفي يتمثل في الآلية التي تتم من خلالها عملية اختيار النص المسرحي من قبل المخرج،فبقي السؤال الدائم لاختيار النص المسرحي(سؤال ما إذا كان النص قد أعجب المخرج)  مسيطراً على عملية اختيار النص،ومن ثم على العلاقة الجدلية التي لم تنشأ،وكان من المفترض أن تنشأ بين النص من جهة والمخرج من جهةٍ أخرى  .

لا أعتقد بالطبع أن سؤالاً كـ(هل أعجبني هذا النص ؟ قطعاً لا .. حسناً , سأقوم بإخراجه) قد طرح من قبل المخرجين،ولكني أجزم بأن سؤالاً من قبيل سؤال التوافق بين النص والمخرج قد طُرح من قبلهما،وهنا تكمن النظرة الغيرية في تناول النصين لدى المخرجين .

سؤالٌ كهذا،ونظرةٌ كهذه،أوجدت لنا عرضاً قد نختلف عليه،أو نتفق معه كعرضي ( الجلف) و(الصرخة) ولكننا بالتأكيد شهدنا نوعاً بسيطاً من كسر سلطة النص على العرض المسرحي .

ولا أعتقد أيضاً أن هذه الجرأة على النص المسرحي في نظر المخرج قد تختلف باختلاف المؤلف أو بتباين قيمته الفكرية،فحين نقارن بين تعامل  المخرج عبد الله سويد مع نص لتشيخوف،وتعامل المخرج طاهر محسن مع نص عربي لصباح الأنباري،نكتشف أن ثقافة النص كانت هي المحرك الأساسي للتعامل معه،ولم تكن القيمة الفكرية للمؤلف.

فقد تعامل الفنان عبد الله سويد مع نص تشيخوف على أساس أنه مادة مختبرية قابلة للنقاش وللتأويل،عندما حرّر نصّ العرض المسرحي من ثقل الدلالة الواحدة التي شُحن بها النص،فحاول الذهاب بالعرض صوب أكثر من دلالة وأكثر من إيحاء عندما رسم مشاهد المسرحية بالطريقة الكاريكاتورية المبطّنة التي ظهرت من خلال أداء الممثلين،ومن خلال اختزال السينوغرافيا،ومن خلال رسم الحركة، بل ومن خلال المؤثرات الصوتية أيضاً.

والتباين الواضح في البيئات التي أخرج عنها سويد شخصياته والتي برزت أيضاً بذات الطبيعة الكاريكاتورية،وضعت المتلقّي أمام إشكالية لم تكن موجودة في النص الأصلي،لم تتمثّل في تصالح الطبقات،كما يذهب تشيخوف في نصه،بل تمثّلت في تحفيز حساسية المتلقي (البحريني هنا)،تجاه قضايا قريبة من قضية الطبقات مثل الطائفية.

وبرغم أني لا أزعم أني قادر على إيجاد قرائن كافية  لما سأقوله،إلا أن ظنوني تنبئني أن سويد سحب النص من النظرة التصالحية بين الطبقات في النص،باتجاه العلاقة التضادية المربكة بين الأطراف السياسية في البحرين خصوصاً،وفي العالم عموماً،معتمداً على الكاريكاتورية موصلاً لمثل هذه الأفكار،وذلك لما تحمله هذه الكاريكاتورية من دلالات باتجاه كل ما هو سياسي أو اجتماعي،ومعتمداً أيضاً على تلك البساطة والحدة التي تميّز هذا الفن .

وفي العرض الثاني (الصرخة) للمخرج طاهر محسن،كنا نجلس لنرى نصاً مأساوياً بامتياز، ومشحوناً بالغضب والتحدي الواضح لكل السلطات،فكان بطل النص الفنان عصام ناصر يمثل بؤرة هذا التحدي،في تحديه الدائم للمخــــرج (الديكتاتور)،وللأوامر العسكرية التي تصدر له،وفي رفضه الموت وقتما يشاء المخرج،أو الديكتاتور،في الحرب الغبية والساذجة والغير ذات جدوى .

كل ذلك كان باهتاً ومموهاً خلال العرض المسرحي أو خلال النص الذي يفترضه طاهر محسن،فكانت الشخصية عنده تتكئ على حالة الهوس،أو التوهمات،أو التقمّص الكلي للشخصية في المسرح،وعوضاً عن أن يوضّح أو (يفسّر) لنا الحالة المأساوية في النص المسرحي،اختار الفنان طاهر محسن أن يذهب بالنص تجاه ما يريد هو لا ما يريد المؤلف، أوما يريده النص .

فكانت الحالة النفسية (للمثّل) أكثر وضوحاً وترسيخاً خلال العرض من الحالة النفسية للجندي،وكانت المسرحية داخل المسرحية هي الثيمة الأساسية للعرض من الفكرة الأساسية التي أرادها صباح الأنباري في نصه المسرحي،والتي تتمثل في عدمية الحرب،ورفض الأوامر الديكتاتورية التي تصدر بلا مبرّر من قبــــل ( الديكتاتور/ المخرج ).

ومهما بلغت درجة تقبّلنا لما أراد العرضان المسرحيان قوله خلافاً لما كان المؤلف يريده،ومهما اختلفنا في تأويل النصين،وفي تأويل العرضين،ومهما كانت درجة التوفيق في خلق معنى من معنى آخر،أو خلق نص للعرض المسرحي من نص مسرحي مكتوب،فإن ما يمثله العرضان من جرأة على النص المسرحي،ومحاولة تناوله بصورة أخرى،والتفكير من خارج النص المسرحي،هي أفكارٌ نتمنى أن تترسّخ في عروض مسرحية مقبلة.

 من مدونة  مهدي سلمان

 الاحد, 31 ديسمبر, 2006