تمثلات لغة الفعل في مسرحية

(في حارة المظلوم صمت الجميع ونطق الدم) لصباح الأنباري

 

د. سلوى النجار

مسرحية (في حارة المظلوم.. صمت الجميع ونطق الدم) من المسرحيات الصامتة، ومفهوم المسرحية الصامتة يتمثل في أنه نوع من المسرحيات تتأسس على نوع سابق هو (البانتومايم). والبانتومايم مسرحية يتم تقديمها عن طريق ممثل أو عدد من الممثلين يمتلكون مهارة تقليد موقف أو شخصية عن طريق استثمار الطاقة الحركية أي الأداء بلغة الجسد، أداء يتجسد فيه التعبير والإيحاء والإشارة بدرجة كبيرة. أما المسرحية الصامتة فيتم تأليفها نصا من قبل الكاتب وعرضا من قبل المخرج بالاعتماد على الممثل وقدرته على التعبير الحركي والإيمائي من خلال تكثيف استثمار طاقة لغة الجسد، وتتضمن مشكلة من المشاكل التي يعيشها الإنسان على وجه الأرص، وتسعى من خلال ذلك الى التأثير في المتلقي/ المتفرج، وهذا الأمر يكمن في مدى حضور الفكرة في موضوع المسرحية، وقدرة الشخصية وقابيتها على التأثير في تأجيج مشاعر وعواطف المتلقي/ المتفرج، الى جانب الاستعانة بالموسيقى والديكور، فهذا النوع يمكن أن نقول عنه إنه فن يتجلى فيه الصمت في مقابل الحاجة الماسة الى الكلام حتى يبدو الصمت هو الكلام، ويقدم المسكوت عنه من الموضوعات في وقت يسود فيه الخوف بسبب قمع الحريات وغيرها من الأسباب. قامت المسرحية الصامتة في الأساس على المحاكاة الصامتة، إلا أنها اختلفت عن البانتومايم في أنها تضمنت شروطا أهلتها لتكون قابلة للقراءة والعرض بوصفها نصا احتوى على قصة، فيها حبكة تقوم على بداية ثم تأخذ بالتطور، حتة تتأزم فتصل الى الذروة ثم تنفرج، وشخوص تقوم بتجسيد فعل ما بمهارة وتقنية عالية من الأداء الحركي الإيمائي التعبيري، والذي يتم من خلاله تقديم صورة لفعل ما أو قضية ما، الى جانب الاعتماد على الفنون الأخرى، وجميع هذه المقومات تتواشج لمعالجة أو تقديم قضايا إنسانية، قد يصعب البوح بها بصورة مباشرة.

   فالمسرحية الصامتة هي ذلك النص القابل للقراءة والعرض، وأول نص مسرحي صامت وصل الى القراء هو نص بيكت المترجم (فصل بلا كلمات). وقد أشار الى هذا النص الكاتب صباح الأنباري في المبحث الأول من مجموعته المسرحية الكاملة (المسرحيات الصوامت) والذي جاء بعنوان (المسرحيات الصوامت من الفعل الى التجنيس).

   والأنباري عرف بوصفه ممثلا، ومخرجا، وناقدا، وكاتبا للنصوص المسرحية، إلا أنه تميز في حقل التأليف المسرحي بكتابة مسرحيات، أصدرها ضمن مجموعات صنف قسما منها بالمسرحيات الصائتة، والقسم الآخر بالمسرحيات الصامتة،

ومسرحية (في حارة المظلوم.. صمت الجميع ونطق الدم) مسرحية صامتة، وأول ما يواجهنا فيها عتبة العنوان، تلك العتبة التي تعد من العتبات النصية المهمة، لأنها تكون بمثابة الهوية للنص تدل عليه، فهي تمثل شبكة دلالية تقوم على إثارة انتباه القارئ وتغريه للولوج الى متن النص، للكشف عن شفرات النص، واشتغالات النص على مستوى البناء والفكرة، وتتشكل من مستويات عديدة منها المستوى التركيبي، والمستوى الجمالي، والمستوى الدلالي، ويتمثل المستوى التركيبي للعنوان في الصياغة النحوية المستندة على تقديم الجملة الفعلية على الفعل والفاعل، فجملة العنوان (في حارة المظلوم .. صمت الجميع ونطق الدم) جملة فعلية تقدم فيها الجار والمجرور (في حارة المظلوم) المتعلقان بالفعل والفاعل (صمت الجميع) أي (صمت الجميع في حارة المظلوم) فالجملة الفعلية فعلها ماض، يفيد تحقق وقوع الفعل في الزمن الماضي، وتقديم متعلق الفعل والفاعل أي الجار والمجرور يفيد التركيز على مكان الظلم، أي صار المكان ظرفا للمظالم، وكأن المتكلم إذا ذكر المكان ذكر المظالم.

   في حين ظهر العنوان في المستوى الجمالي بشكل معبر عما يريده الكاتب من تركيز على الفكرة التي ضمنها في المسرحية عن طريق كتابة عبارة (في حارة المظلوم) المتعلقة بالجملة الفعلية في السطر الأعلى، بينما جاءت الجملة الفعلية في السطر الذي يليه، وبهذا أراد أن يثير انتباه المتلقي الى أهمية شبه الجملة (في حارة المظلوم) بالنسبة للجملة الفعلية، أي أهمية هذا المكان لكونه بمثابة الشاهد على تحقق فعل الظلم.

   أما في المستوى الدلالي فان العنوان يوحي باستحضار المكان والتركيز عليه بوصفه رمزا للظلم الذي يقع بسبب الحوادث الكيدية، بل وقد تتكرر عبر العصور، فجاء الاسم (حارة المظلوم) مناسبا للموضوع الذي ركز عليه الكاتب في المتن، فتمون جملة (ونطق الدم) المعطوفة على (صمت الجميع) أيقونة ترمز الى صورة الظلم حتى وان صمت الجميع، لا سيما وان العنوان تعالق من حيث المضمون مع حادثة وقعت في احدى الحارات في المملكة العربية السعودية. (ويكيبيديا).

   والمسرحية في بنائها تتكون من خنس مصمتات أي مشاهد، إذ تبدأ الحبكة فيها من حادثة القتل التي تصيب أحد المارة من أمام محل لبيع الفول، ويتهم صاحب المحل ظلما بتهمة القتل في المصمت الأول في حين يعرض المصمت الثاني ظلم صاحب الشرطة حين يدخل مع الشرطة الى محل بيع الفول، ويأمر الناس بالخروج من المحل، كي يبقى هو وأفراد الشرطة لتناول الفول من دون دفع مبلغ الطعام، بل ويقوم بضرب يد صاحب المحل بالعصا حين يحاول طلب مبلغ الطعام منه.

   وأرى أن هذا المصمت لو تم تقديمه قبل المصمت الأول، بوصفه تمهيدا لما سيحدث لكان أكثر إقناعا للمتلقي/ المتفرج وذلك لأن تجسيد مشاهد الاستبداد في أكثر من موقف، سيقنع المتلقي بما يأتي من مواقف أكثر قسوة وظلماً.

   والمصمت الثالث يقدم لنا غرفة التحقيق وفيها المتهم (بائع الفول) مع صاحب الشرطة واثنين من الشرطة يقومان بتعذيبه، كي يجبر على التوقيع بانه هو القاتل. وفي هذا المصمت يقدو الكاتب طريقة التعذيب من خلال الوصف كما في النص "يضرب بقوة على المنضدة فيستدير الشرطيان ومعهما بائع الفول، ضربة قوية أخرى يقوم أحدهما على إثرها بشق رداء بائع الفول كاشفا عن ظهره، يمسك الشرطيان كفي بائع الفول ويسحبانها بقوة الى الجانبين حتى لم يعد بائع الفول قادرا على الحركة----- يسوط صاحب الشرطة ظهر بائع الفول ثانية وثالثة ورابعة وهو يضحك بهستيرية وجنون، يعود بعدها الى منضدته يحمل الورقة ملوحاً بها أمام وجه بائع الفول---"، فيشير بائع الفول برأسه علامة رفض الأمر---"، وهنا يبرز طرفا الصراع، الطرف الأول الذي يمثل القوة المتسلطة الحاكمة، والطرف الثاني الذي يمثل القوة الواقعة عليه الظلم.

   وفي هذا النص، بل في المسرحية كلها يكثر الكاتب من الأفعال لا سيما المضارعة، مثل (يضرب-يستدير-يمسك- يسحبانها- يسوط- يضحك- يعود- فيشير- إلخ) والفعل المضارع يعين على استحضار الفعل والحركة في الذهن، فهو أنسب الأفعال لكتابة مسرحية صامتة، لأنه سيجعل النص قابلا للقراء والعرض بسبب قيام المسرح الصامت على تقديم أداء حركي يقدمه الممثل بمهارة من خلال لغة الجسد.

   ومع المصمت الرابع يأخذ الحدث بالتأزم، لا سيما حين تظهر شخصية الصبي(ابن) بائع الفول، إذ يستخدمه صاحب الشرطة كأداة ضغط على الأب كي يوقع ورقة الإقرار بالقتل، لكن الأب (بائع الفول يرفض في بادئ الأمر، ومع بدء تعذيب الصبي، يشتد تأزم الحدث، ويشتد الصراع لكنه ينتهي باضطرار الأب الى التوقيع على الورقة، كي ينقذ ابنه من التعذيب، بل ويتمادى صاحب الشرطة في أن يطلب من الصبي القيام بجلد أبيه بالسوط فيرفض، حينها يضرب صاحب الشرطة الصبي بقسوة، لكنه على الرغم من ذلك يتمكن من الفرار.

   ومع المصمت الخامس نصل الى نهاية المسرحية، وهنا تظهر ابنة بائع الفول وهي تحاول انقاد أبيها بالتوسل الى صاحب الشرطة، لكن صاحب الشرطة يحاول التحرش بها، فتبصق في وجهه، ويتم تنفيذ حكم الإعدام، وعلى الرغم من ذلك، فانه يبقى نابضا بالحياة، حينها يتم رميه بطلقة الرحمة، عندها يسيل دمه بغزارة ، فيوقع موته بذلك الشكل الحزين في قلوب الناس المتحلقين حوله، ويظل دمه يسيل حتى يتشكل على الأرض كلمة (مظلوم)، كما نجد وصف ذلك في النص: "فنرى بائع الفول وهو لا يزال ينزف بغزارة، يسيل الدم على الأرض بلا توقف، يكون له مجرى على الأرض وكأن يدا تخط بحروف من دم على الأرض ، وإذ تكتمل الحركة يكون بمستطاع المشاهدين قراءة كلمة (مظلوم) ويستعين الكاتب بموسيقى حزينة عند تسليط الضوء على الكلمة، عندها تكون نهاية المسرحية.

   فإظهار كلمة مظلوم مكتوبة بالدم على الأرض، تشي بعلامات منها: أن دمه دليل براءته من التهمة التي ألصقت به، الى جانب أم وجود الكتابة على الأرض سيخلد الذكرى الأليمة، حتى يغدو تجلي كلمة (مظلوم) على الأرض بمثابة الكلام الموازي لحالة الصمت التي سادت أثناء تنفيذ حكم الإعدام، فيغدو الدم المتشكل في هيئة كلمة هو الفعل الذي سيدين الظالم، وكأنما يريد الكاتب القول إن الظلم والأفعال الكيدية ستظل باقية على وجه الأرض، ما دام الناس ما بين ظالم ومظلوم، وخير وشر، وحياة وموت، وحب وكراهية، ولا بد للإنسان من موقف أمام الظلم والطغيان، ومن خلال هذه الثنائيات تبرز نظرة الكاتب وفلسفته ورؤيته للحياة فهي -الثنائيات – نواميس ثابتة في الحياة، وتأخذ أشكالاً عديدة ومختلفة، لكن الانتصار لن يكون إلا للحب والخير والسلام، حتى وإن ساد الظلم.

   أما فيما يخص الشخصيات في المسرحية فإننا لم نجد ما يكشف عن أبعادها أو ملامحها، وإنما تم تحديد الاسم بالصفة مثل (بائع الفول)، (صاحب الشرطة) و(الصبي)، (ابنة بائع الفول)، فهو حدد الشخصيات بهذه الصفات فحسب، لأنه استهدف من خلالهم تقديم الفعل بوصفه رمزا، فما تم تقديمه من فعلمن قبل رجال الشرطة ترمز الى السلطة ومدى ظلمها وتعسفها، في حين كان الرجل (بائع الفول) وأولاده يمثلون الشعب ويرمزون الى الطبقة المسحوقة أمام طغيان الطبقة الحاكمة، فالأنباري قدم القضية بوصفها قضية إنسانية يمكن أن تحدث في أية بقعة من العالم، حتى انه لم يحدد المكان باسم دولة أو مدينة، وهو بذلك أضفى على القضية التي أثارها صفة الشمولية.

كما نلاحظ   أن الكاتب استعان بتقديم بعض الإرشادات المسرحية مثل تحديد أصوات بعض الأدوات أو الأشياء مثل: "نسمع صوت محرك دراجة نارية يقترب شيئا فشيئا بينما الرجل مستمر بمشيته على الرصيف يقترب صوت الدراجة بسرعة" ، الى جانب استخدام الموسيقى مثل ""يظل وهو يعاني من سكرات الموت، يعلو صوت الموسيقى مع تصاعد الحدث وبدء صعود الشمس الى أعلى "فهذا الوصف لعلو صوت الموسيقى وصعود الشمس إنما يعبر عن موت الرجل الذي تم اطلاق النار عليه، وكذلك يشير الى سماع صوت موسيقى المارش، وموسيقى المارش تستعملها القوات العسكرية أو رجال الشرطة، وهو بهذا يعين على تقديم الفعل على خشبة المسرح، أي أن الموسيقى يوحي بفعل مجيء رجال الشرطة. في حين استعمل الإضاءة أو الظلام في بعض المواضع من المسرحية، كما يحدث حين يتم تسليط الإضاءة على كلمة (مظلوم) المتشكلة من جريان الدم. الى جانب أنه وظف مضمون حكاية قديمة، والكاتب يشير في نهاية المسرحية الى ذلك، وكنا نأمل لو لم يفعل ذلك، لأن القارئ/ المتقي أو المتفرج له الحق في البحث عن مرجعية النص بنفسه.

   والمسرحية حين تقدم الظلم والقسوة فإنما تحاول بذلك تقديم الإدانة للظلم والطغيان، المكر والباطل، رافضة لاغتصاب حق الإنسان في حياة حرة كريمة، والأنباري هذا دأبه في أغلب مسرحياته، إذ يقدم انتقاده ورفضه لكل مظاهر العنف والظلم والقتل والاحتلال والحرب والكراهية والخيانة أو المؤامرة، وغيرها من الموضوعات.

ويبقى الأنباري صاحب تجربة في حقل المسرح، لا يتوانى عن الدخول في عالم التجريب المسرحي من خلال اعتماده بعض القوالب المسرحية التجريبية مثل: قالب المسرح داخل المسرح، والتضمين، وبعض الإشارات الى الأشكال شبه المسرحية من مثل خيال الظل وشخصية الراوي في الحكواتي، فضلا عن انه يستثمر مرجعياته الأدبية والفكرية والثقافية، ويوظفها في نصوصه المسرحية، وتبرز عنده ظاهرة التناص في مسرحياته بشكل كبير، ولعل تبنيه العمل على المسرحية الصامتة بوصفها نصا قابلا للقراءة والعرض، من حيث كونه مؤلفا ومخرجا يُعد بصمة واضحة على جهوده في حقل المسرح، كل هذه الأمور تعكس مدى مهارة هذا الكاتب وإبداعه، وتمكنه من أدواته.