المخيّلة الخلاّقة

سعد محمد رحيم

     

   كنت أقرأ في كتاب الصديق صباح الأنباري ( المخيلة الخلاقة في تجربة محي الدين زه نكه نه الإبداعية/  منشورات به يفين/ 2009 ) حين اتصل بي الصديق تحسين كرمياني ليعلمني بالخبر الفاجع؛ وفاة محي الدين زنكنة ( 1940 ــ 2010 ). الكاتب المسرحي والروائي والقاص الكبير الذي رفد المكتبة العراقية والعربية بعشرات النصوص الإبداعية. وعموماً ما أريد الخوض فيه، في هذا المقام، هو قراءة سريعة في كتاب الأنباري آنف الذكر. وأحسب أن الأنباري هو المتابع الأكثر مثابرة للإنتاج الفني لزنكنة، وسبق له نشر كتاب عن مسرحيات الكاتب الراحل عنونه بـ ( البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنة )

   يفصح الأنباري منذ البدء عن منهجه  في قراءة قصص زنكنة، والذي استخلصه من  متابعته لتك القصص والمتمثل بـ "إمكانية التوغل في أغلب قصص زنكنة وسبر أغوارها واستبطانها واستقرائها وتحليلها وتصنيفها اعتماداً على قواعد وشروط كل نص من نصوصها وانطلاقاً من الشروط والقواعد العامة التي تلتزم بها". وقد سعى الكاتب للالتزام بفحوى منهجه هذا، وإنْ انشغل بمضامين وأفكار القصص أكثر من انشغاله بتحليل الجانب الفني والبنائي لها ( البؤر والأنساق السردية وأشكال العلاقات بين عناصر القص، الخ ). وفي أثناء ذلك تطرق إلى مرجعيات زنكنة المعرفية واكتفى ببعض تجارب طفولته وعلاقته بأبيه ذي الشخصية التسلطية وفقر عائلته، وصدمته من مشاهدته لقمع الحكومة الدموي لإضراب عمال النفط في كركوك عام 1946 والمعروفة بأحداث ( كاور باغي )، والتي تركت آثارها عميقاً في نفسه. وطالما أن الكاتب أراد الكلام عن المرجعيات كنت آمل أن يستعرض، أيضاً، وإنْ باختصار، المرجعيات الثقافية لزنكنة ( الكتب التي قرأها في مرحلة بزوغ وعيه وطبيعة علاقاته بأقرانه ممن سمّوا فيما بعد بجماعة كركوك منهم فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو ). وأحسب أن الكاتب يمتلك معلومات كافية عن هذا الأمر بحكم علاقته الشخصية العميقة مع زنكنة التي امتدت لأربعين سنة.

   يلاحظ الأنباري كيف أن زنكنة "يكتب القصة القصيرة تحت سطوة الدراما بطريقة لا يعتمد فيها صهر السرد بالفعل وإنما تأتي عنده طبيعية لاتصاف حياته بها واختزانه لها في ذاكرته الثاقبة". أي أن قوانين السرد القصصي والكتابة الدرامية تتآزران في عملية الكتابة لديه. ولابد أن صهر السرد بالفعل يحصل تلقائياً، بطريقة خلاّقة ومن غير افتعال، فهو يطوّع الدراما للسرد والسرد للدراما.  ولأن أغلب قصص زنكنة هي قصص أفكار مثلما يرى الأنباري فإن "الشكل، عنده، ينمو من رحم الفكرة ويكبر معها حتى تتضح ملامحه الفنية".

   يشير الأنباري إلى تلك الوشيجة التي صنعها زنكنة بين أدب الكبار وأدب الصغار مقترحاً نصاً مشتركاً حيث تتداخل هموم الكبار مع هموم الصغار. كما في قصتي ( طفولة ملغاة، وحرمان ). وأظن أن زنكنه لم يكن في ذهنه الكتابة للصغار بقدر ما كان يؤكد، في كل مرة، وبأسلوب القص الخاص لديه، وبشيء من التجريب، على الثيمة المركزية لديه وهي صراع الخير والشر، حيث موقفه "الرافض لكل أشكال العسف والقسر والابتزاز والظلم".

   ويرى الأنباري أن من النواحي الفنية لكتابات زنكنه المزاوجة بين الرمز والواقع كما في قصة ( حيث الناس يعيشون كالهواء ) حيث يعتمد القاص الأسلوب التسجيلي ليحكي عن "الاستلاب والاغتصاب ومصادرة الضمائر والحريات". وكذلك بين الرمز والواقع كما في قصة ( الموت سداسياً ) حيث يعتمد "الحركة الموضعية، لأن الحلم فيها مدخول في الواقع إلى حد زوال الملامح الفاصلة بينهما".

   يدرك زنكنة القاعدة الحاسمة في كتابة القصة القصيرة وهي التركيز والاختزال، وهذا ما يوفيه حقه، في أغلب قصصه، ومنها كما يحلل الأنباري ( سبب للموت.. سبب للحياة ) مع الانتقال بين فعلين أحدهما للماضي والآخر للحاضر. وفي قصة ( الضيوف ) يتعقب عملية التناص بين هذه القصة وقصة ( منتهى السعادة ) لكاترين مانسفيلد حيث يقدم القاص "تناصاً مدهشاً مستوفياً الشروط ومستوعباً لمفاصل التناص كلها".

   في هذه العجالة أشرت فقط إلى بعض السمات الفنية لقصص محي الدين زنكنة، والتي شخّصها وعالجها صباح الأنباري في كتابه، وهو كتاب تمنح قراءته المتعة والفائدة العلمية، في آن معاً.