طقوس تجهر بالصمت
لم أرد لهذا النص ان يكون مقالا نقديا لعالم الانباري ذي الإضاءات المتعددة في بناها وتراكيبها،بل رمت تحليقا حرا فوق مساحات شاسعة الحزن نواحها صمت ، وصوتها أسئلة تتخذ من المتضادات هوية لها تؤكد جدليتها وقدرتها على الانبعاث في ديمومة الظل عصية على كل محاولات الطمس والإلغاء .
في المسرحية الأولى التي تحمل اسم زمرة الاقتحام يتقدم مؤشر الزمن عند العـــام (2552م في بعقوبة) . وهناك كان البروفيسور يحاول تسخير العلم لأغراضه الاستعمارية الكونية الشريرة باستخدامه لشخوص الكاتب محي الدين زنكنه كي ينفذ مأربه ولأنه لم يستطع على تلك الشخصيات الدمى قام باستحضار مبدعها زنكنه وإذ امتنع هذا الأخير عن تنفيذ أوامره عمد إلى استحضار الانباري بوصفه العارف ببواطن ذلك المبدع ، وكان هذا كله ليحدث والمنبه في جهاز التوقيت الزمني ، يعلن عن تسرب الزمن باتجاه النهاية الوشيكة ، وإذ يحاول البروفيسور إقناع الانباري كي يقنع زنكنه نرى ان ذلك العارف كان مدركا لسطوة الزمن التي أغفلها البروفيسور نظير أطماعه التي أعمت بصيرته فيكتشف في النهاية ان الانباري (الناقد) قد خدعه وسهاه عن النظر إلى عقربي الساعة ، فاذا بالمنبه يطرق مسامع الجميع معلنا نهاية أحلام البروفيسور بالسيطرة على العالم،ثم وبإيحاء ذكي نلمس في نهاية المشهد كيف ان البروفيسور يهجم على الناقد الذي خدعه محاولا الإمساك بخناقه،لكن الناقد يختفي مثل الآخرين عائدا إلى الماضي ، فيسقط البروفيسور ولا يمسك بشيء شانه شان أي طاغية مهما ارتدى من أقنعة ومهما تقدم الزمن وتطور العلم ، فهم لا يمسكون في النهاية سوى بأوهامهم،وثمة أمر ربما يحسب للانباري في هذه المسرحية،ألا وهو استخدامه المعبر لشخصية زنكنه،وجعل بعض شخصيات المسرحية (التي هي في الأصل شخصيات مستقاة من مسرحيات محي الدين زنكنه) تتحدث بلغة نقدية جميلة عن مسرحيات زنكنه (المؤلف) دون ان يؤثر ذلك على سياق الحوار في مسرحية (زمرة الاقتحام).
في مسرحية (الصرخة أو تمرين مسرحي) كان ثمة فيروس قد أصاب الآخرين، فلفهم الصمت ولان ذلك الممثل قد اهتدى لعلاج ناجح راح يصرخ متجاهلا أوامر المخرج الذي أراد ان يغلق عليه باب القبو مدعيا ان دوره في المسرحية يقتصر على إتقان الموت .. لا اكثر،وإذ يرفض الممثل الإذعان مرتجلا دوره القدري،يبعث له المخرج بطبيب ليقنعه ان الداء يكمن فيه وليس في غيره وعليه بدل ان يعالج الآخرين ان يعالج نفسه من داء الصرخة، وحين يهزم الطبيب امام وعي الممثل وقوة حجته وإدراكه لأهمية ان يكون دوره إبداعا خلاقا وليس مجرد أوامر إخراجية تحجمه وتحط من قدره كانسان له إرادة ، عندها يظهر المخرج من جديد . وحين يسأله الممثل عن ذلك الطبيب الذي اختفى،ينكر معرفته بالأمر فيتأكد للممثل ان ثمة مؤامرة مركبة تحاك ضده ، فهو يعامل كميت يمثل دوره ميت أو كشخصية مصادرة قبل وبعد موتها . وأمام قوة الإيحاءات الشخصية التي يؤديها وتسلحه بالإدراك والوعي امام الضغوطات الموجهة ، يقدم المخرج على محاولة جديدة في تشكيك الممثل بقواه العقلية موحيا له انه قد أصيب بمرض الوهم تمهيدا لاتهامه بالجنون.عندها يبرز دور الأم ببثها روح المقاومة في جسد ابنها وجسد الممثل،حيث يتحول هذا التداخل الذكي إلى رمز اعظم واجل حين يلعن الظلمة ويرفض ان يموت في جوف القبو حيث رائحة التفسخ والصمت المطبق،فيصعد درجات السلم متحاملا معالجا ذاك الوهن الذي بدا يدب في أوصاله مع تناقص الأوكسجين، ويطرق باب القبو ويصرخ مناديا أمه ليعلمها انه ما يزال حيا على الرغم من كل شئ … لكن المخرج يقفز في تلك اللحظة حين يرى ان خشبة المسرح تنفلت من سيطرته فيأمر بإنهاء المسرحية،وإذ يعترض الممثل بان المسرحية لم تنته بعد يجيبه المخرج .. بل انتهت لأني حذفت ما تبقى من النص ولا أريدك ان تموت على خشبة المسرح !! .
مما يشار له ان مسرحية الصرخة تحوي الكثير من التقاطعات على مستوى الحبكة ، إذ تتداخل فيها المشاهد بمعايير تتناغم صعدا مع التفاعل الدرامي للشخصيات وتطرح بذلك إشكاليات لا يمكن لمقالة محدودة الصفحات كهذه ان تلم بها ، لكن أشير هنا إلى استخدام الانباري لشخصية اسماها (الممثل)،كان استخدامها موفقا يخدم غايات شتى فهو الممثل أولا، وهو الممثل الذي اسند اليه تمثيل دوره الممثل ثانيا،وهو أيضا يكاد يدون العمود الفقري الذي نهض بالثقل الأكبر من عبء تصاعد الفعل الدرامي للمسرحية كل،وهو أيضا أو بإيحاء خفي يترك لدى المتلقي انطباعا انه المخرج الأحق من ذاك المخرج عير الشرعي المفروض على النص كونه اكثر وعيا وقدرة على الفعل على الرغم من كل الموت الذي يحاصره.
في مسرحية (زهور وعقارب) صالة ذات أثاث فخم ولوحات زيتية تزين الجدران. تطفأ الأضواء ثانية ، ويعلو صراخ نوار فيتهم الأب الثري سديدا بتدبير ما أصاب أخاه ، فنجد أنفسنا مباشرة في خضم أحداث متلاحقة تفوح منها رائحة الدسائس والمؤامرات مما يهيئ المتلقي للتساؤل منذ البداية عن سر هذه المتضادات : زهور وعقارب،ضوء وظلام ، سادة وخدم ، وأب هو عبارة عن مجموعة متضادات مركبة،فهو يقتني اللوحات كاقتنائه لباقي أثاث المنزل ويدعي حب ولده نوار لكنه يتناساه حين يهدد الخطر وجوده،ولهذا نراه حين يدقق النظر بالعقارب السود متعجبا .. (زهور وعقارب في قصري أنا !!) يهول الأمر مدعيا ان ثمة مؤامرة تحاك ضده . وكأب مستبد برأيه وكرجل ثري يملك قصرا كبيرا يغص بالخدم، يعمد إلى التعامل مع هذا الخطر المتمثل بـ (العقارب في اللوحة) وكأنه أمر مادي ملموس، فيستدعي الفنان الذي رسم اللوحة ويغريه بالمال كي يستبدل العقارب بالفراشات ، فيرفض هذا الرسام كل المغريات معتذرا بأنه لا يملك الحق في التغيير لان اللوحة (أصبحت ملك مرحلتها) مما يؤكد وعي هذا الفنان بتواشج الإبداع مع الوجود الفعلي للمرحلة التي يتكرس فيها الإبداع، وبالتالي فان أي تغيير لاحق هو تزييف وخيانة لواقع المرحلة ، لكن الأب الذي لم يتعود من الآخرين إلا الطاعة يستشيط غضبا ويطلب من أحد موظفيه ان يأخذ الفنان بعيدا ، أمرا إياه ان لا يعود ثانية إلا وفرشاة الطاعة في يده،ويشيعه بالدعاء ان يكون الجحيم مأواه . وإذ يخلو الأب باللوحة يحاورها بذات الغضب والكره الذي يكنه لمبدعها الذي أحتقره برفضه لأمواله ، وعلى الرغم من يقينه واعترافه السابق بأنه (عقرب) اشد فتكا من تلك العقارب ، فانه في النهاية يخضع للقانون ذاته،فتصيبه العقارب حين يتقرب منها ، كما أصابت الآخرين ، وتبرز اللوحة مضاءة وحدها كآخر مشهد للتضاد يبرز امام الحضور،مستقطبا التساؤلات عن سر هذه اللوحة التي بقيت شاخصة على الرغم من كل ما حدث للأب وللآخرين وحتى لمن أبدعها.
…………………………………
نشرت في:
-صحيفة اشنونا ـ التأريخ 21/2/2002 ديالى
-مجلة المشهد ـ العدد السادس و السابع ـ التأريخ صيف و خريف 2001 ذي قار