كتاب طقوس صامتة لصباح الانباري

قراءة  في واقع  المسرح الحديث

تحسين كرمياني

        أي ذهن يخزن ويوظف "الصمت" ويحيله إلى لغة ؟ سؤال لأرضية كل جواب،وان تسلق  الجواب برج الحقيقة،صمت يلهم الجسد  بالبهاء،يشحنه ويحركه ، كيف تعامل"صباح الانباري" مع هذه البلاغة ؟ بلاغة الصمت وتفاعلاته،لا أحد سبقه أو شاركه هذه الترنيمة المتناغمة ، قرر أن يكون قادراً على إعادة الروح لقدسية المسرح،طالما للصمت لسان ساحر قابل للتأويل والتأويل المضاد،عرف كيف يأخذنا إلى أجواء هادئة شكلا..وصارخة مضمونا،عليك أن لا تغفل أيما حركة،كل رعشة..كلمة،كل مقموعة.تجد الحقائق مصلوبة والأحلام مخنوقة،كائنات واقعية تقول شكل فيه التعبير تهمة،ثمة كائنات تلتقيها ليس بوسعها الاحتجاج علنا،ليس كي تقيم وتطلق مشاعرها  عبر "مسرحيات صامتة"،ما عليه سوى تحويل الكلمات إلى حركات،ووجد القراء موجودين عرفوا المسالك سيد المواقف،فاختار المعادل  المقارن وكان "الصمت" لانه من "ذهب" وترك كائناته تحلم وتواصل عشق النضال وان كانت أغنياتها تتناثر امام سيفكّون الغاز الأيام لأنهم يمتلكون قدرات مدهشة لغربة الماضي للفوز بكنوز تراثية تدفع بالحياة إلى امام،رفض التقليد كونه عبثا لا ينتج فواكه ناضجة ووجد التقليد"أسمدة كيماوية" تحقن نضارة مزية ، تسر الناظرين لكنها بغيضة الذوق،والتقليد في قاموسه الإبداعي"عجز" وفي تفسير لاحق "تسول" و "فقد بذور موهوبة".

  من ميزاته،يمتلك مجسات ذهنية لا تتعامل اعتباطا بل بحسابات موزونة وعقلانية مبنية على أسس ونظريات مستلبة من رحم الواقع،قد يتساءل صوت ولابد وانه امتلك العصا السحرية وفك الغاز الجسد البشري ووضع قاموسه ووزع الشفرات وحقق معادلا للغة الإشارات ،ترك شخصياته دون ان يحملها أفكاره أو تحديد حركاتها،أو حتى لها حبل الحرية طالما للغة لا يفهمها كل من هب ودب ، وحاد عن أساليب الآخرين في كيفية صياغة دراما تحمل في متنها واقع حال الإنسانية من مخاضات ودروب خلاص،لا يفصّل الأثوابَ لها  بل يلقيها ولو"عرايا" لان هدفه هو تشكيل خط مباشر ليس سلكيا أو لا سلكيا بل خط عياني،يتحرك الجسد ، تطرف العين فيفهم الذهن ما يدور حول جدلية الإبداع من كاتب / قارئ / إلى / كاتب / جسد /   عين / وبذلك استحق الحفاوة والجلوس على كرسي الإبداع مع النخبة للحفاظ على تراث كاد يتمزق على أيدي خفية وظاهرية تناصرت لادلجة المسرح وتسييسه لصالح السلطة، وما طرحه"الانباري" من "مسرحيات صامتة" اكتشاف في أوانه،انه سر النضال ضد الغرماء، وبراعة عقل قرر ان لا يستسلم،قرر أيجاد بدائل للهجوم بدل الانزواء والاكتشاف بوسائل دفاعية ووجد "الصمت" سلاح العصر لمقارعة الغرماء،لأن الدكتاتوريات فرضت قيودا على الأنسنة ووضعت قوانين لحدود الكلام والويل لمن باح بما لا يرضيهم،تأهب لانه وجد بان الزمن مؤهل لطرح الغضب والاحتجاج بأساليب مراوغة ومنتجة وغامر بمؤهلاته وثقافته، وعفويته،بساطته،إخلاصه،إعالته لأسرته بلا دخل ثابت وثقافته الرصينة،قراءاته الجادة لكل الأجناس الأدبية والعلمية ومتابعته كل ما ينشر في الصحف والمجلات،حتى صار المرجع الثقافي لمن يطلب كتابا أو بحثا أو نصا سواء أكان شعريا أم قصصيا مسرحيا،روائيا،نقديا ،قرر ان يمسح غبار الفوضى من على كرسي الكوميديا،كي يظهر الوجه الحقيقي لهذا اللون المصادر أو المستنسخ لان الكوميديا في قاموسه الإبداعي،ليس اللهو والعبث والضحك،بل هي نبض إنساني غائي راح يرسم أفق المستقبل وفق مراسيم مهذبة و أسئلة،تتقولب داخل إطار عفوي مفهوم كي يندمج المرء ويتخلص من مطبات الحياة،عرف بان الزمن عربة عرجاء وعلى العقل توجيهها بما هو في خدمة الإنسانية،لأن الضحك في قاموس إبداعه.اندثرت حضارته رغم ان الداخلين توهموا بأنه مصل لإزالة أورام السأم،فالضحك عند"الانباري" رفات لا نبض فيه وليس هناك أمل في إعادة تأهيله لخدمة مسرح اليوم والغد وجد "الصمت" فيه تراجيديا  فاعلة وكوميديا هادفة ، وتمكن من صياغة سمفونيات مسرحية لا تحتاج لآلات موسيقية كي تصل إلى النفس،بمجرد  ترويض الجسد  على لغته الصائتة و تحريره تجد نفسك امام صهيل متراكم،يوقظ  الإحساس ويثير الأسئلة،أسئلة الحقيقة داخل كل إنسان من هنا تبرز خصائص "الانباري" المتميزة في خض الضميروإقلاق العقل واستنفارهما كون المسرح واقعا مصغرا للحياة،وعلاقة الإنسان بالمسرح جدلية،طالما الإنسان كومبارس منسي في مسرح وحده "الخالق" خلق وراح يسقط أخبار وزلات ممثليه عبر زمن أبتدأ بالصمت ولا بد ان يختم بالصمت أيضا،نحن امام إشكالية حداثوية،ليس أمامنا خطوط بيانية كي نؤشر التطرف،ونرصد التفاوت والتجاوزات،وهكذا نتعامل مع النصوص الموروثة لكن نص "الصمت" يبقى باب تأويله مفتوحا،بوسع كل واحد ان يدلي بدوله ويغترف ما يشبعه أو يريح أعصابه و يجلعنا "الانباري" امام محنة الخلق بلا قواميس تفسيرية أو ادلاء،علينا أن نصغي بصمت ونرهف الحواس لكل إيماءة لتشكيل النص النهائي،إن قراءة واعية لما كتب من"مسرحيات صامتة" تضعنا أمام شخصيات مرهفة الحس مرهقة الوعي تحيطها الكوابيس تعاني وزر الخطايا،تلفظها المنافي إلى المنافي،شخصيات مثقفة،ولكن لها ملكية التحرر بأساليب غير مثيرة للشبهات،أساليب مهذبة و لا تجرح الآذان،كل شيء مطروح رغم انتفاضيته بحركات وديعة،هي لغة الحياة النهائية بعد أشواط العنف،لغة الإنسانية المكبوتة،الناطقة باسم البؤس،لقد تمكن "الانباري" أن يلقي القبض عليه ويروضه في خانة صعبة لا تستقيم الحياة فيها إلا بالجدل .

لكنه تمكن ببراعته ان يحدث طفرة في واقع المسرح العراقي المعاصر،كل من ينظر،ينغمر وكله يقين بأنه جزء من ما يدور أمامه،يشاطرهم ويتفاعل معهم،كل شئ يمضي بحساب، بثبات،لان "الانباري" لا يرتجف لحظات الكتابة،لسبب وجيه وبسيط طالما خنق شرطي الكلام وعرف كيف يجتازه بلغته الصامتة،تعرف ذلك من تناسق الأفكار،من دقة الحركات،من حسن اختيار المكان والموسيقى،يجعلك متجردا من متعلقات الحياة،فهو لا يقتنص إلا ما هو حساس وملهم،لا ينفع كل ما هو مطروح،فالخطاب الإنساني يقترح توظيف ما هو خادم ومحرك،بلا تعاطف أو مداهنة،فوجود الإنسان محنة لا بد من سبل ووسائل لاجتياز الأزمات للوصول إلى الفردوس،هذا ما نصبه نصب عينيه في التقاطاته النادرة وعرف كيف يختار من  شخصيات مؤهلة ومستعدة للمغامرة،فالقالب الفني موجود،بحر زاخر قاس "الانباري" أعماقه وروض توحشات أعماقه وصاغ دستوره في بحر "الصمت" .

وتمكن من سحب حزم ضوئية بليغة على ما هو مطروح من نصوص،بصمته العجيب يتوغل إلى متاهات  النصوص لاستخراج ما هو ملهم وما هو بائس ، يرفض الأجواء التهريجية الرياء،لأنه يدرك بان الطريق إلى القمة يبدأ من قلوب الناس وتعاطفهم وضرورة عدم التهاون أو بذخ ما متوفر من وقت مستقطع من أوقات المعيشة ، فكل تهاون يعني في قاموسه الإبداعي هو إعطاء الشخصيات فرصة لتفر من الخدمة،وكلما نتوغل معه صوب أعماقه،ثمة حياة بسيطة كلها تفاعلات ظلت تحت حراب الأشرار،لكنها احتفظت بوجد آتياتها واحتفلت سرا وبصمت تحت عيون لا تفهم إلا ما تسمع،يأخذنا "الصمت" صوب الينابيع ، إلى حيث البدايات،نكشف بان "الانباري" هو من أعطى " الأكاديمية" جمرات لاهبة من نيران موهبته،طالبا  منتجا ومخرجا وسبح في بحر"الصمت" رغم ضبابية الأجواء والتقاليد السائدة وعرف بان ثوب التقليد لا يناسب العقل الواعي فقط من هو مريض يرتديه ، سرعان ما تبرز لا تناسقية الهندام،لان ما هو مقلد لا يمت بأيما صلة لواقع المسرح العراقي،وما مطروح من مشكلات وتعقيدات اجتماعية تحت سيوف مشرعة وكواتم الأصوات يكفي لبناء صرح جميل ، صرح مسرحي يستمد من الإنسان مادة لإبراز الخصائص وتفعيل دور الإنسان في بناء مجتمعه،سرعان ما تلقفت الأقلام هذا الثوب وراحت تؤسس نصوصا صامتة لكنها جاءت بلا مرجعيات مثل فواكه جميلة بلا طعم لأنها أنضجت "بالأسمدة الكيماوية"،"فالأنباري" نشر موديله "الصامت" المغري بلا بهرجات إعلانات وما فعل البعض كان استنساخا محضا،لأن للصنعة أسرارا واستحضارات وقراءة بالحاسة السادسة للأمور و"الصمت" لغة محلية،عالمية،لا تحتاج إلا مترجمين،طالما العين هي مجس لفك المغاليق وحل الرموز الحركية،وما كتبه من نصوص احدث شرارة لإذكاء حركة المسرح العراقي بعد رقاد إجباري فرضه أهل الشر وزمر لموتها أصحاب النزعات المريضة من "غجري" و "دخيل"،لم تجذبه لقمة داعرة وان كانت مغرية في زمن ظل سيف الجوع يرقص في كل محفل وظلت يد الشر تشهر المال لترويض وإخضاع أصحاب الرأي السديد واصل حربه الصامتة وظل تحت وهج العيون يعزف ويخترق ارض الحرام حتى انتزع ما يليق به من جوائز رغم  ان نصوصه كانت مقالع انهالت على غرماء الجمال وانتزعت منهم ما يستحق من حفاوة  وتكريم ولنا في مسرحية  "زمرة الاقتحام" مثال لما قاله بصراحة وكيف تهجم وكيف حقق ارفع جائزة "جائزة مجلة الأقلام للمسرح"عام1993 .

      أو ما فعله  ( 2001 ) يوم نال جائزة الإبداع عن كتابه "طقوس صامتة" 1، ويا للأسف  فالقائمون على فحص النصوص،اكتفوا بالصمت ومنحوا "الانباري" لصمته الرائع الجائزة،ولم يتحرك  فيها السؤال ، لماذا يكتب "الانباري" "صامتة" ؟ لماذا لا يكتب "صائته" في وقت "صات الكثير" وصفق من اجل السلطة،انهم جهلوا بان"الصمت" هو لصالح الاحتجاج والغضب والا انتمـاء،هكذا  اجتاز المطبات وعبر المخافر فوق حدود الكلام ليواصل" صمته المسرحي" اعني مسرحياته الصامتة ..

........................................................

1ـ طقوس صامتة (( مسرحيات صامته )) ـ دار الشؤون الثقافية بغداد ((2000)) نالت جائزة الإبداع .

نشرت في:

         - صحيفة الصباح ـ العدد 204 ـ التأريخ 9/3/2004 بغداد