بحث في البانتومايم والمسرحيات الصوامت

أسماء أحمد محمد شاهين

مقدمة البحث:

   يعتبر الإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض من المخلوقات المقلّدة. فهو يُقلّد كل المخلوقات الأخرى سواء بالحركة أو بالصوت. بل ويقلّد حتى الجمادات في إصدارها الأصوات كـأصوات الشلالات، وأمواج البحر، وحفيف الأشجار، وخرير المياه ...... وغيرها، يقول الدكتور تشارلز باربر في كتابه قصة اللغة إن أحد نظريات تكون اللغة تقول: إن لغة الإيماء سبقت الكلام (1). يستشهد أصحاب هذه النظرية بأن كثيراً من القبائل البدائية كانت تستخدم لغة الإيماءة، ومنها بعض قبائل الهنود الحمر الأوائل وهم سكان أميركا الشمالية الذين كانوا يستخدمون لغة الإشارة ويقومون برقصات ذات حركات معبرة عن الحرب أو الابتهاج بوفرة الصيد أو الاحتفال بالزواج أو المواليد الجديدة وغيرها، وبدوره يقول الدكتور جون بيرغس ويلسون في كتابه المعروف الأدب الإنكليزي: "إن المسرح هو الأكثر قرباً للطبيعة من بقية الفنون لأنه مبني على إحدى الخواص الأكثر أصالة وهي خاصية المحاكاة، وأن خاصية المحاكاة هذه، والتي يمكن أن نسميها خاصية التقليد (الإيمــاء) تجعل منّا جميعاً ممثلين منذ الطفولة، ومن المعتقد أن المسرحية الأولى لم تكن نصاً مسرحياً، ولكن نشاطاً جاداً يقدم من قبل أناسٍ واعين يعبرون عن أغلى غرائز الإنسان وهي الغريزة الدينية" (2)

ولايزال الإنسان حتى الآن يستخدم الإيماءة أو الحركات الإيمائية في كل نشاطاته اليومية بشكل لا إرادي وغير مقصود حيث تقوده الغريزة إلى ذلك فهو يستخدم دائماً حركات يديه وتعبيرات وجهه أثناء الحديث ليزيد من قوة الإقناع لدى السامع، وليوحي إليه بصدقه وجديته فيما يقول بل ويعمد إلى التمثيل زيادة في الإيضاح والفهم، وقد يبالغ الكثير من الناس بهذه الحركات والتعبيرات حتى ليظن الناظر إليهم أنهم خرس لا يفهمون إلا بلغة الإشارة والحركة. وليس من الغريب أن يعتبر بعض الدارسين أن الشخص الأخرس ما هو إلا ممثل إيمائي لأنه لا يتعامل إلا بالحركة والإشارة وتعابير الوجه. ولأهمية هذا الفن لابد أن نعرف ما هو فن الإيماء (البانتومايم) ...؟! وما هو تاريخ هذا الفن وأثره على الفنون الأخرى؟

 الإيماء (البانتومايم)

يعود أصل كلمة (بانتومايم) إلى اللغة اليونانية القديمة وهي مشتقة من كلمتين-:

بانتو (panto) وتعني كل شيء

مايم (mime) وتعني أقلد.

وبجمع هاتين الكلمتين انبثق مصطلح (البانتومايم) أو فن التمثيل الإيمائي، والذي يعني فن التقليد أو فن المحاكاة لكل ما تحتويه الحياة (3)

وقد أطلق اليونانيون اسم (البانتومايم) على ذلك النوع من العروض الفنية التي تتم عن طريق الأفعال الجسدية والإشارات والإيماءات التي يقوم بها الممثلون ويعبّرون بها عن شخصية الأبطال مجسّدين بها فكرة المؤلف.

أما اليوم وما يضيفه المعاصرون هو أنه علينا أن نفهم ذلك الفعل الصامت الذي يتجسد عن طريق الحركات الرشيقة والذي كان أساساً للفن الدرامي (4). وهذا التعريف صحيح لكنه ليس كاملاً، حيث إن الحركة والإشارة ليس هما الوسيلتين التعبيريتين الأساسيتين في فن (البانتومايم) فقط، فهما تدخلان أيضاً وبشكل متفاوت في إطار الفنون الأخرى المعروفة كـ (الباليه والدراما)

 

تاريخ فن الإيماء (البانتومايم)

مر فن (البانتومايم) خلال تطوره التاريخي بثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي (مرحلة التقليد) والمرحلة الثانية هي (مرحلة التعميم) أما المرحلة الثالثة فكانت (المرحلة المنهجية) التي لها مدارسها ومذاهبها الخاصة وفي الحقيقة أن هذا التقسيم التاريخي ما هو إلا إجراء شرطي لا يمكن أن يحدث خارج إطار القواعد العامة التي يخضع لها كل فن. وتعود جذور هذا الفن الأولى إلى طقوس الرقص والاحتفالات الدينية التي تنتمي إلى الشعوب القديمة كـ " بلاد الرافدين، بلاد الشام، ومصر، واليونان، والهند، والصين ..... وغيرها" وأن هذه الرقصات والاحتفالات كانت دينية المنشأ في أول أمرها، ثم أصبحت شعبية ومزدهرة لدى عامة الناس، وتلعب دوراً هاماً في حياتهم، وفي المناسبات والاحتفالات الشعبية. حيث أن الرقص فن مفهوم من قبل الجميع دون النظر إلى المستوى الثقافي أو التعليمي أو الانتماء الطبقي.

وإذا رجعنا إلى بذرة الدراما الأولى نجد إن الإغريق القدامى يرجعون (البانتومايم) إلى رقصات الساتير الطقوسية (satyr) التي وجدت في بلاد اليونان وذلك لاعتمادها على الحركات والإشارات والتشكيلات التعبيرية التي عن طريقها يتم تقديم فرائض الطاعة والحب والولاء لقداسة تمثال الإله ديونيسيوس الذي كان يوضع عادة في مقدمة المسرح (5). من جهة اليمين للجمهور وكان يرتدي الراقصون جلود الماعز أو الأقنعة التي تجعل أنصاف أجسادهم شبيهة بالآلهة فكانوا يعتقدون إن الإله ديونيسيوس سوف يعود إليهم لذلك كانوا يحتفلون ويبتهجون، يرقصون، ويغنون، ويقيمون الشعائر والطقوس ليرى الإله ديونيسيوس كيف كانوا يشكرونه ويحمدونه حتي يكون الإبصار بالعين المجردة لا بالقلب فقط، وذلك لأن المشاهدة بالعين تكون أكثر يقيناً وأوقع تأثيراً، وللعين إمكانية على عقلنة الأحداث أكثر من الأذن التي تنتقل الأحداث إليها على شكل أصوات يفسرها الدماغ محولاً إياها إلي صورة واضحة خلاف العين التي تحول صورها إلى مضامين يقينية.

الممثل الإيمائي المبدع والخلاق

عندما تطور العقل البشري والحس الجمالي في وقت متأخر أخذ فنانو (البانتومايم) يراقبون ويجسدون السلوك المميز لفئات من الناس من تجار، جنود، فلاحين، طلبة ورهبان .... الخ عندئذ تجاوز هذا الفن المفهوم البدائي لهذه الكلمة ووصولاً إلى درجة أرقى واكتسبت كلمة (البانتومايم) مفهوماً فكرياً جديداً. (6)

وقد أدرك فنانو التمثيل الإيمائي بفطرتهم وتجربتهم أن المشاهدة بالعين أكثر يقينية وأوقع تأثيراً وأدق برهاناً على صحة المعتقد وأن للعين إمكانية على عقلنة الأحداث أكثر بكثير من الأذن التي تنقل الأحداث إليها على شكل أصوات يفسرها الدماغ محولاً إياها إلى صورة واضحة ودقيقة خلافاً للعين التي تتحول صورها مباشرة إلى مضامين يقينية أي أن الإنسان يعقل بصرياً أكثر مما يعقل سمعياً (7).

وقد اعتمد فنانو التمثيل الصامت هذه الحقيقة منذ القدم واشتغلوا عليها وأوجدوا لطريقة عملهم منهجاً يلتزمون به في مسيرة عملهم. ويلخص أحد الشعراء القدماء ما يجب أن يكون عليه ممثل الإيماء قائلاً: "يا ولد مثل حيوان البحر هذا.. الذي يتغير لون جلده.. مع كل صخرة جديدة.. هكذا دع عقلك يفتح الآفاق.. في كل أرض جديدة.. ليشكل نفسه من جديد".

تلك نصيحة ضرورية جداً لممثل الإيماء الذي عليه أن يتماهى مع موضوعه، ويجعل نفسه جزءاً لا يتجزأ من المشهد الذي يؤديه، وإن عمله يتطلب منه أن يقدم الشخصية الإنسانية وعواطفها بكل تنوعاتها وعليه أن يصور الحب والغضب وذوبان الهياج والحزن وكل منها حسب الدرجة الملائمة: كـــ فن مدهش! (8)
بالإضافة إلى ذلك يجب أن يتوفر في ممثل الإيماء الذاكرة، الحساسية، الذكاء، سرعة الإدراك، اللباقة والحكمة وأكثر من ذلك يجب أن يكون ناقداً للشعر والغناء، قادراً على تمييز الموسيقى الجيدة ورفض الرديئة، ويجب أن يكون تناسقه الجسدي كاملاً دون أن يكون طويلاً بشكل غير مقبول أو قصيراً كالأقزام ولا يكون بديناً أو نحيلاً حتى الهزال، والصفة الأساسية الأخرى لممثل الإيماء هي سهولة الحركة، إذ يجب أن يكون قوامه لدناً وشديداً في الوقت نفسه لتلبية المتطلبات المتناقضة لخفة الحركة والثبات (9) .
لقد أثار كثير من ممثلي الإيماء إعجاب الجماهير، وعلى الرغم من أنهم يمثلون بصمت ولا يتكلمون أبداً فقد كانت الجماهير تتابعهم باهتمام ،وتفهم كل ما يقومون به من حركات وإشارات وتعابير وأفعال بل وتتفاعل معهم وتتأثر بكل المشاهد التي يؤدونها

ويقول أحدهم في ممثل إيمائي على الرغم من أنه أخرس ولا يحسن النطق إلا أنه مسموع من قبل مشاهده - كما يقول آخر في ممثل إيمائي مثل أمامه من دون موسيقى ومن دون استخدام أي أدوات مساعدة أخرى لا أرى لك إلا جسداً واحداً، ولقد فاتني أن لك أرواحاً عديدة (10).


البانتومايم في العصر الحديث:

إن أهم تطور حدث في المفهوم الفكري لفن (البانتومايم) هو ما جرى في القرن العشرين حيث توفرت للفنان مواد جديدة جعلته أكثر تفاعلاً وإبداعاً وتحليلاً ودراسة، وبالتالي أغنت تجربته وأثْرت إبداعه في تجسيد الشخصية التي يمثلها

كما تأسست أكبر مدارسه في بولندا، ألمانيا، بريطانيا وفرنسا، وأستطاع مبدعون أمثال (جان لويس بارو Jean Louis Barrault _)  و(مارسل مارسو _ (Marceauأن يطوروا هذا الفن وأن يضعوا له القواعد والأصول، وبالفعل استطاع مارسو أن ينزل الكلمة المنطوقة عن عرشها المسرحي ليأخذ الصمت مكانها، كما إنه أبتعد بــ (البانتومايم) عن التهريج والبهلوانيات وجعله فناً قائماً بذاته على الرغم من أنه لم يستطع التخلص من استعراض مهاراته التقليدية.

إن الفنانين الأوائل الكبار كانوا ينظرون إلى فن التمثيل الصامت على أنه فعل قبل كل شيء فعل يدور في لحظة ما وهذا الفعل ينبغي على الفنان أن يوضحه بقدرته ومواهبه التمثيلية وقد أدت هذه النظرة والالتزام بها إلى تأخر الممثلين الرواد عن القيام بتجارب جديدة على صعيد الشكل والمحتوى لتدعيم المعنى أو المعاني التي كانت قيد الاستهلاك وظل تمثيلهم أسير الخشبة فقط ولم يُجنّس أدبياً باستثناء بعض المحاولات المفردة التي قام بها بعض عشاق هذا الفن (11)

وأصبح من خصائص فن (البانتومايم) الشخصية التي تتجسد عن طريق الرمزية الشرطية فممثلوه يقومون بأدوارهم دون أن ينطقوا بكلمة واحدة، إن لغتهم هي الإشارات والحركات ورشاقة الجسد وليونته.
كل شيء على خشبة المسرح شرطي عدا الممثلين الحقيقيين وهذه الخاصية لفن (البانتومايم) إنما تؤكد ثقته الكبرى بالخيال الإبداعي لجمهور المشاهدين وثمة تفاهم مسبق بين خشبة المسرح وحالة المتفرجين حول قوانين وشروط اللعبة في هذا النوع من فن التمثيل الإيمائي فهناك عملية إبداعية مشتركة تتم بين الطرفين، وهذه العملية الإبداعية المشتركة هي أحد الأسباب التي تجعل تأثيره قوياً على الجمهور (12).

 

صباح الأنباري وعلاقته بالمسرح الصامت

اهتم صباح الأنباري بالصوامت نتيجة عدم قدرة الأجناس الأخرى على استيعاب مجموعة أحلامه الواسعة، وذلك عندما قال إن القصيدة التي كتبها في بواكير حياته الأدبية وكذلك القصة القصيرة والمقالة النقدية والصحفية لم تستطع احتواء أحلامه الهائلة.

فظل الأنباري يبحث عن جنس جديد يصهر فيه كل الأجناس المعروفة في بوتقة واحدة ثم يصاهر بينها وبين اهتماماته في مجال الإخراج المسرحي، والموسيقي، والتصوير، والأكروباتيك.

وأكد على ذلك الناقد المسرحي بلاسم الضاحي في مقاله الصحفي تحت عنوان (غياب اللغة وحضور الفعل) بجريدة الاتحاد عدد 1999 بتاريخ 3/12/2008م عندما قال:

من هنا بدأ الأنباري صائتا بأدواته الصامتة محاولا تجنيس ما أنتجه ضمن جنس (الأدب المسرحي) المقروء أدبا والمرئي مسرحا مازجا ومستفيدا من أجواء الفنون الأخرى مثل "خلق الصورة التشكيلية في حقيقة كونها تشكيلاً مرئياً ومن اللقطة السينمائية لما لها من مدى تعبير غير اعتيادي ومن الرقص تقديم الحركة المنسقة مع الموسيقى لقدرتها على تأليف الجملة الإيقاعية الزمنية، ومع الشعر لقدرته على تأليف الصورة الخيالية المبتكرة، ومع المسرح لقدرته على خلق كثافة درامية الحدث".

ومن خلال هذا المزيج من الفنون خلق الأنباري منتجاً جديداً تشترك فيه اللوحة مع الكلمة المرئية والموسيقى والحركة لإثارة المتلقي جمالياً ودلالياً وكان هذا هو الهدف من وراء هذا المنتج الجديد الذي أطلق عليه (المسرحيات الصوامت)

نصوص المسرحيات الصوامت

إن المدونين والمتابعين وكتاب التاريخ المسرحي لم يشيروا إلى وجود مثل هذه النصوص فقد كانوا يشيرون إلى العروض وإلى القائمين بتلك العروض فقط.

إذن تاريخ فن البانتومايم هو تاريخ العروض لا النصوص إذ أنه لم يقع في أيدي من بحث في هذا المجال الحيوي أي نص صامت على الرغم من إشارة بعض الباحثين إلى كاتب أو أكثر من كتاب البانتومايم كـ (إينجاروس وسوفيرون) اللذين أشار إليهما الأستاذ جميل منصور في بحثه الموسوم (مسرح البانتومايم) ككاتبين للمسرحية السيراكوزية التي اعتبرها شكلاً مبتكرا ًمن أشكال البانتومايم في القرن الخامس قبل الميلاد.(13) والمسرحية السيراكوزية هي من الأشكال المبكرة جدا لفن (المايم) الشعبي التي ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد وكان لها تأثير على الكوميديا في أثينا. 

و*المايم هو نوع من جنس أدبي يستخدم الحوارات القصيرة بقالب نثري إيقاعي وهو مستلهم كما يقول الباحث وليد الحمداني في بحثه الموسوم (الشعر الرعوي.. المفهوم والخصائص) من واقعة شعبية دون حبكة أو خيوط متشابكة.

ومن الضرورة هنا الإشارة إلى أن بعضاً من النقَاد حاولوا الفصل بين البانتومايم والمايم فجعلوا من الأول أكثر عمقاً في تناول المادة الحياتية المقلدة من الثاني الذي اتسم بالسطحية شكلاً ومضموناً. وأقصر بعضهم على جعل المايم تمثيلاً صامتاً ضمن مسرحية صائتة، والبانتومايم تمثيلاً صامتاً في مسرحية صامتة من ألفها إلى يائها (14).

فــ(البانتومايم) إذن لا يحتاج لنص مكتوب ينطلق منه الممثل لتجسيد دوره بمجموعة من الحركات والإشارات والإيماءات حتى ينتج منها موقف هزلي أو جاد لأفراد يتسمون بالقبح أو الجمال. ولكن هذا غير صحيح لأن هناك نصوصا لهذا الفن، والدليل هو ما ذكره الأستاذ منعم سعيد في بحثه الموسوم (البانتومايم بذرة المسرح على الأرض) بأنه تم العثور عام1890 م على لفة من أوراق البردي احتوت 13 نصاً من نصوص البانتومايم قام بكتابتها (هيرونداس) في الأسكندرية عام 270 قبل الميلاد. (15) وعلى الرغم من ذلك لم يتم تجنيس هذه النصوص أدبياً.

كانت المسرحيات الصامتة تكتب في بعض صفحات في شكل تخطيطات وتوجيهات إخراجية من أجل التمثيل، لذلك قام (صباح الأنباري) بكتابة نصوص صامتة من أجل أن تقرأ مثل القصص القصيرة والقصائد الشعرية وأي عمل أخر يصلح للقراءة والتمثيل علي خشبة المسرح.

وهذه النصوص تأسست على مجموعة من الأسس التي يستند عليها هذا المنتج الجديد وهي: -

1. اعتمدت مسرحيات الصوامت على التشكيل الصوري، فالصورة تحتاج إلى فعل، والفعل يحتاج إلى حركة، والحركة تتأسس على رغبة أو هدف. والهدف يبرز الحركة ويوضحها فالحركة تعطي الفعل هيئته النهائية، وبذلك تتشكل الصورة ويتشكل معها معنى محدد في هيئة نص مدون على الورق أو عرض قائم على الخشبة.

تضمنها قصة أو حكاية تراثية أو معاصرة مستفادة من العناصر الدرامية في بنائها وأسلوبها فهي مزاوجة بين القصة كأدب والمسرحية كفن.

اعتمادها على خطة إخراجية مرنة يمكن تنفيذها على الورق والخشبة في آن واحد.

 عدم انغلاقها على مخططها الإخراجي أتاحت لها فرصة العمل للمخرجين كل حسب رؤيته   الخاصة.

مخاطبتها كل العالم فهي لا تحتاج إلى وساطة الترجمة، والنقل لأنها تعتمد على لغة الجسد (الإيماءة والإشارة والحركة) تلك اللغة القادرة على البوح والأكثر بلاغة في التعبير عن خفايا الذات والأمثل في تمثيل الحالات الحلمية الملحة، والأفكار الشاردة.

وفي النهاية يمكن القول إن صباح الأنباري اهتم بالتراث والهوية العراقية معتمدا على التراث الشعبي وهذا يؤكد أُصولية هذا المسرح وعدم انفصاله عن الفن الشعبي والطقس الشعبي ولكن أضاف لنا مسرح الصورة الذي أنتج من خلاله هذا المنتج الجديد معتمداً على مجموعة الأسس التي ذكرتها من قبل. وسوف أتناول الجزء الثاني للمحور الأول في البحث وهو تحليل ونقد ومقارنة مجموعة من مسرحيات الصوامت لاحقا في بحث مستقل.

  
تحليل ونقد المجموعة الأولى من الصوامت ومقارنتهما بالجزء التنظيري
طقوس صامتة:
أطلق الأنباري على هذه المجموعة اسم أول مسرحية قام بكتابتها (طقوس صامتة) ربما يرجع ذلك لاهتمامه واعتزازه الزائد بها. فأراد إلقاء الضوء عليها من خلال هذا العنوان الرئيس لمجموعته الأولى التي تضم ثلاث مسرحيات:

 طقوس صامته

 حدث منذ الأزل

 متوالية الدم الصماء 

 طقوس صامتة: المصمت الأول

قام الأنباري بفتح المسرحية بإحداث نوع من التوتر النفسي للمتلقي، وذلك من خلال الظلام الذي يعم خشبة المسرح والموسيقى والأصوات التي تم استخدامها في العرض المسرحي.

ثم قام بإلقاء الضوء على الشخصية الرئيسية وهي الرجل ذو الملابس البيض (بطل العرض) الذي كان يقف أقصى يسار المسرح، يرتفع الضوء الأحمر على دكة صغيرة أسفل وسط المسرح ثم تنتقل رؤية المتلقي إلي ضحكات رجال نصف عراة واقفين حول الدكة على هيئة حلقة دائرية ثم تنسل من بينهم امرأة ناهدة الصدر، ناحلة الخصر، تعتلي الدكة وتقوم بالرقص على إيقاعات الصفير والهمهمة مع خلع قطع من ملابسها، ويرقص معها رجل في يده سيف، ثم تنزل وتضع رأسها علي فتحة تشبه قاعدة مقصلة فرنسية فيقوم الرجل بقطع رقبتها، ويقهقه الرجال الآخرون ويرفعون النخب للاحتفال بذلك.

نجد في هذا تعبيرا عن بعض الطقوس الخاصة بالمدينة، وهذه الطقوس عبارة عن قتل النساء حيث تقوم كل امرأة بالتعري والرقص وكأنها مغيبة أو تقع تحت تأثير قوة سحرية وطلاسم تجعلها تتقبل هذا الموت بلا مقاومة أو خوف وكأنه نجاة من الواقع إلى العالم الآخر، وربما تتقبل المرأة ذلك فلا حيلة لها للفرار من اغتصاب حريتها وحياتها بحجة تلك الطقوس التي تتم في صمت مطلق. ولكن هل يقصد الأنباري من ذلك شعورنا بأن بلدنا يتم اغتصابها بمحض إرادتنا أم إننا نرضى بالأمر الواقع .....؟!


قام الأنباري بإظهار الرجل ذي الملابس البيض على أقصي يسار المسرح أي بعيداً عن باقي الرجال وأظهره بذلك اللون ليدل على نقائه وطهره مما يجعله مختلفاً عن باقي الرجال، فهو لا ينتمي ولا يتفق معهم في هذه العادات والتقاليد (الطقوس) فظل يراقب الأحداث من بعيد حتى لاحظ فتاة تقوم بالفرار من بينهم إلى الجسر الموجود على الجانب الآخر من المسرح للنجاة بحياتها من هذه الطقوس الغريبة التي لا تتفق معها هي الأخرى. فلاحظت الفتاة نظرات الرجل ذي الملابس البيض إليها فنظرت إليه ثم هربت وأثناء هروبها لاحظتها المرأة التي يتم إعدامها فأشارت إليها فلاحظها الرجال الآخرون وكان تصرف الفتاة الهاربة هو المنبع الرئيس لشجاعة الرجل ذي الملابس البيض حيث أنه اتجه نحو الدكة وحاول إنقاذ المرأة الثانية التي سيتم قطع رأسها، ولكن كان رد فعل المرأة غريبا حيث قامت وأتت بقضيب حديدي ضربت به الرجل فغشي عليه، وهذا الفعل يؤكد كلامي عن إن هؤلاء النساء إما واقعات تحت تأثير قوة سحر أو يحاولن الهروب من الواقع المرير بالقضاء على حريتهم برغبتهم.

ولكن لماذا اختار الأنباري عنصر النساء ليكن الضحايا دون الرجال...؟! هل لأن النساء رمز الوطن كما في المسرح التقليدي حيث نجد دائما إن المرأة كانت تستخدم في المسرح التقليدي رمزا للوطن، فاغتصاب المرأة دال على اغتصاب الوطن، وعلى ضعفها وتأثرها بقوة السحر والعادات والمعتقدات والطقوس التي لا مجال لها سوى الجهل والتخلف.

ولكن هذه الصورة ذكرتني بتلك القصة الأسطورية المأخوذة من قدماء المصريين التي كانت تعرف باسم (عروس النيل) تلك العروسة التي كان يتم اختيارها من بين النساء بحيث تكون أجمل امرأة. ثم يقومون بتزيينها وكأنها عروس في ليلة عُرسها، ثم تذهب برغبتها إلى نهر النيل وتلقي بنفسها في مياه النهر. كما فعل الأنباري في كتابة تلك الطقوس التي بنى عليها نصوصه، ولكن هل كان هذا هو المقصود حقاً أم مجرد تشابه ...؟!

أنا أظن أن الأنباري لعب على الوترين أي صَور المرأة بالوطن مع استغلال تلك الأسطورة التراثية القديمة. وبهذا يكون قام بتطبيق أحد أسس كتابة نص مسرحيات الصوامت وهو تضمنها قصة أو حكاية تراثية أو معاصرة.
ونعود مرة أخرى لأحداث المسرحية فبعد أن أفاق الرجل ذو الملابس البيض وجد نفسه مقيد اليدين، ويَرفع الرجل ذو السيف سيفه ويقوم بتمزيق ثيابه حتى يصبح عاري الجسد مثلهم، ولكن بمجرد أن رفع الرجل سيفه أتت قوة خارجية جعلت الجميع يتوقفون عن الحركة تماما (ستوب كادر) وكأنهم تحولوا لتماثيل من الحجارة كما قال الأنباري.

ومن هنا عاد الرجل ذو الملابس البيض إلى مكانه مره ثانية وأنتهى المصمت الأول.

المصمت الثاني

بدأ الأنباري مشهده بنهوض الرجل ذي الملابس البيض وكأنه مستيقظ من حلم، وعندما أفاق من غفلته وجد أمامه رجلا يشبهه تماماً ولكنه يرتدي ملابس سود. وكلما حاول أن يتقدم إليه تراجع الآخر خطوة للخلف ويستمر الرجل ذو الملابس البيض في تقدمه ويستمر الرجل ذو الملابس السود في تراجعه وهكذا حتى يصاب الرجل ذو الملابس البيض بالإرهاق والتعب من كثرة المطاردة فيقرر الخروج من المسرح ثم يدخل مرة أخرى وهو يحمل في يده فأسا، ولكنه عندما دخل المسرح لم يجد الرجل ذا الملابس السود، ولكنه وجد مرآة على المسرح خرجت من باطن الأرض (خشبة المسرح) يظهر فيها صورة الرجل ذي الملابس السود ولكن بملابس بيض وكأنه هو الذي يظهر في المرآة. وكان كلما اقترب من المرآة تتحول ملابسه من اللون الأبيض إلي الأسود. ثم يقرب أكثر وأكثر حتى تتحول الملابس إلى اللون الأسود. ثم تظهر صورة الرجل بملابسه الحقيقية.

ثم خرجت رأس هذا الشبيه من المرآة وهو يضحك ساخراً. فيضربه الرجل ذو الملابس البيض بالفأس. ونجد إن هذا الشبيه ما هو إلا رمز للشيطان الذي يحرك كل إنسان على سطح هذه الأرض حسب رغباته، فعلى كل إنسان فينا أما أن يستجيب له أو ينفر منه كما فعل الرجل ذو الملابس البيض عندما قرر القضاء عليه بكسر المرآة بالفأس، فالمرآة هنا رمز لمتاهة الحياة التي تؤدي إما إلى التهلكة والضياع أو الفرار والنجاة. والدليل على هذا هو خروج المرآة من باطن الأرض فالشياطين مسكنها هو أسفل الأرض.

المصمت الثالث

في هذا المصمت قرر البطل (الرجل ذو الملابس البيض) أن يترك هذه المدينة وأن يعبر الجسر الذي عبرته الفتاة سابقاً، وبالفعل أخذ زوجته وابنه واتجه بهم إلى الجسر. والجسر هنا يعتبر رمزاً للمستقبل والأمل والنجاة. وعندما وصل إلى الجسر وجد جثة الفتاة ملقاة على الأرض فصدم لرؤيتها هكذا فقام بوضع الجثة على جانب الجسر بعد تغطيتها، وأثناء عبوره الجسر هو وأسرته ظهرت مجموعة من الرجال الذين قاموا بتشكيل دائرة حول الرجل وامرأته، ثم ظلوا ينظرون إلى جسد المرأة فحاول الزوج حمايتها من تلك النظرات وعندما أوشك على ضرب أحد الرجال ظهر من باطن المسرح شاب دميم الخلقة فنظر للمرأة فتحركت بداخله بوادر اشتهائها فأعطى إشارة بيديه فانقض الجميع على الرجل وحاول الشاب دميم الخلقة اغتصاب الزوجة ولكنه لم يتمكن منها. ثم ظهر رجلان فمسك كل منهما إحدى يديها وساقيها وتم اغتصابها أمام زوجها.
ونجد أن الأنباري استخدم في تشخيص مشهد الاغتصاب أحد مظاهر الفرجة الشعبية وهو (خيال الظل) لكي يتم توصيل الحالة بشكل أكثر عمقاً دون خدش حياء المتلقي. وبعد انتهاء مشهد الاغتصاب واختفاء خيال الظل تعود الإضاءة مسلطة على الزوج وهو مصلوب وتمتد الزوجة تحت قدمه ملطخه بالدماء ثم يقوم الرجال بسحبه من على الصليب ويظل نظره معلقا على الجسر وكأنه يبحث عن طوق نجاة ثم يشعر الرجال بالخوف من نظرة الرجل الواقعة على الجسر فيهربون إلى خارج المسرح ويتجه هو تجاه زوجته الممتدة على الأرض ويحملها تجاه الجسر ويدفنها.

واستمر في السير فوق الجسر حتى يلحق بطفله وعندما وصل إلي نصفه ظهر له رجل قصير القامة مدبب اللحية ومعه رجاله فذهبوا إليه وكونوا حوله حلقة وهم يحملون بأيديهم رماحا مدببة الرأس فيطعنونه جميعا طعنة واحدة فيسقط جثة هامدة في أعلى الجسر، ثم يحاول هؤلاء الرجال أن يعبروا الجسر ولكن يتصاعد لهب النيران من أعلى الجسر، وظلت ترتفع السنة النار، ثم ظهرت صورة الطفل في عمق المسرح وكأنها تهيمن على المكان كله فتتوقف الحركة على المسرح وتعلن الموسيقى نهاية الليل وبداية يوم جديد.
يريد الأنباري هنا أن يقول " إن الشر والعنف والجهل مهما زاد سيأتي أمل الغد وستتغير أحوال البلاد وحالة الاستبداد التي تعيش فيها بيد تلك الأجيال الصاعدة، وحيث إنهم سوف يقضون على أي صمت وهم يحررون وطنهم وسترتفع صيحات الخير والعدل حتي تملأ سماء العالم كله"

كما أنه قام بتطبيق جميع الأسس الذي وضعها عند كتابته للمسرحية الصامتة، وتم توصيل الحالة والصورة المسرحية بشكل دقيق ورائع مما يجعل الجمهور على دراية مما يعرض أمامه.

 

حدث منذ الأزل

لقد أبدع الأنباري حقاً في كتابة هذا النص منذ اللحظة الأولى حيث اشتغل على التشكيل الذي يعتمد على الصورة المجسدة بالفعل القائم على الحركة التي رسمت في الفضاء التخيلي للمسرح. وهذا ما أشار إليه في أولى أسس كتابة النص الصامت، ونجد أن الأنباري لم يستغل هذا التشكيل في حركة الممثلين فقط بل استغله أيضاً في حركة الإضاءة والديكور الذي وصفهم في نصه لنقل حالة العرض للقارئ أثناء قراءة النص أو للمتلقي أثناء مشاهدته للنص مجسداً على هيئة عرض على خشبة المسرح. كما أنه طبق ثاني الأسس التي استند عليها هذا المنتج الجديد وهو تضمن النص قصة أو حكاية تراثية أو معاصرة.
نجد بالفعل إن القصة التي بني عليها النص هي قصة حدثت بالفعل منذ بداية خلق البشر أو منذ الأزل كما أطلق عليها الأنباري اسم نصه، وهذه القصة هي قصة (سيدنا آدم) ثم قصة هابيل وقابيل، وقد   استخدم الأنباري هاتين القصتين في نصه من خلال تحليل مصامت النص كل مٌصمت على حدة.
أما عن صورة قابيل وهابيل في المسرحية والتي صورها صباح الأنباري فيها سوف نتعرض لها في السطور القادمة.

المصمت الأول

بدأ الأنباري نصه بوصف شكل الإضاءة المناسبة للنص، وهي عبارة عن إضاءة تشبه البرق مع استخدام موسيقى مصاحبة ومعبرة عن تلك الحالة الضوئية. فكلنا نعلم إن هذه الحالة تثير في نفس الإنسان شيئاً من الخوف والتوتر النفسي وربما الرعب خصوصاً عندما يكون الشخص منا مخطئاً.

ثم بعد لحظات أنزل من فضاء المسرح ثلاثة تفاحات الأولى بحجم أكبر بكثير من التفاحتين الثانية والثالثة تلك التفاحات قصد منها تفاحة آدم عليه السلام، وصورها الأنباري هنا بالجنة. ولكن لماذا كان عددهم ثلاثة تفاحات، ولماذا لم تكن تفاحة واحدة، ولماذا كانت التفاحة الموضوعة في منتصف المسرح أكبرهن حجماً.........؟!
الإجابة هي إن الأنباري كما قلت سابقاً دمج قصتين مستخدماً لبطولتهم ثلاثة شخصيات رئيسية بداخل كل حكاية واحدة فكانت التفاحة الكبيرة هنا هي تفاحة آدم عليه السلام، وصورها الأنباري هنا بالجنة عندما طرد منها والدليل على كلامي هذا ما ذكره الأنباري في نصه عندما قال تفتح من جانب التفاحة الكبيرة بوابتان من خلالهما تقذف بالرجل والمرأة (آدم وحواء) إلى خارجها. وبعد طردهم من الجنة ونزولهم على الأرض (خشبة المسرح) اختفى الاثنان خلف التفاحة. وبعد لحظات يخرج الرجل فتسحبه المرأة ثم يخرج فتسحبه مرة ثانية إلى خلف التفاحة بطريقة تدل على الرغبة والإثارة وأثناء هذا يتغير لون الإضاءة وترتعش دائرة الضوء الحمراء التي تضم الإضاءة مع موسيقي (باك جراوند) كلها آهات وتنهدات، وكأني بالأنباري يريد أن يقول إن الشهوة والرغبة هي السبب الأساسي في نزول آدم على الأرض وذلك بعد أن أغواهم الشيطان وساعدته على ذلك امرأته فاشتهاء الشيء وشهوته ممكن أن يهلك صاحبه وهذا ما حدث فعلا.
وبعد لحظات من الصمت تنطلق زاحفة من خلف التفاحة الكبرى نحو اليسار فتاة جميلة رشيقة القوام (تركة) وفي الوقت نفسه تنطلق زاحفة نحو اليمين شابة دميمة الخلقة مشوهة القوام (عمالة) فتتجه كل منهما إلى التفاحتين الأصغر حجما ويتبعانهما شابان وعندما وصولهم إلى التفاحة يقف الشاب الأول خلف الفتاة الجميلة ويقف الشاب الثاني خلف الفتاة القبيحة ثم ينظر كلَ منهما إلى امرأة الآخر. فينبهر الشاب الثاني بجمال الفتاة الأولى فيتقدم منها ويمسك ذراعها ويحاول سحبها إليه فيعترضه الشاب الأول.. يتدافعان ويتصارعان ويتغلب الثاني على الأول ويطرحه أرضاً ثم يأخذ المرأة الجميلة ويجرها إلى داخل التفاحة ثم يخرج ويجر الفتاة الأخرى أيضاً وتنغلق البوابتان وتطفأ الإضاءة وينتهي المصمت الأول. وهذا بالفعل ما حدث بين قابيل وأخيه هابيل واللذين أخبرتنا عنهم ما روي عن الإمام جعفر كما ذكرت في قصة قابيل وهابيل سابقاً.

المصمت الثاني

في هذا المصمت نقلنا الأنباري إلى عصر القرون الوسطى وذلك حين ظهر الشاب الثاني واقفاً على التفاحة الكبرى كالتمثال وهيئته تشبه هيئة محارب من العصور الوسطى. يفيق الرجل الأول فيجد نفسه بحديقة غناء فيبحث عن شيء مفقود فيهتدي إلى شجرة باسقة. ينجذب إليها ويدور حول هذه الشجرة (امرأة تشبه الشجرة) فيرقص معها، وهذه الشجرة ماهي إلا رمز للحياة. وكأن الله وهبه فرصة ثانية للحياة ولكنه بعد لحظات يظهر الشاب الثاني فتختفي الشجرة والزهور وملامح الحديقة. يسيطر الشر على المكان. تنزل الستارة الأمامية من أعلى المسرح ويكون الشاب الأول تحتها منبطحاً على الأرض ويظل هكذا حتى نهاية المصمت. يعطي الشاب الثاني أمراً فتدق الطبول ويدخل من جانبي المسرح مجموعة من الرجال وكأنه جيش ولا يظهر منه إلا قدمه. فربما أراد الأنباري من هذا التشكيل للصورة المجسدة أن لا يجدد جنسية هذا الجيش، وجعل التعامل كله بالأقدام مما يعطي إحساسا بالذل والإهانة التي تعرض لها الشاب الأول. وانتهى المصمت الثاني باتحاد الأقدام كلها مع بعضها ورفست الشاب الأول رفسة رجل واحد ثم تطفأ الإضاءة.
المصمت الثالث

أما في المصمت الثالث تسدل ستارة من الدنتيلا على المسرح، يجتمع الشاب الأول مع الشابة الأولى (الجميلة) فيجدا نفسيهما بجوار بعضهما في الحديقة فيجلس كل منهما فوق تفاحة فترتفع بهما إلى الأعلى ثم ترتفع معهما الستارة الدنتيلا وكأن الأنباري يريد أن يظهرهما وكأنهما داخل حلم وأنهما صعدا إلى الجنة وتركا الأرض بكل ما فيها من شر.

ثم ينزل بعد ذلك الشاب الأول على المسرح وحيداً دون الفتاة ويظهر الشاب الثاني ويدخلان في صراع فيطرح الشاب الأول الثاني أرضاً وقبل أن ينقض عليه يظهر رجال الشاب الثاني وينتصرون على الأول ويتركونه مغشيا عليه وتطفأ الإضاءة.

وكأن الأنباري يريد أن يقول من هذا إن الشر كثر بشدة في هذا العالم ولكن رغم كثرته إلا أنه مازال هناك فسحة من الأمل.

المصمت الرابع

نقل الأنباري أحداث هذا المشهد إلى القرن العاشر الهجري، وكأنه يلعب في معظم العصور ويريد أن يقول إن جميع العصور ينتشر فيها الشر وكلما تقدم المجتمع ومرت العصور يتقدم معها هذا الشر الذي يسكن طبيعة النفس البشرية فجميع العصور وجميع البشر بداخلهم شر قابيل.

ورغم ذلك لا تزال هناك فسحة من الأمل حتى لو كان هذا الأمل متمثلا في رجل واحد كــ هابيل، فرغم كل الضغوط التي تعرض لها إلا أنه ما زال محتفظاً بإنسانيتهِ ومبادئهِ التي لم تتغير يوماً رغم انتشار هذا الشر الذي يسوق العالم كله منذ قديم الأزل حتى يومنا هذا. والدليل على ذلك " عندما رفض الشاب الأول أن يرتدي مثلهم ملابس جيش الرجل الأول وظل متمسكاً بحريته رغم أن هذه الحرية كانت نتيجتها قتل حبيبته أمام عينه ثم قتله علي يد الرجل الثاني". وهنا أنهى الأنباري عرضه بنفس نهاية قصة قابيل وهابيل عندما قتلت هابيل بيد أخيه قابيل

ونجد الأنباري يريد أن يقول إن الشر والعنف موجودان منذ الأزل ولن يتغير الأنسان مهما جرى من تقدم علمي وتكنولوجي فالطبيعة البشرية واحدة. فبداخل كل إنسان فينا هذا الإنسان البدائي الذي سيظهر عندما يباح له الظهور ويظل متخف خلف قناع العزة والشرف والنبل حتى تسمح له الظروف بالتعري وإسقاط هذا القناع ويندفع نحو الفريسة حتى ينال منها كل ما يريده وبالفعل سوف يناله حتى لو كان الثمن هو حياة تلك الفريسة. وكما قلت إن هذا النص من النصوص المهمة والرائعة وأيضاً الجريئة من بين مجموعة النصوص الذي قدمها الأنباري. كما إنه حقق أيضاً أسس الكتابة التي بني عليها العمل المسرحي.

متوالية الدم الصماء

قدم الأنباري في هذه المسرحية التراث القديم الذي ينتمي إلى عهد الدولة السومرية القديمة* والذي استغله منذ اللحظة الأولى في ديكوره المسرحي حيث كان عبارة عن معبد مشيد على الطراز السومري* وسور ضخم ومدرج عال في وسط المسرح شيد على شكل زقّورة * كما استخدم الزي السومري القديم في العرض.
*
الحضارة السومرية من الحضارات القديمة المعروفة في جنوب بلاد الرافدين (16) وقد عرف تاريخها من الألواح الطينية المدونة بالخط المسماري. وظهر اسم سومر في بداية الألفية الثالثة ق.م في فترة ظهور الحيثيين. لكن بداية السومريين كانت في الألفية السادسة ق.م. حيث استقر شعب العبيديين بجنوب العراق

المصمت الأول

بدأ العرض بتلك الطقوس والعادات التي كان يستخدمها هؤلاء البشر الذين ينتمون إلى تلك الحضارة، حيث كانوا يقومون بها في وقت التعبد والتقرب من الإله، وأثناء تلك الطقوس التي كانت تتم عن طريق كاهن المعبد صم أذان المتعبدين صوت ضجيج يشبه ضجيج مركبة فضائية. يتكرر هذا الصوت فيشعر الجميع هنا بالخوف والرعب فيختبئون جميعاً خلف الكاهن ثم يدخلون المعبد.

وبعد لحظات يخرج من المعبد الشاب الأول وهو يرتدي جلد حيوان مفترس مما يوحي على قوة هذا الشاب

 ومكانته وسط الجميع. فيصعد فوق الزقّورة لكي يتفقد المكان ثم يشير لرفاقه حتى يخرجوا ويشير إليهم لتفقد المكان كله (المسرح) من جميع الاتجاهات ثم يشير إلى جهة الغرب ويخرج الجميع من جهة الغرب.


ومن هنا يريد الأنباري أن يقول إن الشر دائما يأتي من جهة الغرب وهذا بالفعل ما حدث في بلدان الدول العربية التي تم الاستيلاء عليها والسيطرة بعد القضاء على حكامها على يد العدو الغربي الأوحد لدى الجميع فالجميع يعلم أن عدونا جميعاً ليس إسرائيل فما إسرائيل إلا مجرد قناع يرتديه من يتحكم في العالم

أجمع وهو أمريكا. وبالفعل بعد خروج الرجل برفقته يهبط إلى المسرح ثلاثة رجال يرتدون لباس الفضاء.


قام الأنباري بعمل مزيج بين العصور الحديث منها والقديم، وبين التطور والتكنولوجيا وبين استخدام الطقوس البدائية، وكأنه يريد أن يقول إن عدونا واحد رغم تقدم الأمم واختلاف العصور، ورغم هذا التطور

إلا أننا مازلنا لا نتعلم مما حدث لنا في الماضي. فهو نفس العدو ونفس الحرب ونفس الطريقة ولكننا لا نتعلم مطلقاً وسنظل هكذا مهما تقدمت الأمم.

 نجد هؤلاء الرجال الثلاثة يقومون بوضع رؤوسهم في أحضان بعضهم وكأن قلوبهم على بعضهم بعضا، وأثناء هذه اللحظة يدخل الشاب ومعه رجاله فيقوم الرجال الثلاثة بتسليط أشعه عليهم تجعلهم يتجمدون كالأحجار ثم يهبط من فضاء المسرح سبع أعمدة فيقوم الثلاث رجال بتوثيق ذلك الشاب ورفاقه على تلك الأعمدة ثم يظهر رجل ضخم الجثة فيوثقونه هو الآخر على العمود السابع ويقومون بربط أيديهم بأنابيب نقل الدماء بشكل متوال من الرجل الضخم إلى الأول ومن الأول إلى الثاني وهكذا حتى تقبل على الرجل الضخم مرة أخرى بشكل دائري ثم يضعون فوق رأسه قبعة معدنية غريبة تصدر صوتاً غريبا يشبه الصفير ثم تبدأ عملية نقل الدماء.

ومن هنا أطلق الأنباري هذا الاسم على تلك المسرحية متوالية الدم الصماء حيث يتم نقل الدماء في صمت تام دون مقاومة بسبب تلك القوة المسيطرة (الأشعة) على الشاب ورفاقه، ولكن ما الغرض من تلك العملية وهل سيظل الشاب الذي أظهره الأنباري بتلك الصورة القوية صامتاً ومسيطرا عليه هو الآخر كما حدث مع الرجل الضخم سابقاً أم سيكون هناك مقاومة...؟!

هذا ما سنعرفه في السطور القادمة.

بعد أن تتم عملية نقل الدماء يقوم الثلاثة رجال بإفاقه مجموعة الرجال فيقومون جميعهم عدا الرجل الأول يظل مغميا عليه فتنزل رافعة آلية من سماء المسرح ويصعد فوقها جميع الرجال ومن بينهم الرجل الضخم ويظل الشاب الأول فاقداً للوعي.

وبعد صعودهم يخرج الكاهن ومن معه وينظرون إلى الرجل الملقى على أرض المسرح ويقيمون من حوله نفس الطقوس كما في بداية العرض ظناً منهم أن هذا الشاب قد مات وبعد أن قام الكاهن بإحضار رجلين لكي يحملوا هذا الشاب نجد إن الشاب قد أفاق فيصاب الجميع بالدهشة وبتفقد الكاهن الشاب يجده أكثر قوة وطولاً وأصبح يشبه الرجل الضخم. وهذا دليل على أن هذا الضخم قد حدث معه سابقاً كما حدث مع هذا الشاب منذ قليل. ومن هنا أشار الكاهن للرجلين فكونوا من جسدهم مقعدا جلس عليه هذا الشاب ويقوم الكاهن بوضع تاج من الآس فوق رأسه. وفي هذه اللحظة يدخل رجل آخر على رأسه تاج بقرنين كبرين من الذهب ومعه سبعة رجال يتجه إلى الشاب الأول ويدخل معه في صراع فيهزمه الشاب الأول ويسقط هذا الرجل ثم يصارع الثاني والثالث والرابع حتى يهزم السبعة رجال ويتجه وراء الرجل الذي سقط على الأرض ولكن يتدخل الكاهن ويشير للشاب الأول إلى السبعة رجال فيقفون في صفه ويقوم الكاهن بأخذ التاج الذهبي من فوق رأس الرجل ويضعه علي رأس الشاب الأول.

ومن هنا يصبح هذا الشاب هو مالك السلطة والحكم، وينتهي المصمت الأول على ذلك

المصمت الثاني

يبدأ المصمت الثاني برقصات من الشاب الأول وحيداً على المسرح وبانتهاء رقصه يصفق بيديه فيدخل الخدم ومعهم أوان كبيرة من الذهب عليها مجموعة من الأطعمة المختلف أشكالها وألوانها ثم يقوم الراقصون والراقصات بأداء بعض الرقصات أمام الشاب الأول (الحاكم)  ثم يدخل عروس مع عروسته إلى المعبد لكي يقوما ببعض الطقوس فينظر إليها الشاب الأول بنظرات تنتهك جسدها وبالتقرب منها يحاول العريس حماية عروسه لكن الشاب الأول يرميه خارج المسرح وتحاول العروس الهرب دون جدوى ويلحق بها الشاب ويقوم بالاعتداء عليها وينتهي هنا المصمت الثاني.

ومن هنا نستنتج أن كل من يسيطر على الحكم يكون أكثر قوة وأقل ضميراً، هذا ما يفعله بعض الحكام فرغم أن هناك من يقومون بعمل تطور بداخل البلاد إلا أن هناك ظلما وفسادا، وعندما يحاول أحد في التصدي لهذا الفساد فيكون البقاء دائماً للأقوى.

المصمت الثالث

يبدأ المشهد بهبوط الشاب من على الزقّورة، وأثناء هبوطه يضع يده على مجموعة من الشباب فيصعدون على الزقورة واحد تلو الآخر ويقفون بشكل هرمي ثم يصعد الشاب ويكون هو رأس الهرم وكأنه رأس حرب تلك المجموعة. ثم يدخل إلى المسرح مجموعة من الشيوخ ينحنون لذلك الشاب ثم يقوم هذا الشاب بإعطاء إشارة بيديه (يصفق) فينزل من سماء المسرح مجموعة من المشانق فتنزل مجموعة الشباب الذين قام باختيارهم ويقومون بوضع رقاب الشيوخ بالمشانق فيصفق الشاب فترفع المشانق ويختفي الشيوخ من المسرح. وبموت الشيوخ يظهر صوت غريب مطابق تماماً لصوت المركبة الفضائية بالمصمت الأول ويظهر رجلان مثل الثلاث رجال في بداية العرض وتنزل رافعة ويوضع فوقها الشاب الأول بعد تجميد حركته بالأشعة كما حدث سابقاً وترفع الرافعة بالشاب الأول والرجلان وتنتهي هنا المسرحية.

ويمكن القول إن هذا الشاب بعد أن صار كما يريدونه الرجال الثلاثة الفضائيون (الأعداء) مثل الرجل الضخم في المصمت الأول تم أخذه ليقوم بدوره هو الأخر ضد شاب آخر مازال يتسم بالقوة والضمير تجاه الآخرين في بلد آخر للقضاء عليه وحتى يصير مثلهم، وهكذا تستمر اللعبة لآخر الزمان من سيطرة لأخرى ومن حكم لآخر عن طريق متوالية الدم الصماء.

ومن هنا تنتهي المجموعة الأولى التي أطلق عليها الأنباري اسم طقوس صامته.

" تلك الطقوس التي كانت البداية الحقيقية في صمت البشر اعتقادا منهم بأنها مجموعة العادات والتقاليد التي لابد أن يأخذوا بها ويمشوا علي خُطاها دون التفكير في صحتها ودون التعرض والخروج عنها. وإذا فعل أحد ذلك حدث له شيء من الاثنين إما القضاء عليه أو السيطرة عليه بقوة سحرية حتى يكون مثلهم". 
 

الاستنتاج:

من خلال تناولي لهذه المجموعة المسرحية التي كتبها صباح الأنباري، وقمت بقراءتها، وتحليل بعضها، وعرضها، ومقارنتها بالجزء التنظيري من كتابه وجدت أن الأنباري قام بتطبيق هذا الجزء على نصوصه الصامتة بشكل متميز بل وفي منتهي الدقة والوضوح.

حيث حقق جميع أسس كتابة هذا المنتج الجديد بشكل يسهل إدراكه، وفهمه، واستيعابه، وعلى الرغم من ذلك فإنني وجدت ثمة صعوبة في إخراج معظم هذه النصوص المسرحية على خشبة المسرح وذلك يرجع إلى الأسباب الآتية:

 إن الإمكانيات التي يحتاج إليها المخرج في إخراج هذا النص" من تصميم الإضاءة، وتنفيذ الديكور المناسب، واختيار الأزياء والمكياج والإكسسوار (العناصر المكملة للعرض المسرحي) ليست بالأمر السهل والممكن.

إنها لا تتناسب مع ميزانية بعض المسارح في مصر، خصوصاً المسرح المدرسي.

 إن بعض القصص التراثية والملحميات التي عرضها الأنباري من خلال مسرحياته تتعارض مع فلسفة وعادات وتقاليد وأجيال هذا العصر من جميع الجوانب وخصوصاً الجانب الفكري والسياسي والاجتماعي. 

الهجوم الشديد على مثل هذه النصوص من جانب لجان الرقابة والمسؤولين والنقاد سيؤدي إلى دفن هذه النصوص المسرحية قبل أن تولد بحجة إن هذه المسرحيات سوف تتسبب في خلخلة الأمن العام للبلاد، وذلك لأن العرض الذي سيتم تقديمه أمام الجمهور سيجبر المتلقي على الخروج من صمته والتعبير عن رأيه، وعن كل ما هو حبيس في داخله ومقيد لحريته من جانب، ومن جانب أخر إن بعض المسرحيات خصوصاً المسرحيات التي تستوحى من قصص الأنبياء (التراث الديني) سوف تتعرض لهجوم شديد من قبل رجال الدين والمتطرفين دينياً.

وعلى الرغم من ذلك كنت أرغب بشدة في إخراج إحدى مسرحيات هذا المنتج الجديد وهي مسرحية (حدث منذ الأزل) وهذه المسرحية هي خليط من التراث الديني والسياسي والاجتماعي. حيث تبين لنا طبيعة البشر في استغلال قوتهم للسيطرة على العالم، هذا العالم الذي صوره الكاتب في صورة امرأة هي عندي رمز واضح للوطن.

وللأسف فان إمكانيات ظهور مثل هذا العرض، بشكل واضح متميز يليق بتصور الكاتب، تتعدى إمكانيات الميزانية المتاحة بشكل مبالغ فيه وذلك لأن العرض يحتاج إلى مهندس ديكور متخصص ومحترف وقادر على تصميم الديكور المناسب لكل مُصمت مسرحي كما وصفه الكاتب بدقة، وذلك لأن فكرة العرض معتمدة على فكرة الديكور وتصميم الإضاءة والملابس. كما يجب توفير وحدات صوت جيدة لسماع الموسيقي المستخدمة في العرض بشكل واضح يخلو من أي تشويش أو ضوضاء أو حدوث أي عطل، وذلك لتوصيل حالة العرض دون حدوث أي تشتت ذهني للجمهور المتفرج.

فكل هذه المكملات يتوقف عليها نجاح العرض وتوصيل المغزى المقصود منه بشكل سليم يسهل استيعابه وإدراكه. كما إن خشبة المسرح نفسها لا تتحمل تنفيذ عرض كهذا لأنها غير مجهزة بتقنيات المسرح الحديث.

 أفكار الكاتب ارتكزت على خبراته الحياتية والمعاناة التي مرَّ بها بلده الأم (العراق) وكذلك معاناة البلدان الأخرى. إن الكاتب هنا يقوم بترجمة تلك الأفكار على الورق في صورة شخصيات حية منها شخصيات حقيقية من واقع الحياة كشخصية البطل أو الشخص الأول أو صاحب الملابس البيض أو أي مسمى يطلقهُ على الشخصية الرئيسية في العرض.

ومن خلال قراءتي لتلك المسرحيات وجدت إن هذا البطل المسرحي هو الكاتب نفسه الذي يعاني من الظلم والشر الذي احتل بلاده وأثر على حريته فلا يستطيع الصمود والصمت أمام كل هذا الظلم. إنه يريد التحرر حتى لو كان هذا التحرر من خلال كتاباته لهذا النوع الجديد من المسرح. والدليل على استنتاجي هذا تبلور أثناء مناقشتي مع الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل ومعرفتي أن الأنباري كان من العراقيين المهاجرين إلى استراليا الديمقراطية المتحررة، وربما كان هذا التحرر هو السبب في نجاح الأنباري في إنتاج هذا النوع من المسرحيات. وأثناء حواري مع الكاتب صباح الأنباري حول إعجابي الشديد بفكرة ربط التراث بالواقع وكيف اعتمد على جوهره في إنتاج هذه النصوص المسرحية رد قائلاً: كلنا معجبون بالانطلاق من التراث إلى المعاصرة.

ولكي أتأكد من درجة التواصل بيني وبينه قمت بمناقشة إحدى مسرحياته وهي أول مسرحية كتبها (طقوس صامتة) حيث طرحت عليه هذا السؤال الآتي: 

هل التراث العراقي متشابه مع الأساطير والتراث المصري، وذلك لأنني لاحظت في مسرحية (طقوس صامتة) إن طريقة موت النساء بهذا اليأس تشبه أسطورة عروس النيل في مصر؟

قال: نعم ثمة تشابه بين البلدين من هذه الناحية وأنا لا أحدد نفسي ببلد عربي واحد بل أنهل من التراث العربي كله دون تحديد فمسرحياتي غير موجهة لحلب مثلا أو العراق أو ليبيا ...... إلخ دون غيرها من البلدان. ولكن ثمة فرق بسيط هو أن اليأس بلغ أقصاه وإن الموت لم يعد يعني شيئا للمرأة العربية المستلبة والمرأة مستهدفة دائما في واقعنا العربي.

إذن هناك رجال في هذا العالم يؤيدون الرأي حول استهداف المرأة وإن جميع الأخطاء التي تلام عليها هي في حقيقة الأمر غير مسؤولة عنها، وعلى الرغم من إنها فريسة رغبات الرجال دوماً ظنا منهم بضعفها، ذلك بسبب ذكورية المجتمع واعتقاد ذكور المسلمين، على سبيل المثال، أن الخطأ الأول ارتكبته حواء مع أنه لا يوجد نص قرآني يدينها بل هناك آيات تذكر الخطأ الذي ارتكبه آدم وهذا موضوع لا جدال فيه.  

ومن خلال هذا الحوار البسيط تأكدتُ من درجة التواصل بيني وبين الكاتب وإنه استطاع أن يوصل ما يريده للقارئ بشكل مبسط يسهل فهمه واستيعابه كما ذكرت سابقاً. كما إنني لاحظت أيضاً أن معظم بدايات النصوص المسرحية كانت واحدة فالبداية نفس البداية في كل مرة وكذلك النهاية. حيث كانت المسرحية تبدأ دائماً بالعقدة والمشكلة مما تعطي للمتلقي نوعا من الاضطراب النفسي الذي يشعر به من خلال صوت الانفجارات أو الصرخات أو موت أحد أو هروب أحد من الخطر أو حتى ظهور الرجال الكهنة بداخل جو غامض مخيف، كل هذا في بداية النص المسرحي. أما عن نهايات النصوص المسرحية فكانت دائما تنتهي بالقضاء على الظلم وانتصار الخير ونيل الحرية والشعور بالبهجة والسعادة والأمل وذلك من خلال أجيال المستقبل أو البطل أو الرجل الأول، وتنتهي بنهايات مفتوحة خصوصاً لو كانت النهاية مرتبطة بالظلم، فالظلم مستمر حتى نهاية الزمان. كما لاحظت أن الأنباري اعتمد بشكل كبير على الإضاءة والصوت والملابس وكذلك الصورة المجسدة في بناء النص والعرض المسرحي. كما إنه وضع خطة مرنة للإخراج ولكن بتغيير بعض الأحداث بصورة لا تهدر قيمة العرض ولا تبتعد عن الفكرة الرئيسة والمغزى والهدف من إنتاج هذا العرض. وكان رأيي عن هذا واضحا وصريحا، ورغم ذلك انتابني سؤال منذ اللحظة الأولى من قراءتي لمسرحيات الأنباري عن السر وراء تجميع الأنباري مسرحياته في مجلد واحد ولماذا ظهر في هذا الوقت تحديداً ولماذا قام بتقسيم مسرحياته بداخل المجلد لثلاث مجموعات أطلق على كل مجموعة منها اسما أو عنوانا خاصا بها؟

بعد قراءتي للمجموعات الثلاث اكتشفت الإجابة من خلال الترتيب المنطقي لتسمية كل مجموعة بعنوان خاص فقد قام الأنباري بعرض حالة متكاملة من صمت الإنسان الذي يكون أسيرا لطقوس المجتمع الذي يعيش فيه ثم يظل صامتاً حتى يكتشف العالم والأشياء من حوله وبعد سقوط الأقنعة عن وجوه الجميع يعترض منتقداً هذا المجتمع ويقوم بعمل رحلات انتقالية من مكان إلى أخر حتى يكتشف عالما جديدا خاليا من الشر والظلم، وربما يبحث عن مدينة فاضلة لا نزال نبحث عنها بصمت قد يصل بنا إلى التمرد الاجتماعي والدفاع عن غايتنا وحقوقنا الإنسانية حتى لو كان نتيجة هذا الدفاع هو الموت المحتوم مقابل تغيير كل شيء تغييراً جذرياً بعد أن نصل إلى نهاية المطاف لنخرج من ملكوت الصمت ونصرخ لكي نخرج كل ما فينا من أوجاع وقهر وظلم.

لقد قمت بقراءة بعض المقالات الخاصة عن هذا المنتج الجديد فعثرت على مجموعة منها من بينها مقالة للناقدة المغربية (د. أسماء غريب) بعنوان (صباح الأنباري وأعماله الكاملة) فرب صدفة نافعة جمعت بيني وبينها حيث إنها كانت تتحدث عن هذه النقطة تحديداً

  الكاتب صباح الأنباري نشر هذه المقالة على صفحة الفيسبوك حيث كتب في بدايتها كلمة شكر لها قائلاً:(الأديبة البارزة المتميزة د. أسماء غريب لك جزيل شكري على ما تقدمين من جهد ميمون وعطاء مثمر، وخدمة جليلة لثقافتنا العربية آملا أن يطول بك العمر حتى لانحرم من إبداعك وثرائك المعرفي وشكراً لإبداعك في هذه الدراسة المتعمقة لنصوصيَّ الصوامت) ومما جاء فيها ما يأتي:

  "إنّ الّذي عادةً ما يُشَجِّعُ كاتباً مَا على نشرِ أعماله الكاملة ليسَ فقط الإحساس الذّاتيّ أو الشخصّيّ بأهمّية ما تمَّ تقديمُه خلال سنوات العمر الماضية، وإنّما هُو الاعتراف الجمعيّ والغيْريّ بمَا لهذه الأعمال نفسها من قيمة أدبيّة وعلميّة عالية، وهو الأمرُ الذي لا يمكنُ الأخذ به في غياب عنصر التراكم الكمّيّ والكيفيّ، والذي أعني به مجموعَ ما تراكَمَ من موادّ ونصوص وكُتُبٍ فَرَضَتْ ليس على الكاتبِ وحده وإنّما على النّاشر والنّاقد والمهتمين مِن الأساتذة الأكاديميين وغيرهم من ذوي الخبرة والاعتراف الصّريحَ أو الضّمنيّ بأهمّية تجربة كاتب ما سواءً كانَ شاعراً، أو روائياً أو مؤرّخاً أو مسرحيّاً وهلمّ جرّ، وبأحقّيَتِهِ أكثر من غيره بأنْ تُوثَّقَ أعمالُه وتُجْمَعَ في مجلّدات تُجَنِّسُ لما يُسَمّى بـ (الأعمال الكاملة)"  

 الخاتمة:

وفي النهاية أحب أن أقول إن تجربة الكاتب صباح الأنباري هذه كانت فريدة من نوعها فقد قام بتوظيف مجموعة كبيرة من الرموز البصرية بالإضافة إلى إنه قام بنقل حالة من الاضطراب والخلل الذي أصاب الوطن العربي كله.

كما أن هذه التجربة الشيقة أتاحت لي الفرصة لمعرفة فن البانتومايم في ثوبه الجديد من خلال المجموعة المسرحية الكاملة. هذه النصوص التي غيرت من شكل التمثيل الصامت.

حيث كان فن البانتومايم ما هو إلا موقف أو حالة تعرض على خشبة المسرح بدون حبكة متقنة تحتوي على بداية ووسط ونهاية أي مسرحية بمعنى الكلمة. فتاريخ البانتومايم منذ قديم الأزل لا يقدم إلا عرضا مدته لا تزيد عن عشر دقائق، وإذا زاد اكتشفنا إن هذه الزيادة ماهي إلا تكرار للعمل الفني.

حقاً لقد تعلمت كثيراً من هذه التجربة وتعرضت لموضوعات خطيرة تعكس الواقع بصورته الحقيقية وبكل ما فيه من ظلم وشر، وأيضاً التمسك بالخير والحب والأمل، فمهما كثر الشر إلا أن هناك خير حتى لو كان هذا الخير شعاعا صغيرا من النور.

فكل الشكر والاحترام للكاتب صباح الأنباري على هذا العمل الجيد، ولا أنسى أن أشكر أستاذي ومعلمي الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل الذي يأخذ بأيدينا جميعاً إلى كل ما هو جيد ومفيد في هذا المجتمع، فكل الشكر والتقدير له.

 ........................................................

*الزقورة: عبارة عن معبد مدرج كان يبنى في سوريا والعراق ثم إيران ومن أشهر الزقورات عالمياً هي زقورة أور في العراق قرب مدينة الناصرية المسماة حاليا بمحافظة ذي قار جنوب العراق، وزقورة عقرقوف قرب بغداد. ويذكر انه توجد 28 زقورة في العراق، ولقد بنيت الزقّورات في عصر السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين في العراق وسوريا وعرفت زقورات متأخرة من أعمال التنقيب اثنتان منها مؤرختان من عصر حمورابي تقعان في ماري وكيش.

المراجع التي تمت الاستعانة بها:

1. c.l.barber- the story of language- Lebanon- 1975 p. 31
2. john burgess Wilson – English literature- London 1970- p.57
3.  فاسيل انجف، ترجمة محمد سعيد جوخدار: مقالة فن التمثيل الإيمائي - الحياة المسرحية -العدد (56) - وزارة الثقافة - دمشق 2005م

4. المصدر السابق.

5. صباح الأنباري: المجموعة المسرحية الكاملة - الهيئة العربية للمسرح ودار ضفاف - ط1 - بيروت 2017م - ص46.

6. الحياة المسرحية - العدد 51.

7. المصدر السابق.

8.   الممثلون والتمثيل- ص80.

9. الممثلون والتمثيل - ص 77-78.

10.   الحياة المسرحية - العدد 56.

11. الحياة المسرحية- العدد 51.

12.   الحياة المسرحية- العدد 56.

13. صباح الأنباري - نفس المرجع السابق - ص14. (مقتبسه من مرجع) دكتور محمد غلاب: مصابيح المسرح الإغريقي - الدار القومية للطباعة والنشر.

14. صباح الأنباري: نفس المرجع السابق - ص47.

15. صباح الأنباري: نفس المرجع السابق - ص25. (مقتبس من) الأستاذ وليد الحمداني: الشعر الرعوي (المفهوم والخصائص)

16. حسين فهد: موسوعة علم الآثار- دار أسامة- عمان – 2003- ص 292