البانتوميم نصاً أدبياً .. قراءة في نصوص صباح الانباري
التاريخ: Tuesday, July 03
اسم الصفحة: المدى الثقافي

سعد محمد رحيم

 من المتعارف عليه أن النص المسرحي يُكتب ليُمثل لا لكي يُقرأ بعدِّه عملاً أدبياً، غير أننا قرأنا نصوصاً مسرحية كثيرة بالمتعة ذاتها التي قرأنا بها الروايات والقصص، فالأعمال المسرحية القابعة بين أغلفة الكتب في شكل كلمات وجمل وحوارات، والتي أنتجها مبدعون من أمثال شكسبير وأبسن وتشيخوف ويونسكو وجان جينيه وبيكيت وبيراندللو وسعد الله ونوس ومحي الدين زنكنة واخرون كثر من كبار كتّاب المسرح ما تزال تجد الرواج والاهتمام عند عشرات ومئات آلاف القراء في العالم. وغالباً ما تُقارن تلك الأعمال بالروايات لانتماء الجنسين المسرحي والروائي للعائلة الأدبية، ووجود خيط سردي في كل عمل مسرحي (أي أن العمل المسرحي/ الدرامي، في الغالب، يتمحور حول قصة أو حكاية، لها، في معظم الأحيان،حبكة) في مقابل أن الرواية تعتمد القصة والسرد،
    ولا تخلو من عنصر درامي يعززه الحوار. وثمة تقارب، بهذا القدر أو ذاك، في الشريط اللغوي بين الجنسين، ولذا فإن كثراً من الأعمال الروائية تحولت إلى أعمال مسرحية مثّلت على خشبة المسرح (رواية "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان، في سبيل المثال، والتي مُسرحت ومُثِّلت في بغداد السبعينيات). والكلام أعلاه يخص النصوص المسرحية المألوفة التي تعتمد الحوار والبناء الدرامي.
ولكن ماذا عن النصوص المسرحية الصامتة التي تُكتب في بضع صفحات، في شكل تخطيطات وتوجيهات إخراجية، من أجل التمثيل، هل يمكن أن تتحول إلى نصوص أدبية قابلة للقراءة، يقرأها المرء كما يقرأ القصص القصيرة والقصائد الشعرية؟. ألا تنطوي عملية كتابة نص مسرحي صامت بقصد تقديمه للقراءة على عنصر مجازفة؟. ولكن، أليست الاكتشافات الكبرى للإنسانية، في حقول العلم والأدب والفن وبقية أنشطة البشر كانت نتيجة المغامرة والمجازفة غالباً؟.
هذا، على وجه التحديد، ما حاول أن يفعله صباح الأنباري،الكاتب والفنان المسرحي، وهو يتصدى للكتابة في هذا الحقل البكر في ساحة الإبداع على الأقل. فمنذ مطلع تسعينيات القرن المنصرم دأب الأنباري على تجريب كتابة نص مسرحي صامت يمكن أن يُمثل على خشبة المسرح، وهذه غاية كل نص مسرحي، ولكن هو معد للقراءة أولاً مثل أي نص أدبي آخر. ففي الوقت الذي انشغل فيه الأدباء من شعراء وقصاصين وروائيين تحت ضغط هاجس التحديث لإبداع نص مختلف، اشتغل الأنباري بموازاتهم في مجال الكتابة المسرحية، ونصبُ عينه اجتراح جنس أدبي له قرابة مع الشعر والقصة القصيرة والسيناريو السينمائي، ناهيك عن المسرح. وعلى حد تعبيره فالنص المسرحي الصامت لكي يجنّس أدبياً لابد لمبدعه من جهد ودراية "بحرفية المسرح وأصول الإخراج. وقدرة أدبية على توصيف الفعل الدرامي واستثمار إمكانات الفنون الأخرى كالموسيقى والباليه والرقص والأكروباتيك". وربما كان أحد دوافع الأنباري لدخول هذا المعترك هو اليأس من تمثيل مسرحياته الجادة، في وقت قريب،والتي كتبها ولم تمثل بسبب تراجع وتدهور حالة المسرح مثلما تراجعت أشياء كثيرة، كبقية الفنون وغيرها، في العراق، إبان حقبة الحصار.يخبرنا الأنباري في مقدمة كتبها لمجموعته المسرحية (ارتحالات في ملكوت الصمت)،والتي احتوت على أحد عشر نصاً مسرحياً صامتاً أن المسرح الصامت (البانتوميم) يعتمد الصورة أساساً، فهو فن بصري بحت. وإذا كان جذر المسرح الصامت هو رقصات الساتير الطقوسية التي كان العبيد يؤدونها في المعابد القديمة بالاعتماد على "الحركات والإشارات والتشكيلات التعبيرية" فإنه منذ مطلع القرن العشرين عرف العالم التمثيل المسرحي الصامت، وربما نتيجة التأثر بالسينما الصامتة. غير أن النص المسرحي الصامت، القابل للقراءة لم ينجز إلاّ على يد صموئيل بيكيت في (فصل بلا كلمات) وهي مسرحية تخلو من الحوار وتصف الحركات والإيماءات، وتكون قابلة للقراءة. ولم يتحول نص بيكيت إلى نموذج لكتّاب آخرين يحذون حذوه إلا في القليل النادر فلم يؤصل نص المسرح الصامت جنساً أدبياً،ولم يحظ باهتمام نقدي يكشف قوانينه ويقوّم بنيته ويضيء السبيل، من ثم، لكتّاب آخرين يلجون حقله.يتحدث الأنباري عن ممكنات وآفاق هذا النوع من الكتابة فيقول " إن إمكانية المسرحية الصامتة المحدثة غير محدودة، ومرونتها تؤهلها للاشتغال كعرض مسرحي على الخشبة وللقراءة خطاباً أدبياً وللإلقاء المنبري صوراً قابلة على تفعيل الحس البصري" فيبشر بها جنساً إبداعياً "ربما يعمل على زحزحة الأجناس الأخرى ليحتل رقعة واسعة ومتميزة". ويحدد الأنباري جملة من الخصائص التي تميز النص المسرحي الصامت منها قدرة هذا النص على تخزين الصور الشعرية، فالصورة تمثل إحدى أدواته الأساسية... وتضمّنه قصة أو حكاية تراثية أو معاصرة مستفيدة من العناصر الدرامية في بنائها وأسلوبها... واعتماده على خطة إخراجية محكمة وممكنة التنفيذ على الورق أو الخشبة في آن... ومخاطبته العالم بلغة كونية تقربك من كل سكانه دون وساطة الترجمة والنقل في حالة الأداء على الخشبة بالاعتماد على لغة الجسد. بدأ صباح الأنباري حياته الإبداعية منذ مطلع السبعينيات مخرجاً لمسرحيات عديدة قدمت على خشبات المسرح في بعقوبة وبغداد، كما مثّل في عدد من الأعمال المسرحية، وكتب الشعر، ومن ثم المسرحية بشكلها المألوف بناءً درامياً نسيجه الحوار، وله مساهمات في الكتابة النقدية. وفاز بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الأقلام للعام 1993عن مسرحيته (زمرة الاقتحام) وفيما بعد أصدر ثلاث مجموعات مسرحية هي (طقوس صامتة/ 2000) و (ارتحالات في ملكوت الصمت/ 2004) عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد. و(ليلة انفلاق الزمن/ 2001) عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا، كما أن له كتاباً نقدياً بعنوان (البناء الدرامي في مسرحيات محي الدين زنكنة/ 2002) أصدرته دار الشؤون الثقافية أيضاً.. وفي معرض تسويغه لتجربة كتابة النص المسرحي الصامت يقول؛ "جاء انصرافي واهتمامي وانشغالي بالمسرحية الصامتة نتيجة عدم قدرة الأجناس الأخرى على استيعاب شبكة أحلامي الواسعة". أي أنه وجد ضالته أخيراً في هذا الجنس الذي يستوعب ممكنات أجناس كثيرة أخرى، ويمكنه التعبير عن أفكاره وتوجهه ومزاجه الإبداعي أكثر من غيره.نشر الأنباري أول نص مسرحي صامت في مطلع العام 1994 في صحيفة محلية بعنوان (طقوس صامتة)، وحملت مجموعته الأولى العنوان ذاته. وقراءة هذه المسرحية تعطينا مفاتيح أولى للتعرف على تجربة الأنباري بهذا الصدد. فثمة استثمار لتقنيات المسرح التقليدية ولاسيما الضوء والظل وحركتهما، وتوزيع الأصوات،وهي أصوات آلات موسيقية وهمهمات وصفير وضجيج وصخب، أي أن المسرحية الصامتة ليست صامتة تماماً، وسميت كذلك لخلوها من الكلام البشري الاعتيادي، أو بالاصطلاح المسرحي من الحوار الذي هو عماد المسرح الصائت. كما أن الأنباري وقد استوعب جيداً خارطة المسرح مكاناً،أو فضاءً، له القدرة على تحريك شخوصه بنظام خاص على خشبة المسرح مؤدياً دور المخرج، فالمسرحية الصامتة بهذا المعنى هي خطاطة إخراج متكاملة. "تتعالى ضربات الطبول سريعة، متعاقبة.. نسمع من خلال الظلام أصوات أبواب تُفتح ثم تغلق بقوة، محدثة جلبة وضوضاء.. يخرج الناس مهرولين،لاهثين في الظلام..إضاءة مركّزة ومتحركة نرى أثناء توهجها الرجل ذا الملابس البيض واقفاً أقصى يسار المسرح يبدي تعجبه واستغرابه من حركة الناس، يحاول إيقاف أحدهم لكنه يفشل.."(من مسرحية؛طقوس صامتة). وهذه المسرحية بمجملها تنطوي على حكاية تؤدّى من خلال حركات الشخوص وأصوات الآلات الموسيقية، فضلاً عن انتقالات وتبدلات مساحات الضوء والظل.ما يؤخذ على الأنباري في هذه المسرحية، وفي أخرى غيرها، أو ربما يُحسب له،هو الكلمات الواصفة التي لا يمكن تحديدها بدقة، أي أن ذلك يُترك لمخيلة المتلقي ومرجعيته الثقافية وكيف يتصور الأمر، ومن هذه الكلمات(رقصة شيطانية، موسيقى غرائبية، تشكيلات استعراضية مدروسة، بأسلوب كهنوتي، رقصة طقوسية قديمة، موسيقى رومانس، امرأة عصرية.. الخ).إن الثيمة الرئيسة في هذه المسرحية، كما في معظم أعمال الأنباري الأخرى، هي الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر. وعبر هذا الصراع نقع على الثيمات الأخرى المتصلة بالطبيعة البشرية وآفاقها ومنها (الحب والكره والحرية والعبودية والقسوة والعنف والظلم والعدالة والألم والشفقة والحنين، الخ). ولأجل هذا يوظف الأنباري رموزاً واستعارات ودوالاً معظمها متعارف عليها مثل البياض والسواد، الصباح والليل، النور والظلام، جمال الوجه وقبحه، الورد والشوك، الموسيقى الهادئة والموسيقى الصاخبة. في صراع قوى الخير والشر، أو قوى النور والظلام، الذي هو محور مسرحيات الأنباري، لا نلتقي الإنسان المستسلم لقدره فقط، وإنما ذلك الذي يقاوم ببطولة حتى وإنْ كان يعرف إن مصيره هو التصفية والموت. في مسرحية (أزمة صاحب القداسة) من مجموعة (ارتحالات في ملكوت الصمت) نجد روح التحدي التي يتمتع بها الفتى (والفتى رمز لقوة المعارضة والثورة) وهو يواجه الكاهن/ الملك، فيرفض السجود له ولتماثيله، ويفعل ذلك قسراً حين يضع اثنان من رجال الكاهن أقدامهما على ظهره، لكنه يمضي ليأتي بفأس يهدم به التماثيل، قبل أن يتمكنوا منه ثانية، وهنا، في اللحظة الأخيرة، يرفض طلب المغفرة باصقاً في وجه الكاهن/ الملك ورجاله القساة وتماثيله/ الأصنام.وعلى الكاتب المسرحي أن يكون ملماً بالإخراج، وبالموسيقى، وبالفنون التشكيلية، وهذا ما نجده عند الأنباري، الذي يرسم لنا لوحات متقنة: كما أن الأنباري يستثمر تقنيات فنون مجاورة للمسرح مثل القصة والسيناريو السينمائي والشعر، وفي سبيل المثال حين نقرأ هذا المقطع من مسرحية (الهديل الذي بدد صوت اليمامة) وهي من مجموعة (ارتحالات في ملكوت الصمت) لا يمكن أن نخطئ النَفَس القصصي الذي كتب به؛امرأة قاربت الثلاثين من العمر تجلس مستوحشة إلى منضدة وضع عليها كأسان من عصير البرتقال.. الكرسي الوحيد المقابل لكرسيها غير مشغول طوال الوقت... المرأة مسترسلة في قراءة رواية ماركريت ميتشل (ذهب مع الريح).. تتنبه إلى صوت الهديل.. تطوي الكتاب وتضمه إلى صدرها.. تنهض..."يؤكد الأنباري على ورود كلمة الصمت في معظم عنوانات مسرحياته الصامتة (تسع من مجموع أربع عشرة مسرحية، ضمّنها في مجموعتين له وردت في عنوانيهما، أيضاً، كلمتا ، الصمت وصامتة)،كما لو أنه تحت وطأة هاجس دائم يخبرنا عبره أنه يكتب مسرحيات صامتة (بانتوميم). وأحسب أنه ليس بحاجة لهذا دوماً.من يقرأ مسرحيات الأنباري الصامتة، لا يدرك مدى تمكنه من تمثيل صورة الواقع المضرجة بالدم مثلما تلمسها وخَبِرها إبان العقود السابقة وحسب، بل أن القارئ سيكتشف، كذلك،نفاذ بصيرة الأنباري وهو يصور واقعاً فجائعياً كأنه النبوءة نعيشه الآن.