تجارب إبداعية محدثة في المسرح العراقي

لقمان محمود

يبدأ الكاتب صباح الانباري في كتابه النقدي (المقروء والمنظور) الربط نظريا، وتطبيقيا بين شقي المسرح العراقي من خلال رصد جيد للمتميز منه تأليفا، وإخراجا لإبراز جماليات هذه التجارب الإبداعية، والكشف عن مكمن الإبداع فيها.

يتألف الكتاب من ثلاثة فصول. ففي الفصل الأول والمعنون بـ "استلهام وعصرنة التراث فنيا" يتناول المؤلف نصوصا مسرحية متميزة لكتاب متميزين أمثال: محيي الدين زنكنه، عادل كاظم، جليل القيسي، محمد موكري، حازم كمال الدين، قاسم مطرود، وكريم جثير. وقد جاء هذا الفصل مبوبا على شكل دراسات منفصلة تناول في الأولى موضوعة استلهام التراث استلهاما مشرقا بثلاث طرائق درامية هي التعارضية، والملحمية، والحكواتية.

اشتغل الانباري في دراسته هذه على نصوص مسرحية بارزة لكل من المبدع الراحل محيي الدين زنكنه ومحمد موكري.

تعارضية هارون الرشيد في نص المبدع الراحل زنكنه (الخاتم)

تبدأ هذه المسرحية بإلقاء الضوء على شخصياتها الرئيسة كاشفة طبيعة تلك الشخصيات من خلال سلوكها (تعارضيتها) ومواقفها المشوبة بالغرابة، فهارون الرشيد بطل مسرحية (الخاتم) وشخصيتها المحورية شخصية غير محددة بسمات تشخيصية. وهذا عائد إلى أن زنكنه أراد أن يقدم هذه الشخصية الرئيسة على مستويين: يعرضها في المستوى الأول كما يراها في الواقع، ويعرضها في المستوى الثاني وفق رؤيته الاستبصارية لها. بمعنى أنه يعمل على إبراز تمظهرهما شكليا، واختلافهما جوهريا. فالمسرحية عند هذا المبدع عمل درامي يزاوج فيه بين الفن والأدب بطريقة مدروسة تتيح إمكانيات أدائية متفوقة على صعيدي قراءتها كنص أدبي، ومشاهدتها كعرض مسرحي. ولعل أهم ما يمتاز به محيي الدين زنكنه في هذا الجانب هو قدرته على تسخير الأدب ليخدم أغراضه الفنية.

تعارضية الرشيد في نص محمد موكري (هارون الرشيد):
نجد أن الكاتب الكردي المعروف محمد موكري قد جعل الدخول إلى هذه المسرحية، وتقصي عوالمها، واستقراء أحداثها، وأفعالها، وصراعاتها العنيفة يمر عبر بوابة الدم. حيث يعود السبب في ذلك إلى حجم الدمار الذي يصيب الناس من السلطة ،والسلطان، والمتسلطين. فالمسرحية تربط بين الماضي، والحاضر الذي لم يتغير كثيرا. وبذلك يحذرنا (موكري) من مغبة استمرار الماضي البغيض بكل ما يملك من دموية، وعنف، وترهيب، وقتل جماعي.
في الدراسة الثانية، يتناول المؤلف مسرحية (الحداد لا يليق بكاليجولا) للكاتب الراحل كريم جثير وفيها اشتغل على بنية التشاخص الدرامي بين شخصية النص المحورية، وبقية الشخوص جاعلا من التشاخص طريقا للوصول إلى جوهر الشخصيات.
ان افضل المصادر التي نستقي منها المعلومات عن هذه الشخصية أو تلك هو ما تقوله الشخصية عن نفسها، أو ما يقوله الشخوص الآخرون عنها. فعملية التمايز بين الشخوص، والفرز الدقيق بين شخصية وأخرى هما شرطان أساسيان من شروط التشاخص الدرامي. وفي ذلك يقول المؤلف:
تضمن العنوان كما هو حال الكثير من المسرحيات اسم بطلها المحوري (كاليجولا) واشتغل المتن في (ما قبل الحداد) على التعريف بهذه الشخصية من خلال بوحها المستمر وإعلانها الدائم عن نفسها، فهي تقول على سبيل المثال:
كاليجولا هو من يفرض قداسته على الاخرين بالقوة وبخلاف ذلك لا يمكنه أن يكون مقدسا وهذه هي – بحسب المؤلف أولى مراحل التشاخص الدرامي التي تعنى بتثبيت طباع الشخص ومزاجه الخلقي ورؤيته لنفسه وللآخرين. وهي حصيلة طبيعية لسلوكها العام الذي يدلنا بدوره على مجموعة الصفات، والمواصفات التي تتحلى بها الشخصية مأخوذة بأبعادها الطبيعية، والاجتماعية، والنفسية.
في الدراسة الثالثة يتناول الناقد صباح الانباري المكان وحالة الضيق في مسرحيات جليل القيسي الذي يعد ركنا من أركان المسرح العراقي في سبعينيات القرن الماضي. ونظرا لأسلوب القيسي المتميز بواقعيته، ووضوح رؤاه، وجزالة كلمته، وبساطتها، ورشاقتها، وتناوله للموضوعات الاجتماعية التي تصب في هموم الناس، واهتمامهم فقد دأبت الفرق المسرحية على تقديم أعماله المسرحية بأساليب إخراجية مختلفة. كل ذلك واضح في مسرحية (في انتظار عودة الأبناء الذين لن يعودوا إلى الوطن ثانية) حيث وضع الممثلين في مكان ضيق منزو داخل صالة انتظار المسافرين. إن هدف القيسي من ذلك هو إيصال معاناة الثكالى وآمالهن البائسة بعودة أبنائهن من الأسر إلى الوطن. كما يتكرر ذلك في مسرحية (غدا يجب أن ارحل) التي تدور أحداثها في موقف انتظار حافلة مصلحة نقل الركاب. إن البيئة المكانية عند القيسي تخضع لاعتبارات قصدية تفرضها طبيعة تلك البيئة، وانتماء الشخوص اليها، وهويتها الجغرافية.
في الدراسة الرابعة يتناول المؤلف الرؤيا الاستقرائية في عوالم مسرحية (الجرافات لا تعرف الحزن) للكاتب قاسم مطرود الذي أسس بهذه المسرحية رؤية درامية مفتوحة على عالمين متباينين: الأول واقعي يفضي إلى آخر تخيلي، والثاني ذاكراتي يلتحم مع الأول كمنجز له. وقد نجح الناقد في الاشتغال على هذه المسرحية اشاريا من خلال الاستناد على ظرفية الـ(هنا) والـ(هناك).

إن عالم الـ(هنا) الموجودة واقعيا عالم دمرته الحرب وطاله خرابها، وتفشى ذلك الخراب حتى طال حياة الشخصيات الرئيسة، وحطم نفوسها. الـ(هنا) إذن ـ بحسب المؤلف ـ لا تلتقي عند الأم التي غيبت الحرب ابنها وفرضت عليها انتظاره سنوات طويلة بالـ(هناك) وبهذا تفشل كل محاولات الابنة والزوجة في حبك لحمة اللقاء بسداه. الـ(هنا) إذن هو المكان القريب الحاضر المعلوم الذي تتحرك على أرضه الشخصيات المأزومة. والـ(هناك) هو المكان البعيد الغائب المجهول.
في الدراسة الخامسة يتناول المؤلف عقدة الشعور بالوحدانية في المسرحيات المونودرامية فاشتغل على نص للكاتب بنيان صالح وذلك بإجراء مقارنة بينه وبين نص للكاتب السوري فرحان الخليل مشيرا إلى حجم المقاربة والتناص بين نصه الموسوم بـ(الفزاعة) ونص بنيان صالح الموسوم بـ(منيكان).
في الفصل الثاني والمعنون بـ(المقروء والمنظور) يتناول فيه المؤلف مسرحيتين هما (للروح نوافذ أخرى) لقاسم مطرود تأليفا واحمد حسن موسى إخراجا، ومسرحية (العلبة الحجرية) لمحيي الدين زنكنه تأليفا وفتحي زين العابدين إخراجا.

أما الفصل الثالث والمعنون بـ (المنظور) فقد خصصه للعروض المسرحية تحديدا، حيث اشتغل فيه على بنية الصورة الدرامية بشكل عام مفتتحا إياه بدراسة جميلة عن الرقص الدرامي وإشكالية المصطلح.

..........................................
هامش:
الكتاب: المقروء والمنظور: تجارب إبداعية محدثة في المسرح العراقي.
المؤلف: صباح الانباري.

الناشر: مؤسسة سردم للطباعة والنشر، كردستان – السليمانية 2010.