المخيلة الخلاقة في تجربة محي الدين زنكنه الابداعية
تأطير لنقد عراقي حديث في سياق قراءة تجربة معاصرة
فتح الله حسيني
يعول الناقد العراقي صباح الأنباري، في كتابه النقدي"المخيلة الخلاقة..في تجربة محي الدين زنكنه الإبداعية" الصادر حديثاً في مدينة السليمانية ضمن السلسلة العاشرة من سلسلة منشورات مجلة "بيفين العربي" على تدافع اللغة وقوة السرد النثري الطافح جيداً في تجربة زنكنه الطويلة مع الراوية والقصة والمسرح.
يحاول الناقد الأنباري، بالإضافة إلى تقديم ببليلوغرافيا شبه شاملة عن تجربة المبدع زنكنه، يحاول تقديم تعريف شامل عن تجربته الإبداعية المختلفة في صنوف الرواية والمسرح، ودراسة تلك الأعمال بدقة نقدية وفق ضوابط تحددها النصوص أولاً، ومن ثم يحددها الناقد تالياً، كسمة أولية في تقديم وتوضيح رؤى تجربة لها باعها غير القصير في مضمار الأدب العراقي ككل، لاسيما عبر كتابته لأولى قصصه في العام 1968 بعنوان "الجراد" لينشر له لاحقاً أضخم الأعمال القصصية، بعنوان "الموت سداسياً" حيث يتوقف الناقد الأنباري حيالها وقفة طويلة وبروية تامة، بعد أن يسلط فيها محي الدين زنكنه الضوء إلى عملية تغريب الإنسان داخل أرضه وتحت سمائه وهو في وطنه وبين مواطنيه، ومن ثم لتتحول القصة البكر "الجراد" إلى عمل درامي ضخم، لتبدأ مرحلة طبع المسرحيات تباعاً ومنها مسرحية "السؤال"، "اليمامة:، ومن ثم في العام 1985 ليطبع كتابه الموسوم "مساء السلامة أيها الزنوج البيض" وليضم الكتاب ثلاث مسرحيات وهي "مساء السلامة أيها الزنوج البيض" وهي عبارة عن مونودراما من فصل واحد، ثم "لمن الزهور" التي نوقشت في الجلسة الرابعة لمهرجان بغداد، والمسرحية الثالثة "العلبة الحجرية" وهي أيضاً دراما من فصل واحد.
يتطرق الناقد صباح الأنباري في سياق تأمله في نصوص محي الدين زنكنه وتجربته الإبداعية إلى تجليات السرد وجمالياته في قصص زنكنه ومسرحياته وعموم نثره، ومن ثم التوقف بدقة أمام تجربة محي الدين زنكنه من مرجعيات المعرفة إلى مهيمنات الكتابة، إذ تكون للبيئة الأصلية أثرها الأكبر على التجربة الإبداعية وصقلها أو جعلها هشة، ليدرس حياة ونشأة زنكنه، ومن ثم تحليل أثر الطفولة على الإبداع بعمومه، ليكون، بالتالي، منفصلاً ومستقلا عن نصوصه وشخوصه، وهي تتفاعل رويداً رويداً مع الحياة، رغم كل القسوة والعسف، يظل هو، الروائي، السارد، بمنأى عن التدخل في شؤون شخوصه وتحركاتهم وتأملهم أو تحريكهم كالبيادق، لأننا، بحسب صباح الأنباري، يندر أن نقرأ لزنكنه نصاً خالياً من صراعات تتجسد عبر حوارات قصيرة أو طويلة، رأس السهم فيها يشير نحو تأجج واشتباك الأضداد واصطراع المتناقضات.
في قراءته لقصة زنكنه الموسومة "سبب للموت سبب للحياة" يتطرق الأنباري إلى بنية التغيير التي يسرد فيها القاص الحدث من أقرب نقطة إلى المنتصف إذ يبدأ جملته الأولى بـ"أخذت ضرباته تتوالى على مؤخرة رأسي" وهي امتزاج بين الحاضر والماضي، أو بما يسمى الاختزال، وهي سلسلة الأفعال التي قامت بها الشخصية والسلطة والجماهير وأدت بمجموعها إلى قذف الشخصية الرئيسة في خضم الحدث بشكل مباشر، دون مقدمات أو تمهيد أو استهلال يذكر، أي التركيز على حالة واحدة دون الأخذ بعموم التجربة، فأبطال زنكنه لا ينظرون إلى الحياة على أنها حياتهم ولكنهم يفتحون الدعوة لنا جميعاً للولوج إلى حياة ينوّهون إلى تشييدها، وليشيدونها فعلاً ، ولكن أين؟ في الضمائر البشرية.
في لغته، يعلن محي الدين زنكنه الحرب على السرد، وهو الذي يسرد بقوة، راوي أو كاتب مسرحي أو قاص، ما يريده، مثل "لقد أعلنوها حربا لا هوادة فيها على الجراد.. وكل الحشرات القذرة"..فهي بالمحصلة، جمل حازمة في مضامينها كما في معانيها، ومن تلك النماذج أيضاً "لقد اتسخ العالم، القذارة تنحر النظافة، تنخر في الماء، في الخبز، في الهواء، حتى النافذة العليا التي عبرها تأتينا بين الحين نفحة هواء نقية قد اتسخت الآن، أخذت تفوح رائحة الجثث، الجثث الطافية فوق المياه، كالجندول، يا للسخرية، الماء، تغطيه الجثث، الماء جثث، وأنا هنا جثة أيضاً، وأنت أيضاً جثة، الكل جثث".
يستقرئ قارئ كتاب "المخيلة الخلاقة..في تجربة محي الدين زنكنه الإبداعية" عبرة الاشتراك بين تجربتي محي الدين زنكنه وتجربة فرانز كافكا وخاصة في قصتي "الجراد" لزنكنه، وقصة "التحول" أو "المسخ" لكافكا، في استناد كليهما إلى لغة المسخ، الجثث، لغة العقاب الطافحة، النسف، ، كما يتجلى بوضوح أيضاً بين مسرحية "الخاتم" وقصة "العلبة الحجرية" حيث يتجلى التدمير بشكل واضح في استخدام الحالة القاسية في السرد دون التعويل على السرد الزائف، المستدرج عنوة، لأن زنكنه يزج بالمتلقي في أتون النص الإبداعي وفي سياق العملية الدرامية كمساهم في مجرياتها، ومندمجاً فيها اندماجاً ستانسلافسكياً أو حاكما عليها بريختياً، بتعبير الأنباري، لينهل من التجارب والنظريات ما يمكنه من الظهور بتجربة مستقلة ومتفردة موائمة لواقع شخصياته السلبية منها والايجابية. بقي أن نقول أن كتاب "المخيلة الخلاقة " نقد واع في تجربة واعية، وهو بالمحصلة تأطير لنقد عراقي حديث في سياق قراءة تجربة حديثة معاصرة.