البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه
سيرة مبدع بقلم مبدع !!
بتوقيع قلم حريص ودءوب،يتلمس الناقد والكاتب المسرحي(صباح الأنباري)الخطوات الإبداعية الدرامية لكبير راهن المسرح العراقي(محيي الدين زنكنه)..بتمحيص ودراية تستوضح تفاني الباحث وتتبعه لـ(زنكنه)عن كثب،ساهراً بتواجد خلوص في قلب كل فكرة يقولبها الكاتب نصاً درامياً،ومن خلال الجهد التتابعي والقراءة المحايدة تشكلت لدى(الأنباري)بانوراما معلومات متكاملة،تضاهي قراءتها متعة قراءة(نص إبداعي موضوع)..والكتاب[البناء الدرامي في مسرح (محيي الدين زنكنه)]من إصدارات دار الشؤون الثقافية العامة/2002..جاء كتتويج لرحلة كاتب خاض أشواطا محفوفة بالمطبات والعراقيل،خلال مسيرته الأدبية،التي لم تنجو من الكاميرات(الغوبلزية)للمراقبة،كونه من جهة ينتمي لقومية،النطق بها يستوجب سحب مسدس أو تهيئة حافلة للتهجير إن لم نقل انشوطة الشنق،فالكاتب كائن ترفضه الحكومات مهما طبلت وزمرت وأعلنت عبر شعاراتها المعلنة أنها تنتهج الديمقراطية في نهجها،ومسالك الحريات مفتوحة من غير أقفال أفواه وأصفاد أذرع وأقدام،هذا كان يحصل في تلك الفترات المتوترة،أبّان صعود تيارات تحت يافطات مشوهة وتبني أفكار مسخ رعوية أكثر مما هي حضارية،وهي تمد مخالب سرية لتكميم أفواه المتنورين والذين يتعاطون الثقافة زاداً،ترى كيف السبيل إذا كان الكاتب(كوردياً)ينتمي لطبقة المسحوقين ويتعامل بعملة التراث والواقع غير المفترض،يتواجد داخل الرحم،يزق التاريخ مصل الحقائق،يجابه الظروف الحياتية بيقين راسخ غير مبالياً بما يخبئ الأفق من الغمامات الغامضة والبروق التي لا ترحم،كونه يمتلك إرادة قدت من فولاذ الكلمات،وتشرب الجسد بثوابت الخلود،هكذا خطا(محي الدين زنكنه)خارقاً سواد السنوات العصيبة مجتازاً مهاوي القرن الفاسد،قرن صعود الدكتاتوريات إلى أمجادهم الغبارية،وجد الكاتب فرص مؤهلة لقيادة حلمه المسرحي عبر سباحة تكاد أن تكون فترات تنقيه أو استجمام،أو(تبليط)الجادة الناصعة لأمطاره الفكرية،كتب القصة القصيرة،القصة التي لم تبارح المشكلات اليومية لأناس تسكنهم الأحلام وتؤرقهم الرغبات البسيطة،وعالج بجنس الرواية الكثير من المستحقات الحياتية،مواقف عاشها،مكرهاً ومرغماً،لكن المسرح كان الميدان الفاعل لمجابهة أعداء النور،ووجد التراث خير أقفاص لإسقاط زمر الظلام فيها،من غير أن تنتبه تلك الزمر ما الذي يريده(زنكنه)في كتاباته التي تواصلت من غير توقف،وضع في باله المخالب المتهيئة لخنق فتيان الكلام،عمل من مكان قريب،حيث العيون ـ أقصد عيون الحكومة ـ منصبة عليه،تلك العيون التي كانت تطارد كل حرف وكل نغمة رفض يسري داخل أروقة نصوصه،وكان(زنكنه)مؤهلاً مذ بدأ رحلة الدفاع ـ حاملاً مشعل التنوير ـ عن تلك الإرادات المغلوبة على أمرها،والألسنة التي تمتلك الغناء في الهواء الطلق،واضعاً التراث أطر لتمرير ما يريد تمريره،وبذلك كمم أفواه المتربصين،وقفل بمفتاح الإبداع أذهان أزلام السلطة،وعرف كيف يتعامل بنقود غير مزيفة،بكلمات ليس كل عين قادرة على بيان ذهبيتها،رصها في تناسق محكم كبنيان مرصوص لا فيضان بوسعه نخر جدرانه،لذلك نجا الكاتب من تلك الملاحقات السرية التي(تزنجرت)من هول الجمود الذهني والتلاعب البارع من قبل(محي الدين زنكنه)الذي كان مثل عدّاء استثناءي ظلّ المتسابقون يلهثون وراءه،فهو إنسان أدرك من خلال وعيه الكوردي وثقافته العربية أن الانتماء لغير الإنسانية انتحار مبكر للأديب،لذلك ظلّ لا منتمياً لتوجهات السلطات المتعاقبة،وظلّ فارضاً احترامه على كل عين دربت لمراقبته أو قراءة أفكاره،لقد أعلن لا من خلال لسانه بل من خلال قلمه أن انتماؤه للإنسان الكادح وهو يلاوي الظروف وتجلياتها،الطبقات التي تريد حرية العيش لا حرية التعبير،من أجل تحقيق الفرادة وعدم التغريد خارج فرن الواقع أضطر للجوء إلى وسائل مراوغة لتحرير قيامة الأشياء المرصودة والتي باتت تؤرقه،كي يواصل نضاله وكفاحه المسرحي خارقاً الحواجز العارضة وعابراً العيون المتأهبة،عبر نصوص مسرحية حفلت بالعديد من الأسئلة المتناسلة،والكثير من الاستفهامات التي ما تزال تبحث عن أذهان(كومبيوترية)لتحويلها إلى علامات تعجب ودهشة،رغم أن ما كتبه من نصوص واضحة الملامح لأصحاب التنوير المعرفي،الذين قبروا كل شيء فيهم خشية البوح المحظور،لقد أتخذ الكاتب أ سماء مستعارة كي يخترق الفضاء المصادر من قبل عيون تطارد أصحاب الآراء الخطرة،وعرف كيف يمرر الأشياء دون اللجوء إلى(جواز سفر)..كي ينثر آراءه للزمن الراهن ولكل الأزمان التي لابد وأن تأتي بكيانات لا تحيا إلاّ بزراعة الفوضى ونثر العذاب والجوع وحجب النجوم المضيئة ـ أقصد المتنورين وأصحاب الرأي الرشيد ـ من فضاء الحياة،والباحث(صباح الأنباري )..ليس بالاسم الطارئ على إجناسية الأدب المسرحي العراقي،له باع طويل وخبرة تكاد تكون نادرة في هذا المعمل الأدبي الحساس،كون المسرح هو فن تعليم الناس كيفية مجابهة الواقع وانحرافاته،و(صاح)له الكثير من المسرحيات(صائتة وصامتة)ودراسات عالجت مختلف الأجناس الأدبية من[شعر..قصة.. رواية..مسرح .تشكيل..]نكتشف من خلال قراءة(البناء الدرامي..)،رؤية نقدية صريحة،تنفرد بنغمة التفكيك الذهني أكثر مما تتعامل بالأساليب والطروحات النقدية المستوردة،وهذا الأسلوب غير مسبوق،نجم عن دراية بحياة(زنكنه)وتتبع سلحفاتي لكل نص كتبه،وظف في دراسته أسلوباً شيقاً ومختزلا،دون اللجوء إلى لف أو دوران،أو إجبار المتلقي،الاستعانة بذاكرته لتأويل الآراء،أو الاستعانة بمفردات قاموسية نقدية لا ترحم عقل القارئ،فالكتاب وقفة(شاهد أمين)و(مترصد حكيم)تابع دقائق الأمور،أولاً بأوّل،ووقف على باب أسرار الكتاب،وتمكن كشف الكثير من الألغاز والأحجية والتي أتخذها(زنكنه)..نقاط انطلاق أو حاضنة لتفجير الحقائق المطمورة،لقد كان(الأنباري)..الكاتب المؤهل لسبر أغوار مسرحيات(زنكنه)كونه يرتبط بوشائج حميمة تفوق من حيث المقارنة،علاقة الأخ بأخيه،وتلك هي أحدى العلامات المهمة في الدراسات النقدية،إذ ليس من الحكمة الكتابة عن المجهولين أو الأغراب،ما لم يكن هناك ارتباط جوهري بين الكاتبين،علاقة صداقة تمكن الآخر من احتواء التفاصيل الدقيقة والتي هي شرايين ضخ الإبداع في النصوص،ثمة نقاط ساعدت على مصداقية الكتاب وإقناعيته،كون مشاربهما الفكرية متقاربة،وتوجهاتهما التحديثية في مجال المسرح الهادف متحايثة،لقد خزن(الأنباري)..رصيداً ممتازاً من المعلومات،قبل أن يخوض في معمعان هذه السياحة(الترفيهنقدية)نقل لنا إرهاصات الكاتب ومنابع تكوينه الإبداعي،فـ(زنكنه)..كاتب مثابر،دؤوب لا يكاد يلتقط أنفاسه من هول ما يسكنه من عذابات الموهبة،مثل نهر يجري،لا يهمه أين مصبه،يواصل ضخ النصوص،دون أن ينحدر من خط سيره،وهو يدرك أن الزبد سيذهب جفاء،والأيام لا تتنازل عن المصابيح المتوهجة طالما هناك من تؤهله الأقدار لغربلة التراكمات والتركات الوجدانية للبشر،وقد يكون هذا المنتخب الموعود،مجايلاً أو سيأتي فيما بعد،المهم مهمته استخلاص الشوائب وإعادة القناديل إلى الواجهة الحياتية،لتثوير الإشكاليات الحاصلة لكل جيل ملتبس بالغبن والانسحاق،ومن خلال العرض التحليلي لـ(صباح)،أن الكاتب(محي الدين زنكته)ليس من الصنف الذي يحبذ الإشاعات الثقافية،أو من عشاق ترويج الإعلانات لنصوصه،كما يفعل الطارئين على الكتابة،فهو يدرك حدود عمله الأخلاقي ومتطلبات البيت المسرحي الأصيل،بيت لصناعة حياة مثالية تمنح الكائن البشري كل رغباته وأحلامه،بيت لاستشفاف الحلول لأسئلة الوجود المتواجدة في كل إنسان مهما كانت طبقته،يتسلل الباحث ليستشرف الينابيع الصافية للبدايات،كونها منبع الإحالات ومنبت البوادر والعلامات المؤدية إلى التفرد و(الشأنية)في قوادم السنين التي جاءت مثل البرق،وحققت الكثير مما حلم به(زنكنه)رغم وجود كوابح ما تزال تعمل على تفويت الفرص على الناس،ليس أولها خنق المسارح،وليس آخرها قتل الثقافة المسرحية وقذفها خارج الحياة،من الطفولة حيث نقطة الانطلاق ومخزن المرجعيات يبدأ الباحث،لأنه يريد الوصول إلى المكونات التي نحتت هذا الكائن المسكون بتحريك الأشياء الجامدة،من أي شيء قد ومن أي شيء تكون،هذه الفقرات عمل خلاّق للباحث،تسقط الضوء على ما يريد تدوينه،كونه يريد الكتابة عن تاريخ موهبة في زمن لا تصمد فيها المواهب أمام إغراءات الحكام،أو عسل السياسات المتعاقبة،فهو صمد وخرج من الطوفان العراقي الذي دام لقرون مليئة بالفجائع،موهبة كونت نفسها داخل بوتقة صغيرة محاصرة من لدن أباطرة الظلام،في ثنية من الأرض أو بالأحرى..(كاور باغي).. مكان بزوغ الكائن الحالم،والذي سينتظر أكثر من نصف قرن كي ينطلق قلم(صباح الأنباري )..ليضعه كاملاً مكملاً أمام الدارسين والباحثين عن أسرار الكبار في زمن تكاثر فيه الصغار،خشية مخالب السلطة،لقد ولد(زنكنه)في زمن عجيب،زمن ساد فيه الظلام،زمن الرق والعبودية،زمن راح يبتلع المسحوقين،كي يبقى المتعطشين للدماء،هكذا هي لعبة الحياة،في البلدان المقهورة،البلدان التي لا تعي معنى الإنسان،تجرده من كينونته الثقافية،كي يغدو مطية أو كبش فداء قرباناً للبقاء،وسط كل طوفان ثمة سفينة قادمة للنجاة،تلك هي فلسفة الحياة في ظل القمع والتهميش،ومثل كل الأطفال رسم(زنكنه)في أفق براءته باقة أحلام سعيدة،ليس هذا بكلام فائض أو خروج عن النص،لكل طفل عقل يكبر عمره،كل طفل لديه قبضة رؤى،يلقي مرساة عقله حيثما هناك نسمة سرور،أو رنّة غرور،من تلك القزحيات الطفولية ترتسم الشخصية المستقبلية للطفل ،لابد أن(زنكنه)كانت لديه مثل تلك الأحلام المؤجلة،أو الباعثة لإنتشاءات ذكورية،(كانت لديه)..طالما وصل إلى ما أراد،ولنا في أدبه المتشعب وسيلة أو وثيقة دامغة تؤكد بأنه كان منذ طفولته يمتلك شخصية طموحة،وإلقاء نظرة غير فاحصة على صوره الشخصية خلال مراحل نموه يتبين لنا تلك الآفاق العميقة المليئة بالأسئلة في أعماق عينيه،لابد وأن الأحلام راودته،مثل أحلام كل ذكر كحق مشروع وغير مشروط،أن الوجود لابد من تلاحم إنساني بين كائنين متنافرين في هذا الزمن بعدما كانا كائنين بهما تستمر سفينة العذابات والمسرات الإنسانية،رغبة تبدأ خجولة قبل أن تنضجها الظروف والتجربة،رغبة صغيرة لم تجتز حدود رغبة الأم قبل الأب،رغبة أي إنسان يولد في قرية،حيثما ترسل عينيك ليس غير أفق مغبر،وسماء تتكلم بالماء،ونباتات وحشية،وقيامة كائنات غليظة الأصوات،نباح وجؤار ونهيق وصياح ونقيق وفحيح وزقزقات وقأقئات ووووووو..وخاج تلك القرية،وفي فترة مظلمة جداً كانت تتقاتل وتتنافس الديناصورات البشرية حول سحق الحياة،من أجل أن يكونوا..وربما كانت الرغبة الأولى بيت من طين،وزوجة جميلة،ليجلس بين الرجال ويطرح كلامه ليستمتع حين يجدهم له(يصغون)..الآن يدرك(زنكنه) طبعا،بتلك المشاريد الذهنية والرغبات المتناثرة أنه كان يفتح النوافذ العالية في ذاكرته أمام عواصف الزمن ورعوده،كي تلتجئ الأشياء الهاربة من جحيم الواقع ومن منافي التاريخ المهمش أو الملعوب بأوراقه،لتختبئ وهي تعبر تلك النوافذ التي ذكرناها،لتقيم دولة الإبداع المؤجلة،في عقل يخالف العقول،وهو يستذكر الآن كم سهر وكيف جاوز وديان الذاكرة،قبل أن يجهر بثورته الكلماتية،ثورة فكر ناصع،سلاحه قلم،مداده دمع الإنسانية المعذبة،جيشه خطابات كاذبة لساسة ضحكوا على الناس كثيراً،قبل أن تبتلعهم مزابل التاريخ،يتوغل الباحث(صباح)إلى حيث الذاكرة،كونها المنهل الذي أتى بكل هذا السيل المتنامي من النصوص/قصص..روايات..مسرحيات../يلتقط(ثمان)مسرحيات بعد مسح شامل ورسم ملامح الخطوط البيانية لخط التطور لها،ولنا أن نوضح جانباً مهماً من الجوانب الحيوية ،فالكاتب المبدع يشبه إلى حد ما،قنديل متوهج طالما يتصف بمصداقية التعامل مع فنه،فحياته ليست عادية كما يرى البعض،بل حياة تنصهر وتنمو،لأنه حقيبة أجوبة لأسئلة الوجود الغامضة،والكتاب(البناء الدرامي)الذي أأمل ترجمته إلى اللغة الكوردية،ليتوقف طلاّب الثقافة المسرحية على منابع الإبداع كي يحذو حذوه من ينذر نفسه قرباناً لحمل مشعل الحرية لشعبه،فالكتاب كنت بصدد أن أقول استقبلته رفوف المكتبات(بالحضن)إن جاز التعبير،وأستبشر به النقّاد كونه(سابقة)كما صرحوا في هذا المضمار الحيوي،ولكي نعطي كل ذي حق حقه،لابد أن نشير إلى جهد الباحث،الذي زامل الكاتب كما لو أنه(كاميرا خفية)تقتفي الأثر..فهو يدرك جيدا أن التعامل مع المبدعين يقترح استنفار الذاكرة والقدرة على اختراق الممكنات والغوا مض،لأن الكاتب غالبا ما يتوارى وراء نصوصه،ودائماً يحمل شخصياته أفكاره،يتخذهم أقنعة لتمرير أو تحرير فلسفته في تفسير الظواهر المتعاقبة،ويعلم أيضاً أن مهمة الناقد لا تقل شأناً عن مهمة المبدع،فالأخير ينثر بوجه الزمن قناديله وعلى النقّاد أن يملئوها بالزيت كي تتوهج القناديل وتنير دروب الأجيال اللاحقة،(البناء الدرامي..)..رحلة بحث وتحليل،يستحضر الباحث تراكماته المعرفية،قاسياً أحياناً،هكذا هو النقد الصريح والصحيح غير المجامل،لأن التعامل مع الكبار كالتحقيق(بلا تشبيه )..مع أرباب السوابق،لعمري أن المهمة متوازنة،طالما الجهد المبذول،عملية فرزنة[ الألماس]..من..[النحاس]لقد أستوضح الكثير مما يحسب ليس لصالح السلطة المنقرضة بل لخانة الغضب والاحتجاج،رغم تواجده وسط حقول الألغام،وكما أجتاز(الأنباري)..(بصامتية)..مسرحياته حدود الإبداع،تمكن أن يقدّم وجبة بانورامية دسمة،فيها كل الجداول التي تروي عطشى الدراما،وتمكن أيضا من اجتياز الحدود الخطرة بأسلوبه الشيق فدفن الرصاصات الصائبة تحت غطاء الرومانسية،التي تخدر المتربصين وتبنجهم بالأوهام فتطير عليهم مهمتهم العقائدية،لذلك تعذر على(قاتلوا الكلمات)..الاهتداء إلى الغايات المدفونة من قبل الكاتب،التي أراد البوح بها جهاراً رغم أنف الجزارين،كان عليه أن يحرر الأسرار من مخابئها،فهو أمام مسؤولية كبيرة،مسؤولية الكتابة عن مبدع درامي في زمن استحال إلى فوضى،أن تضع مبدعاً في ميزان الحقيقة،يعني أنك تجابه أعاصير لا ترحم،فكيف إذا كان المبدع(كوردياً)من قوم قدوا من الصخور الوسيمة والتي لا تنحني ولا تنثلم ولكنها نافعة للبناء ورفع قيم الحضارة بصلابة وجمال،لقد كان(زنكنه )..مسرحياً خطراً،وكانت مسرحياته حمالة أوجه،فسرتها السلطة لصالحها وما درت أنها مسرحيات تفضح طالحها،فهو كشّاف ماهر وصانع تراجيديات معاصرة،وجد الحل الأنسب هو سربلة أفكاره بألغاز وأحجية طالما الزمن الآني أقصد زمن كتابة النصوص هو زمن المراوغات والدسائس وتغير الملامح،لابد من أسلحة موازنة كي يستسهل عملية الاختراق،ليس ذلك فحسب بل اللجوء إلى الأقنعة والتعكز على مثابات الماضي يزيد من صلابة النص وفاعليته،يشير الباحث إلى ذلك،[ (ألف ليلة وليلة )..(السؤال )../(الموروث الكوردي)..(كاوه دلدار)../(التاريخ القديم لمملكة (ميديا)..(رؤيا الملك)..]نلاحظ أن الكاتب يوجه عدساته صوب كل ينبوع مؤهل لخدمة فكرته،وهذا يدل على كاملية أوصافه ووعيه الحريص على تأهيل نفسه لمجابهة أقزام(صنمية)تلهث لدحر الإنسانية،ومن خلال القراءة لمسرحيات الكاتب،نصطدم بغرابة محيرة،إذ ليس هناك تعقيداً أو البحث عن وسائل تأويلية،لفهم الأمور،كل شيء يطرحه بوضوح ،الشخوص هم ثوريون أصحاب نظريات مجابهة،وصراعاتهم تعبر حدود فكرة المؤلف أو المخرج الذي يتعامل معها،أنهم لسان حال الإنسان الرافض والباحث عن الحرية،ليس طبعا حرية الذات،بل حرية المجتمع،أننا إزاء حالة تتطلب المدارسة،هي طريقة اختراق التابوهات واجتياز الحواجز الخانقة للأحلام والتطلعات باتجاه أفق أوسع،من قبل هذه الكوكبة الطليعية،والنخبة المتعالية في مدرسة الإبداع المسرحي العراقي،يبحر الباحث صوب الطفولة،إلى أرض البدايات والتمخضات الأولية لبراكين الإبداع،في زمن عصيب ولد،زمن يرزح تحت أعباء الرعوية وسلطوية الأب ناهيك عن الجهل المتفشي والجوع الذي يساوي الجراد في فتكه..يؤشر الباحث أهم الملامح في كيفية تمكن الكاتب من تجاوز الشرنقة البدائية وقفزاته العقلانية باتجاه المحيط دون أن يتعثر أو تأخذه نزوة حاكم جائر،يشير أيضاً إلى المعاني السامية في مجمل إبداعاته،ويفرزن الخصائص المشتركة في[قصصه..رواياته..مسرحياته..]،يضعنا أمام نقطة لافتة للنظر،فالكاتب مسهباً في حواراته،حتى ليخال أن مسرحياته تشبه إن جاز التعبير(مسرحيات قصصية)..وأن قصصه القصيرة(قصص مسرحية)..يعزو ذلك،إلى تركيز الكاتب على الدراما،مما يفسح للشخوص مجالا أوسع لحرية التعبير،فتحرروا من إستحضاراته التمهيدية ،ليكونوا لسان حال الجميع،رغم أنهم يدركون مسبقاً أن فرص الهزيمة قائمة،لكنهم يغامرون،هذه الإسهابات الحوارية تخلص منها(زنكنه)..خصوصا في مسرحيته(الخاتم)..والتي نشرتها(جريدة الزمان ).. متسلسلة،في صفحتها(الف ياء)،أوصلها الكاتب إلى مرحلة متقدمة بين النصوص المعاصرة بعد أن كنس(زمهرير الحرية)..(حجاجيج)..العصر الورقي،[حسن إدارة الحوارات..الاقتضاب..غائية الحدث ..الإيقاع المتنامي..عناصر المفاجأة..] اجتمعت المفاصل الحيوية لتكون تجريباً أخر باتجاه الإبداع المسرحي،يحلل الباحث مسرحية(الجراد)..ويشير إلى أنها كانت(قصة قصيرة)..قبل أن يخضعها(زنكنه) إلى نص مسرحي لافت للانتباه،وهي مسرحية مقصودة،أراد الكاتب أن يجعلها المقارن الواقعي لما يحصل على أرض الواقع،فغزو الجراد لقرية آمنة يعني الكثير في الخطاب المسرحي،في وقت يصعد فيها كيان سياسي دخيل جاء من الأبواب الخلفية للتاريخ،وراح يغزو العقل ويتلف المواريث الفطرية للناس،غزو الجراد غزو(.......)لجسد البلاد،ومثلما المبيدات تكنس الجراد،كنست الأوجاع المتراكمة(....)وألقته إلى الحفر المنسية للمزابل،العيون المتربصة والوشاة وأصحاب الأطماع الشخصية،إحالات لما يجري على أرض الواقع،لا يمكن لأرض أن تُستلب ما لم يكن هناك تمهيد ودسائس تنمو خلف الكواليس،لقد كانت مسرحية(الجراد)نبوءة..وحصل ما تنبأ به(زنكنه)،هذه المسرحية والتي ما تزال تشكل (حجر الأساس)لانطلاقة الكاتب ونالت ما نالت من شهادات وتقديرات ودراسات،تضعنا أمام مسؤولية العمل الأدبي،فالمبدع هو من يقرأ الحياة ويستخلص الجوانب المغموطة وأسرارها و إ يجاد الحلول والأجوبة للأسئلة الشائكة التي تحير الناس،والمبدع الحقيقي يستخدم(الحاسة السادسة)..حين تؤرقه حالة إنسانية معتبرة،كونه النول والرحى،ستتهافت أليه الجائعون إلى المآثر والعبر،(البناء الدرامي..)..كما -يشير الباحث – دعامة أولى،كونه(جزء من جزأين )..ارتأى عزلهما لضخامته،ومن جهة أخرى لم يحبذ الاصطدام بالجدران اللا..أبالية من رؤوس تعطي صكوك النشر حسب العلاقات والتوصيات المركزية،قسّم(الأنباري)كتابه(السهل والجبل)..إلى كتابين،وأتخذ المسرحيات رغم عروجه الإجباري صوب إبداعاته القصصية والروائية لوجود خصائص مشتركة كما أشرنا إليها،من لا يكتوي بنيران الحياة ولم يتجرع علقم المآسي لا يمكن أن يعد هكذا طبخات أدبية،مضافا أليهما ثقافة رصينة،زائدا موهبة وحرص ونكران الذات وأقصى حدود الجرأة،فمن لم يغامر ليس بوسعه الإتيان بشيء عجّاب،لقد أجتاز الكاتب(زنكنه)المزالق والمهاوي وحصد الجوائز وأثار العديد من الجدل والنقاشات ورفض الكثير من النقّاد من باب الالتزام الإنساني أن يخرج الجواهر الحساسة للمسرحيات خشية تنبيه السلطة لتلك الجوانب،وما كان تضمينًا لما يجري على أرض الواقع،وتمكن الكتّاب أن يفصحوا بكلمات ملغزة،قوة الخطاب وبلاغته،رغم أن جملة واحدة تكفي لإدانتهم وإرسالهم إلى غياهب السجون وأوتاد المشانق أو إجبارهم على الفرار إلى المنافي،ومن حسن أخلاق المبدع،عدم الجهر بما ينتج،كونه يتصف بصفة التواضع،فالباحث يصرح في المستهل،عدم لجوءه لمنهج واحد يقوّض من فرص حريته في التعبير بل سمح لسجيته ومجساته النقدية واستعان ببصيرته كي يبني عمارته،تداخلت عنده المناهج وإنثالت ذاكرته لتسيح في رحلة ممتعة ومتعبة رغم اليقظة والاحتراس كونه يكتب عن كاتب لم يساير أفكار(السلاطين)في سياساتهم الهمجية،وهناك وفرة من الحقائق لا يمكن إغفالها،فحملة الأفكار لهم شفراتهم السرية،يستوجب الإقتداء بـ( نوح) لصنع سفينة،ودفن ما هو نافع ومناسب وفعّال،تم تبويب الكتاب تبويباً سهل التناول،مما أصبح دليل اهتداء لمن يروم أن يتناول الكاتب(زنكنه)في رسائل جامعية../مسالك ممهدة..مرجعيات جاهزة..دقائق أمور شخصية../مع ملحق بانورامي جاء(ببلوغرافيا)..أحتوى على مجمل نتاجات الكاتب،من نصوص إبداعية(مسرحيات ..قصص..روايات..)والدراسات التي تناولتها،أماكن وتواريخ النشر،يعلن الباحث اعتذاره عن عدم أجادته اللغة الكوردية لملاحقة ما كتب عنه وما ترجم له،ومن الإشارات المهمة يؤشر الباحث سر إيداع(الحرية )..من قبل الكاتب عند شخوصه:يقول[ لقد حرم (زنكنه )..منذ طفولته من حرية التعبير عن ذاته بسبب ظروف ذاتية وموضوعية فمنح تلك الحرية لشخوص قصصه ورواياته ومسرحياته ..]حرية التعبير لدى الشخوص واردة في الأدب،كل كاتب ينتخب ما يوافق أفكاره من شخصية،يراها انعكاسا له،يتخذها(كبش)..فداء ويرسلها إلى معاركه الكلماتية،فـ(زنكنه)..يعي جيدا ما قاله(هـ .ر.ف.كيتنغ)../..أحذر من الاعتماد على شخصية بعيدة جدا عن شخصيتك../..(البناء الدرامي..)..كتاب جاء لتكملة شكل المكتبة المسرحية،وأنه بحث مفتتح لدراسات لاحقة،فهناك كتّاب أخلصوا للمهنة ونزفوا من أجل قضية الأدب المسرحي الجاد،استحالت نتاجاتهم إلى دعامات وركائز حافظت على براعة المسرح في(ماضيه)..المتألق و(حاضره )..الصامد و(مستقبله)..الذي سينهض من كبوته بشكل أروع..!!
***
**[البناء الدرامي في مسرح (محيي الدين زنكنه) ] دار الشؤون الثقافية العامة ـ صباح الأنباري ـ 2001 .
***
Tahseen.garmyani@hotmail.com