بشار عليوي
تجربة مُحيي الدين زنكنه...والمخيال الإبداعي
"في هذا الكِتاب أفردتُ لكل نص من نصوص زنكنه المسرحية والقصصيّة , مساحة مُستقلة حاولتُ فيها الاشتغال على موضوعة خاصة بها أو إبراز الجانب الإبداعي والتجريبي فيها". بهذهِ الكلمات، يفتتح الناقد والكاتب المسرحي"صباح الإنباري" كتابهُ الصادر حديثاً في السليمانية (1). حيثُ يُمكن وصف"الأنباري" وعبر نِتاجهِ النقدي المُلاحِق لمُنجز الروائي والكاتب المسرحي العراقي الكبير"مُحيي الدين زنكنه"، الناطق الحي باسم هذا المُنجز الثر وذلكَ لعدة أسباب من أهمها هو القُرب الجغرافي والروحي المُتماهي بين الأنباري وزنكنه، مع إطلاعٍ كامل على مُنجز(زنكنه) والكتابة عنهُ عبرَ التعريف والتبشير بهِ داخل الأوساط الثقافية. كما ساعد تَمكُنْ (الأنباري) الواضح من عُدتهِ الكِتابية، في حضور الرصانة داخل نتاجهِ النقدي. إشتمل هذا الكتاب على مُجمل القراءات النقدية (الأنبارية) في أدب (زنكنه) في القصة والرواية والنص المسرحي. كما ضَمَ الكِتاب فصلاً مُهماً بوبَ كببليوغرافيا شاملة لجميع الدراسات التي تناولت (زنكنه) وأدبه والمنشورة في الصحُفْ والمجلات العراقية والعربية كما ضمت تلك الببليوغرافيا أيضاً، تعريفاً بأدب محيي الدين زنكنه.
من مرجعيات المعرفة إلى مُهيمنات الكتابة (2)
لكل خطاب أدبي مرجعياته، ولكل كاتب جذور تمتد إلى ملكوت طفولتهِ حيثُ بذرة الوعي الأولى وجذور المعرفة وأساسيات ومُحفزات ومُستلزمات ثمرة الكتابة وذاكرة الكاتب خزين حياته بتجاربها ومعارفها وبأحداثها. عليهِ فأن الكاتب (الأنباري) قد أضاء جانباً مُهماً من تشكلات ذاكرة (مُحيي الدين زنكنه) عندما استكشف ماضيهِ وحياتهِ الأولى بخفاياها ومؤثراتها وموجهاتها ومُهيمناتها، حيثُ كان لإنحدار (زنكنه) من عائلة ذات جذر كُردي عريق، أثرهُ الكبير على طبع حياتهِ وتجربتهِ بطابع خاص أضفى نكهة مُميزة على كُل خطاباتهِ الأدبية.
مُهيمنات تقنية النص (2)
وهُنا ينتقي (الأنباري) من كتابهِ النقدي ( تجليات السرد وجمالياتهِ في قصص مُحيي الدين زنكنه)، متناً حافلاً بالعديد من الدراسات النقدية حول قصص (زنكنه). ففي قصة (السد يتحطم ثانيةً) بين الناقد، الكيفيات التي على وفقها اكتسبت قدرة التحول من جنسها كقصة قصيرة إلى جنس آخر هو الدراما. وفي قصة (طفولة مُلغاة) سلطَ الناقد الضوء على مسألة مُهمة هي مسألة الأدب التزاوجي وإلغاء المسافة بين أدب الصغار وأدب الكبار. وفي قصة (الضيوف) عمدَ الناقد إلى إبراز التناص الفني المقصود بين هذهِ القصة وقصة الكاتبة الإنكليزية كاترين مانسفيلد (مُنتهى السعادة). أما في قصة (الموت سُداسياً) أكدَّ الناقد فيها على تجربة (زنكنه) وقدرتهِ على صهر الواقع المُعاش بالفانتازيا. وفي قصة (القوقعة) التي كتبها (زنكنه) عام 1967 مُعمتداً على تقنيتهِ الخاصة في توصيف الأفعال والحالات جرياً على ما كانَ سائداً آنذاك محلياً وعالمياً يصف طريقة تدقيق شخصية من شخوصها كوصف تصويري يُعبر عن طبيعة الحوار الداخلي الذي يعتمل باطن الشخصية وعن تداخل هذا الحوار وتماهيهِ فيها. وعن قصة (الجراد) التي كتبها مُحيي الدين زنكنه عام 1968 يصفها (الأنباري) أنها وعلى الرُغم من قسوة عالمها ومرارته لم تستطع احتواء صور الموت التي تناسلت في ذهنهِ بلا توقف. وفي قصة (سببٌ للموت سببٌ للحياة) (4) يعنون الناقد مُقاربته بـ(بُنية التغير وحالة الضيق) حيثُ يؤشر إلى إن زنكنه في قصتهِ هذهِ كما في أغلب قصصهِ يبدأ بسرد حدثها من أقرب النقاط المُمكنة إلى مُنتصفها ليُحافظ على أهم خاصتي القصة القصيرة وهُما الاختزال والتركيز.
هيمنة الرواية (5)
يُعرجْ الناقد صباح الأنباري في مقاربتهِ النقدية (هيمنة الرواية) على اشتمال تجربة (زنكنه) لتطول الرواية، حيثُ يُعلن أن مُحيي الدين زنكنه يكتب القصة القصيرة والطويلة والمسرحية والمقالة النقدية والصحفية إلا أن مساحة تجربتهِ امتدت لتطول الرواية أيضاً فكتبَ ثلاثة روايات مُهمة استطاعت أن تُبسط هيمنتها على كُل أعمالهِ السردية السابقة وهي ( هُم / ئاسوس / بحثاً عن مدينة أُخرى ).
هارمونية التداخل بين الرمز والواقع (6)
كما يتآلف القرار والجواب في مقطوعة موسيقية تآلفاً هارمونياً دقيقاً ومؤثراً , فقد تآلف الرمز والواقع في قصة (الشمس ـ الشمس) لمحيي الدين زنكنه. حيثُ سعى جاهداً للحفاظ على هذا التآلف مع صعود القصة نحو نقطة تنويرها وعلى أن يكون بناؤها اللحني قائماً على مقامين يلازمانها بالرغم من تقهقر إحداهما واستمرار الآخر بنفس قوتهِ وهو يستأثر بالإيقاعات الضخمة والكبيرة. وإذا كان لا بُد من حُكمٍ على هذهِ القصة فالناقد صباح الأنباري يصف مقاربته لها بأنها عاجزة عن أن تكون بديلاً عن الاستمتاع باكتشاف عالمها الذي تداخلَ فيهِ الواقع والرمز كما يتداخل الجواب والقرار تداخلاً هارمونياً في أي مقطوعة موسيقية.
مُحيي الدين زنكنه قاص في المسرح ومسرحي في القصة (7)
يبني مُحيي الدين زنكنه مسرحهُ بشكل عام وهو مسرح أفكار، على بُنيتين أساسيتين حسب توصيف (الأنباري) لهُ، وهُما: بُنية الفهم السردي للحدث، وبُنية الفهم الحواري. يدمجهما أو يُزاوج بينهما ليخلق جنساً فنياً مقبولاً على صعيدي القراءة (كأدب مسرحي وفكري) والمُشاهدة (كنص درامي قابل للتمثيل) وهو كغيرهِ من المُبدعين، يوضح، من خلال خطابهِ المسرحي، الكيفية التي يتعامل بها مع عناصر الدراما. فهوَ ينظر إلى شخوصها على أنهم العُنصر الأكثر فاعلية وتأثيراً في مجرى الصراع فهم وأن كانوا مأخوذين، برتابتهم المعهودة من الواقع، إلا أنهم مُختلفون في نصهِ ومُغربون عن الواقع. إنهُ ينظر إليهم باعتبارهم كيانات مُستقلة، أي إنهُ يتركهم ليُحققوا ذواتهم المُنعزلة لا عن طريق الانصهار والاندماج في حركية العلاقات الإنسانية، إنهم مُنتقون من الواقع أو مأخوذون من التراث أو مُبتكرون من الذهن. وسواء أكانوا هذا أو ذاك فإنهُ يُخضعْهُم لامتحان عسير يؤهلهم لأخذ مواقعهم على رُقعة الصراع. أما الصراع عند (زنكنه)، فيجدهُ الناقد الأنباري، قد أخذَ وجوهاً مُختلفة. فقد يكون الصراع داخلياً مُتمثلاً في صراع الشخصيات مع نفسها، في مونولوجات طويلة أو قصيرة مُشبعة بأفعال حركية وأُخرى انفعالية أو تدميرية تكسب خطابهُ المسرحي صنعة درامية خالصة تُزيح من أمامها الصفات السردية ولكن دون أن تُلغيها لأنها تلتقي معها في بُنية واحدة هي بُنية الأفكار كما في نصوصهِ التأملية(لمن الزهور/العُلبة الحجرية/الأشواك) ونصوصهِ المونودرامية بشكل خاص(مساء السلامة أيها الزنوج البيض/تكلم يا حجر) في المسرح. أما في القصة فإنهُ يقوم بتغليب قواعدها وشروطها على قواعد الدراما وشروطها. بمعنى أنهُ يُطوع عناصر الدراما لبلورة خطابهِ القصصي. وبهذا تكون القصة عندهُ أكثر ميلاً إلى السردية منها إلى الدراما كما في قصة (الشمس ـ الشمس/اضطراب في ألوان النهار). كما إشتمل الكِتاب أيضاً على باقة أُخرى من الدراسات هي(من السرد إلى الفعل في قصة السد يتحطم ثانية)، الوهم وما بعده في (قصة تقليدية جداً)، مؤثرات العبث في قصة (الرجل الذي امتهن دراسة الكائنات البشرية)، الحرية والأرض في قصة(الموت سداسياً)، مُتغيرات مُعادلة الرؤيا في مسرحية (رؤيا الملك)، مسرحية الخاتم ولعبة المسرح داخل المسرح، (العُلبة الحجرية) بين النص والعرض، وراء الكواليس..مسرحية شعر بلون الفجر، اليمامة العراقية تُطلق هديلها في فضاء المسرح الأميركي، وغيرها). مما تقدم يُمكن القول أن أهمية هذا الكتاب تكمن في كونهُ يُسجل لكتابات مُهمة عن أدب (مُحيي الدين زنكنه) ومسرحهِ ويرصد مُنجز (زنكنه) ويضعها كببليوغرافيا تخدم الباحثين والدارسين مُستقبلاً، ومما يُعطي هذهِ الكتابات زخماً رصيناً أنها جاءت بقلم صباح الأنباري الكاتب والناقد الذي استحق عن جدارة لقب الناطق الحي باسم مُنجز (زنكنه) الإبداعي لما عُرفَ عن نتاجهُ النقدي الملازم لهذا المُنجز الثرّ. يُذكر أن الناقد والكاتب المسرحي صباح الأنباري من مواليد بعقوبة عام 1954 عام 1976 تخرج في كُلية الفنون الجميلة/قسم الفنون المسرحية، قد أخرجَ للمسرح عدداً من المسرحيات منها(مسرحية بهلوان آخر زمان) ، أصدر عام 2000كتابه الأول (طقوس صامتة) وتضمن الكتاب على ثلاث مسرحيات صائتة كانت إحدى تلك المسرحيات (زمرة الاقتحام) قد فازت بالترتيب الأول في المسابقة التي أقامتها (مجلة الأقلام) العراقية لكتاب المسرح عام 1993، وثلاث مسرحيات صامتة كن انطلاقته الأولى نحو الاهتمام بتجنيس المسرحية الصامتة تجنيسا أدبيا ووضع مقدمة تنظيرية عن هذا الجنس المحدث نشرتها له مجلة (الحياة المسرحية) السورية. صدرَ لهُ عام 2001 كتابهُ الثاني(ليلة انفلاق الزمن) وتضمن ثلاث مسرحيات. وفي عام 2002 صدرَ لهُ عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد كتابهُ الثالث(البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه) كما صدرت له عام 2004 مجموعة مسرحيات صوامت ضمها كتابه الموسوم (ارتحالات في ملكوت الصمت).
الإحالات //
1. المُخيلة الخلاقة في تجربة مُحيي الدين زنكنه , تأليف _ صباح الأنباري , من منشورات مجلة (بيفين) رقم 10، السليمانية، 2009. والكتاب يقع في 223 صفحة من القطع المتوسط.
2. المصدر السابق، ص 13 .
3. المصدر السابق، ص 19 .
4. المصدر السابق، ص 49 .
5. المصدر السابق، ص 27 .
6. المصدر السابق، ص 95 .
7. المصدر السابق، ص121 .