المونودراما التعاقبية المفهوم والتطبيق (1/2)

أحمد بلخيري

تحليل لمسرحية "أسئلة الجلاد والضحية" للعراقيّيْن.. صباح الأنباري مؤلفا وفاروق صبري مخرجا

في اللغة الفرنسية تتركب كلمة Monodrama من بادئة/سابقة (Préfixe) هي Mono ، وجذر الكلمة الذي هو Drama . هذه البادئة/السابقة Mono تعني الواحد. لذا، فإنها ليست بلا معنى، لأنها نقلت الجذر Drama  من معنى عام إلى معنى خاص. ذلك أن هناك أشكالا درامية عديدة، منها شكل درامي تُطلق عليه تحديدا الكلمة السابقة الذكر. هناك إذن تركيب لغوي بين دراما وما يفيد معنى واحد”. هذا “الواحد” هو الشخصية الدرامية/المسرحية الواحدة الفاعلة في النص الدرامي والعرض المسرحي المونودراميين.

إن كونها شخصية فاعلة لا يعني عدم وجود شخصيات درامية/مسرحية أخرى قد تستحضرها تلك الشخصية وتحاورها. لكن هذه الشخصيات يكون وجودها في النص والعرض المونودراميين عبر قناة واحدة هي قناة الشخصية الفاعلة. لذا، فإن الشخصيات الأخرى غير الفاعلة، ولكن لها أدوار في نمو الفعل الدرامي/المسرحي1، تُقدم انطلاقا من رؤية وصوت الشخصية الواحدة الفاعلة. تأسيسا على هذا، يمكن القول، مع استعارة مفهومي ميخائيل باختين الذي استعمله لوسم الرواية “البوليفونية” أي “متعددة الأصوات”، ونقيضها “الرواية المونولوجية”، يمكن القول إن المونودراما شكل درامي/مسرحي “مونولوجي”2 بمفهوم هذا الأخير، وليس بالمعنى الفني للمونولوج. وعليه، فهذا الشكل الدرامي/المسرحي يؤطر الأحداثَ المسرحيةَ فيه صوتُ الشخصية الفاعلة الوحيدة. إنها هي التي تقدم الأحداث المسرحية، وقد تستحضر شخصيات أخرى عبر الذاكرة على سبيل المثال، ولكن ذلك كله يكون من خلال وجهة نظرها فقط. ولهذا السبب، يمكن اعتبار المونودراما “مونولوجية” وفق المعنى المحدد لهذه الصفة الأخيرة من لدن ميخائيل باختين. هذا الشكل الدرامي/المسرحي ليس وليد اليوم، فهو موجود في المسرح الغربي قبل المسرح العربي.

في هذا السياق، يمكن تقديم النص الدرامي”مضار التبغ” لأنطون تشيخوف A. Chekhov (1860-1904)3 بوصفه مثالا على ذلك الشكل. هذا النص الدرامي/المسرحي أَطلق عليه هو “تسمية مونولوغ في فصل واحد”4. وفي ذاكرة المسرح العربي مسرحيات من هذا النوع. منها على سبيل المثال “مجنون المدينة” و”الحرباء” للمسرحي المغربي حوري حسين اللتين قدمهما على خشبة المسرح في المغرب في ثمانينيات القرن العشرين، وكذلك “ميكروكراسي”5 للحسن قناني. وبدون شك، توجد نصوص درامية عربية وعروض مسرحية عربية، يصعب حصرها، تنتمي إلى هذا الشكل المسرحي. ليس هذا فحسب، بل هناك مهرجانات مسرحية عربية خاصة به. لتجاوز هذه الرؤية ذات البعد الواحد، والرؤية الواحدة، للأحداث المسرحية ذاتها، اقترح المخرج المسرحي فاروق صبري مصطلح “المونودراما التعاقبية”. هذا المصطلح الأخير ينطبق على مسرحية “أسئلة الجلاد والضحية”.

وهي مسرحية من إخراج المخرج المسرحي العراقي فاروق صبري، أما تأليف النص الدرامي فهو من تأليف الكاتب المسرحي العراقي أيضا صباح الأنباري. هذه الصفة “التعاقبية” مشتقة من التعاقب. وهذا الأخير، في “لسان العرب”، هو “التداول”6. ذلك أنه يقال:”هما يتعاقبان ويَعْتقبان أي إذا جاء هذا، ذهب هذا”7. وهذا ينطبق تماما على المونودراما التعاقبية. ففي الخشبة المسرحية، حين تقديم هذا النوع من المسرح، لا تكون إلا شخصية واحدة يجسدها أويشخصها ممثل واحد. في هذه “المونودراما التعاقبية” يكون التناوب بين ممثلين على الخشبة، دون لقاء بينهما على الخشبة المسرحية، من أجل أداء دورين مسرحيين مختلفين في العرض المسرحي المونودرامي التعاقبي.

لكن توجد أحداث مسرحية مشتركة بين الشخصيتين المسرحيتين. يدل المصطلح من حيث تركيبه اللغوي على أن الموضوع لن يخرج عن نطاق المونودراما، لكن صفة التعاقبية الموجودة فيه أضفت عنصرا مائزا لهذه “المونودراما التعاقبية” عن نظيرتها “المونودراما”. ففيهما معا يكون تقديم الأحداث المسرحية عبر شخصية واحدة فاعلة. ولهذا فهما معا تشتركان في المصطلح الأم “المونودراما”. غير أن ما يميز هذه “المونودراما التعاقبية” هو ما سبقت الإشارة إليه على مستوى الشخصية الفاعلة. وعليه، فهناك شخصية مسرحية واحدة فاعلة، إذن يوجد ممثل واحد، في العرض المسرحي المونودرامي؛ مقابل وجود شخصيتين مسرحيتين فاعلتين، إذن يوجد ممثلان وليس ممثلا واحدا وفق ما تم بيانه بالنسبة للعرض المسرحي المونودرامي التعاقبي. كل شخصية مسرحية تقدم الأحداث المسرحية المشتركة حسب رؤيتها الفكرية أي وجهة نظرها. انطلاقا مما سبق بيانه، سيكون تحليل العرض المسرحي “سؤال الجلاد والضحية”. سيعتمد هذا التحليل على فيديو منشور في اليوتوب YouTube (لا يوجد، حسب علمي، تعريب لهذه الكلمة الدخيلة (من منظور لغوي صرف)) تم تصويره أثناء تقديمه في تورنتو بكندا . تبلغ المدة الزمنية لهذا العرض المسرحي تقريبا ثمانية وثلاثين دقيقة (38 دقيقة و45 ثانية). هذه المدة الزمنية مقسمة في العرض بالتساوي بين الشخصيتين المسرحيتين “الجلاد” و”الضحية”. هذا عن زمن العرض المحدود من حيث الزمن، أما زمن الأحداث المسرحية فليس الأمر كذلك كما سيتضح لاحقا. يتكون العنوان من ثلاث كلمات/مفاتيح تختزل العرض المسرحي كله. فهناك كلمة “أسئلة”، وكذلك “الجلاد” و”الضحية”.

لا يقدم العنوان، إذا تم عزل كلمة “أسئلة” عن البنية التركيبية اللغوية التي وردت فيها، معنى محددا لمضمون هذه الأسئلة. أما كلمتا “الجلاد” و”الضحية”، فتشيران معا إلى العنف وضحية هذا العنف بالتتابع. لكن المجال الذي كان فيه هذا العنف لا يشير إليه العنوان. وحتى إذا تم النظر إلى كلمة “أسئلة” انطلاقا من البنية التركيبية اللغوية التي وردت فيها، فإن مضمون هذه الأسئلة سيظل مبهما. هذا المعنى المبهم سيتضح بجلاء من خلال أسئلة كل من الجلاد والضحية، كل على حدة، في العرض المسرحي. أسئلة تختلف حسب المتلفظ، والمقصد. وفي المسرحية يوجد متلفظان اثنان، انسجاما مع المصطلح المقترح المذكور، هما الجلاد والضحية. وكما هو معروف، فإن جسد الممثل وسيلة فنية لتقديم عدد من العلامات المسرحية المختلفة من حيث طبيعتها. من هذه العلامات المسرحية الملابس. وفي العرض المسرحي المونودرامي التعاقبي “أسئلة الجلاد والضحية”، نلاحظ وجود نوعين مختلفين من الملابس، يحيل كل نوع منهما على تراتبية اجتماعية معينة. فقد كانت بداية العرض المسرحي بدخول ممثل لأداء دور شخصية مسرحية هي شخصية الجلاد. كانت ملابس هذه الشخصية المسرحية، وبالتالي ملابس الممثل، عبارة عن بذلة أنيقة متكاملة. أناقة البذلة، فضلا عن السيجار وهو من النوع الرفيع حسب شكله ولونه، يدلان معا على انتماء اجتماعي يتعلق بأعلى الهرم الاجتماعي.

تُعضد هذا الانتماء الاجتماعي لتلك الشخصية المسرحية ربطة العنق التي كانت على شكل فراشة. ربطة العنق هذه لا تستعملها كل الفئات الاجتماعية. هذا على مستوى اللباس بالنسبة لهذه الشخصية. أما الشخصية الثانية التي أعقب ظهورُها على الخشبة المسرحية الشخصيةَ المسرحية السابقة، فكانت ملابسها توحي بوضع اجتماعي مختلف تماما. ذلك أن ملابسها خفيفة، وممزقة، وعليها بقع حمراء في أماكن مختلفة من اللباس العلوي. البقع الحمراء علامة على الدم. وسيلة تبليغ رسالة الدم هنا هي اللون الأحمر بوصفه رمزا. وكانت الشخصية المسرحية الأولى قد أشارت إلى الدم على مستوى الملفوظ والتلفظ لا على مستوى اللون. الدم على ملابس الشخصية الثانية، أي في جسدها، والدم على مستوى الملفوظ والتلفظ بالنسبة للشخصية الأولى (الأولى والثانية حسب ظهورهما في العرض المسرحي).

وعلى مستوى اللون، فإن لون ملابس الشخصية الأولى هو الأسود. أما لون ملابس الشخصية الثانية فهو الأبيض. اختلاف اللونين قد يكون شفرة تنطوي على رسالة ما. هذا ما سيكشفه التحليل لاحقا. ومثلما اختلفت الملابس بالنسبة للشخصيتين المسرحيتين، اختلفت كذلك الحركات والنبرات الصوتية لكليهما في بداية الأحداث المسرحية في قسمي العرض المسرحي، أي في بداية كل قسم أو جزء من المسرحية. فبينما كانت ملامح الشخصية المسرحية الأولى توحي بالصرامة، والقسوة، والقوة، وهي تخاطب الدمية؛ كانت ملامح الشخصية المسرحية الثانية، ونبراتها الصوتية، وأنفاسها، وحركاتها في البداية توحي بالخوف والارتباك (البكاء). يوحي كل ذلك بالاختلاف الجذري بين الشخصيتين المسرحيتين.

إن المسرح، كما هو معروف، هو فن المفارقات والتناقضات والصراع. ومن خلال الملابس، وملامح الوجه، والنبرات الصوتية، بالنسبة لكل شخصية على حدة، يبدو التناقض والمفارقة جليين. وقد عمق الحوار المسرحي ذَيْنِكَ، وكشف عن طبيعة الصراع المسرحي. كانت بداية العرض المسرحي بظهور “الجلاد”، وفق ما تم بيانه سابقا، وهو يصوب نحو هدف ما. أعقب هذا الظهور مباشرة ظل “الجلاد” حيث تم استعمال تقنية خيال الظل. هناك إذن الجلاد وظله. لم يكن في الخشبة الجلاد فقط، ولكن كانت هناك أيضا دمية على شكل إنسان. دمية موضوعة على أرجوحة توجد في كل جانب من جانبيها سلسلة وهي مدلاة بواسطة حبلين. هذه الدمية/ الإنسان هي المخاطَب بالنسبة للمخاطِب وهو الجلاد.

طيلة هذا القسم من العرض المسرحي ظلت وضعية التخاطب على هذا النحو: الجلاد مخاطِب والدمية مخاطَبة. وبناء على هذه الوضعية اللغوية في هذا القسم الأول من العرض المسرحي، وقد أضيف إلى ضمير أنت ضمير “أنتم” وضمير “هم”، فإن الأحداث المسرحية ستُقدم انطلاقا من شخصية الجلاد ووجهة نظره. علاوة على هذا كانت مجموعة كبيرة من السلاسل والحبال مدلاة، واحد من هذه الحبال كان على شكل حبل المشنقة. هذه السلاسل والحبال هي لغة بصرية سينوغرافية تنسجم مع الأحداث المسرحية، ومع اسم الشخصية المسرحية: الجلاد. وقد كانت لها وظيفتان مزدوجتان حسب السياق. الوظيفة الأولى هي أنها وسائل للتعليق والتعذيب والقتل؛ والوظيفة الثانية تدل عليها حركة السبابة ومخاطبتها من لدن الجلاد باعتبار كل واحد منها من ضحاياه.

أول جملة لفظية نطقت بها شخصية الجلاد ذكرت فيها كلمتا الدم والعذاب. وضحيتهما معا هي الدمية/الإنسان. طرفا الصراع المسرحي إذن هما الجلاد من جهة، والدمية من جهة أخرى. وقد جعلت عبارة “آلاف السنين” هذا الصراع ليس وليد اليوم أو وليد عصر أو حقبة زمنية معينة. وعليه، فهو صراع ممتد في الزمن. هنا يختلف زمن العرض المسرحي المحدود عن زمن الأحداث المسرحية غير المحدود (آلاف السنين). علاوة على الدم والعذاب، فإن الجلاد وصف الدمية بالغرابة. وقبل الكشف عن هذه الغرابة، تجدر الإشارة إلى أن الحوار المسرحي، وقد كان من طرف واحد هو الجلاد، الذي يسأل ويجيب في الوقت ذاته، كان بين هذا الأخير، بوصفه متكلما، والدمية بوصفها مخاطَبة. الأسئلة والأجوبة كانت إذن بين واحد حاضر موجود على الخشبة، أما الثاني فعوضته الدمية التي لم تتكلم، ولكن الأجوبة قدمت أحيانا معلومات وأفكارا عنها، ونطقت ب”لسانها”. وبفضل وجود طرفين في الحوار المسرحي وليس طرفا واحدا،

وكذلك بفضل الأسئلة والأجوبة، فإن هذا القسم الأول من المسرحية لم يكن فيه المونولوج الذي يركز على الشخصية و”الأنا” وصراعها وتوترها الداخلي. لذا، فإن جوهر الصراع وجوهر الموضوع لا يتعلقان بصراع الذات مع نفسها، بل بصراع له موضوع يتعدى نطاق الذات الفردية الواحدة. إن الصراع المسرحي في هذه المسرحية صراع بين مستبد وضحية/ضحايا. موضوع الصراع المسرحي وُصف كذلك من قبل الجلاد بكونها غريبا. كشفت الأسئلة والأجوبة عن وجه الغرابة فيه. ذلك أنه من المفترض أن تكون الضحية تمقت الجلاد، لكن في هذا العرض المسرحي كان العكس تماما. ذلك أن الضحية أو بالأحرى الضحايا هم الذين “ساعدوا” الجلاد على قتلهم، حسب منظور هذا الأخير. ولم يكن هذا القتل حدثا عارضا ومعزولا وفرديا، إذ إن تكرار عبارة “واحد وراء الثاني” يفيد أن هذا القتل كان كثيرا، ولأنه كذلك فإنه كان مُمنهجا. لكن كيف كانت هذه المساعدة؟ يبدو من خلال سيرورة الأحداث المسرحية،

في هذا الجزء من العرض المسرحي، أن الجلاد يلقي اللوم ليس على نفسه بل على ضحاياه. وعليه، فإن علة وجود الاستبداد تكمن فيهم وليس فيه هو. ذلك أنهم، حسب ملفوظات عديدة تلفظ بها، كانوا يتلذذون بالتعذيب، ولم يكونوا يشبعون من الألم. زد على هذا كونهم يحبونه، ويهتفون باسمه طول العمر (بالروح بالدم نفديك). إن ضمير الكاف المتصل في فعل “نفيدك” يعود على الجلاد. وعليه، فإنه حينما كان يردد هذا الشعار على الخشبة فإنه كان يتقمص شخصيات الهتافين الذين يحبون جلادهم. وقد ردد الجلاد هذا الشعار الأخير بطريقة حركية وصوتية يبدو من خلالهما الحماس، أي حماس الضحايا، رغم التعذيب والألم والقتل، الذين كان السببَ فيهم هو بالذات. المفارقة هنا هي أن الضحية تحب جلادها حسب منظور الجلاد ورؤيته للأحداث وتفسيره. وهي مفارقة لأن هذا مناف للمألوف والمعتاد. وبسبب ذلك، وصفهم بكونهم “كائنات غريبة”. هناك إذن تلذذ بالتعذيب، وطلب المزيد من الألم، وتعلق بالجلاد/المستبد “حبا وطاعة وفداء”.

هنا تكمن الغرابة والمفارقة. ولتعميق هذه الرؤية الفكرية، أفصح الجلاد بكونه لم يطلب منهم ذلك، ولم ينجز لهم ولمصلحتهم شيئا يُذكر (اشنو سويت لهم؟). سؤال مباشر يحملهم من خلاله المسئولية. ومن أجل التركيز على هذا، أعقبت ترديد الشعار السالف الذكر ضحكة ساخرة من لدنه، وهي سخرية تصب في ما سبق ذكره، أي في تحميلهم مسئولية استبداده وقسوته ونتيجتهما. ولأن الأمر كذلك، فقد عبر لغة، وباندهاش، عن استغرابه. استغراب ينسجم مع رؤيته الفكرية، ويمكن تأويله بكونه تنصلا من سلوكه الدموي واستبداده تجاه الضحايا. هذا، والجدير بالإشارة هو أن ضمير الجماعة الموجود في “اشنو سويت لهم؟” (ماذا أنجزت لهم) يدل على أنه يذكر هذه الأحداث “الآن” بعد وقوعها في الماضى. وفي العرض المسرحي ملفوظات لغوية تتعلق بضحايا الداخل، وملفوظات أخرى تتعلق بضحايا الخارج، تم تقديمها من لدن الجلاد. هذه الملفوظات جعلت الطرفين، أي ضحايا الداخل وضحايا الخارج، سواسية في تلقي التعذيب. فمن الملفوظات المتعلقة بضحايا الداخل، في هذا السياق، قوله:”ليش مارحلتو معاهم؟” (لماذا لم ترحلوا معهم؟). سؤال ينطوي على لوم لأولئك. أما ضحايا الخارج، وهم قلة فلتت منه، كما قال، الذين يعيشون “في بلاد بعيدة” فإنهم رحلوا بـ”رضاه”. المرسِل في هذا الجزء من العرض المسرحي واحد: إنه الجلاد. والمرسَل إليه هو الدمية. في هذه الحالة كان استعمال ضمير المخاطَب المفرد. لكن هناك مرسَلا إليه آخر تم استعمال من أجله تارة ضمير “هم”، وهو يعود على الضحايا عموما، وتارة أخرى ضمير “أنتم”.

صاحب الملفوظات المتعلقة بهذا الضمير الأخير تصويب السبابة نحو الجمهور مباشرة. إن تصويب السبابة نحو الجمهور مباشرة مع التحرك من يسار الخشبة إلى يمينها، وفي مقدمتها، ليس بلا معنى. يمكن القول بإنها رسالة مسرحية موجهة للحاضر وليس للماضي. هذا الماضي الذي يشير إليه لغويا، ارتباطا بالسياق، الضميران السابقان “أنت” أي الدمية، و”هم” أي الضحايا ومنهم الدمية. انطلاقا من هذه المعطيات اللغوية والحركية/الجسدية، يجوز القول بأن الاستبداد مازال موجودا اليوم. وقد عبر المشهد الأخير في هذا الجزء من المسرحية، حيث كان خيال الظل، واللون الأحمر، بدلالته الرمزية فهو لون الدم، والسكين، والقاتل، والمقتول، والصراخ، والبكاء، على استمرارية الاستبداد والقمع والقتل والدم. لقد تم تقديم الأحداث المسرحية في هذا الجزء الأول من العرض المسرحي “أسئلة الجلاد والضحية” من وجهة نظر الجلاد. ولا شك أن اختيار هذا الاسم/الصفة لهذه الشخصية، وليس هو من اختار هذا الاسم له باعتباره شخصية مسرحية، له معنى. ذلك أنه في اختيار هذا الاسم تحميل له ولو جزء من المسئولية. لكن هذه الشخصية المسرحية، أي الجلاد، ترى العكس، أي أنه لامسئولية لها في كل ما حل بالضحايا من قتل وتعذيب ونفي خارج الوطن. فهو قدم نفسه بوصفه مطلوبا من لدنهم لا طالبا للسلطة. كانت نتيجة هذا، وجود “مقبرة وطنية مقدسة”. المقبرة، أي “تحت التراب”، تحيل على الموت، ليس الموت الطبيعي ولكن الموت بسبب القتل. وهي موصوفة بكونها “وطنية” أي لا وجود للاستثناء فيها، فالكل سواسية أمام جبروت الاستبداد. ثم هي “مقدسة” لأن الضحايا هم من اختاروه، وهم الذين استلذوا التعذيب حسب وجهة النظر هذه أي وجهة نظر الجلاد. وقد تخللت السخرية أحيانا هذه المسرحية، ووسيلتها هي الضحك، ومرة كانت الوسيلة حركة فمية أحدث صوتا (بعد نطق “فردوس الفقراء”). كان الجلاد أحيانا يضحك أحيانا، وفي ضحكه تعبير عن موقفه الفكري بعد ملفوظات معينة في بعض اللحظات من المسرحية يتعلق محتواها بالضحية/الضحايا. فقد ضحك بعد التلفظ ب “مبادئكم المقدسة”.

بناء على هذا الملفوظ الأخير، فإن ما يعتبر مقدسا عند الضحايا هو موضوع سخرية من لدن الجلاد. والأمر كذلك كان بعد ترديد شعار “بالروح بالدم نفديك”. فقد أعقب هذا الشعار، في المسرحية، ضحك الجلاد. وعليه، فإن هذا الأخير يسخر من ضحاياه رغم هتافاتهم المؤيدة له وشعارهم، وكذلك رغم طاعتهم له. سخريته، واستغرابه، ووصفه لهم ب”الكائنات الغريبة”، كل ذلك يدل على علاقة مختلة كرست الاستبداد بين الطرفين، بين فرد مستبد ومجموعة أشار إليها ضمير الجماعة في المسرحية ضحية هذا الاستبداد. من نتائج هذا الأخير القتل. في هذا السياق، تم استثمار حكاية قابيل وهابيل فيها بوصفها حكاية قتل. الجامع بين الاستبداد والحكاية هو القتل. إن الملفوظات اللغوية، والحركات الجسدية، ونبرات الصوت، التي اختلفت حسب السياقات.

في هذا الجزء من المسرحية، تدل كلها على أن الجلاد، الذي سخر من فلسفة الضحايا، لا يرى أنه هو سبب الاستبداد، وإنما الضحايا هم السبب فيه. وتبريره لرؤيته الفكرية هاته هو أنهم هم من صنعوا الجلاد. هذه هي وجهة نظر الجلاد الذي انتهى دوره في المسرحية بقوله، منتشيا وبسادية، إنه أحرق الروح. عبرت عن هذا الانتشاء وهذه السادية ملامح الفرح والاسترخاء. فما هي وجهة نظر الضحية؟

 المونودراما التعاقبية المفهوم والتطبيق 2/2

  عد خروج “الجلاد”، ظهرت على الخشبة المسرحية “الضحية” وفق ما تم بيانه سابقا من حيث الملابس. أول وسيلة فنية بصرية تدل على الربط بين قسمي المسرحية، هي بقاء السينوغرافيا كما كانت عليه في القسم الأول الخاص بشخصية “الجلاد”، فضلا عن الدمية. ومثل القسم الأول، فقد كانت البداية من عمق وسط الخشبة المسرحية، ولهذا دلالته مسرحيا، حيث ظهرت الدمية التي كانت خلفها “الضحية”/ الممثل وهي غير ظاهرة في البداية. إن تموضع الشخصيات وتقديم الأحداث المسرحية على الخشبة المسرحية، يكون خاضعا لتراتبية من حيث الأهم، فالمهم، فالأقل أهمية. ولا يعني هذا التراتبُ الاستغناءَ عن كل ما يشكل جزء في بنية العرض المسرحي مهما قل شأنه أو التقليل منه. ذلك أن تموضع الشخصيات، ومكان تقديم الأحداث المسرحية على الخشبة المسرحية، هما في حد ذاتهما لغة مسرحية. وانطلاقا من بداية القسم الثاني من المسرحية، يمكن تفسير اللغة البصرية الموجودة فيه، في ضوء السياق المسرحي، بأن ما كانت في القسم الأول دمية لا تتكلم، فإنها في هذا القسم الثاني ستتكلم، وقد تجسدت في جسد الممثل.

لم تبدأ الأحداث المسرحية هنا باللغة اللفظية، بل باللغة الجسدية التي تدل على الخوف والرغبة في النجاة. هذا الخوف وهذه الرغبة كانا بسبب صوت إطلاق الرصاص المتكرر.

أما أول جملة لفظية فهي: “طلع ما راح يرجع” (مات ولن يعود)، وهي جملة تدل على الموت. هكذا أدى ما هو بصري، وما هو سمعي (صوت إطلاق الرصاص)، وما هو لفظي إلى نتيجة واحدة: القتل والموت. لهذا ظهرت الدمية، باستعمال تقنية خيال الظل، وهي في حبل المشنقة. وما يدل على موتها هو طريقة ظهورها على ذلك الحبل. إبلاغ رسالة الموت كان بواسطة رسائل Messages متزامنة مختلفة. ومثل القسم الأول، فقد تم استعمال تقنية خيال الظل في القسم الثاني كذلك. لكن استعمالهما كان لأداء معنيين مختلفين. المعنى في القسم الأول، في بدايته، هو إظهار القوة؛ أما المعنى في القسم الثاني، في بدايته أيضا، فكان العكس تماما. هل للمقتول، بعد قتله، قوة؟ كلا. فنيا، استعمل الضحية السرد لسرد حكايته. وبسبب ذلك، يمكن التمييز بين “زمن السرد” وزمن الوقائع” مثلما هو مستعمل في السرديات. زمن السرد هو “الآن”، أما “زمن الوقائع” فكان في الماضي. لهذا كانت الأفعال، من منظور لغو (Les verbs)، في الزمن الماضي مثل “كافأوهم”. هؤلاء الذين يعود عليهم ضمير الجماعة في هذا الفعل الأخير، وهو الضحايا، ارتكبوا ذنبا وحيدا حسب منطوق الضحية. يتمثل هذا الذنب في اختيارهم الحياة الحرة. ومادامت الحياة الحرة هي فقط رغبة واختيار عند أولئك، فهذا يعني أنها غير موجودة في الواقع؛ في هذا الأخير يوجد نقيضها: انعدام الحرية. كانت المكافأة بالموت موتهم. ولتأكيد هذه المكافأة كان التكرار تكرار الفعل المشار إليه (كافأوهم). لكن المفارقة هي اقتران المكافأة بالموت.

ذلك أن المكافأة جزاء وليست عقابا. أما الموت فعقاب وليس مكافأة. لهذا كان التكرار لتثبيت وترسيخ هذا المعنى المُفارق. ليس هذا فحسب، ولكن لاستنكار هذه المكافأة أيضا. لا يدل على هذا الاستنكار التكرار فقط، ولكن أيضا الضحك الذي أعقب التلفظ في هذا السياق. بناء على هذا، فإن كلمة الذنب الموجودة في جملة “ذنبهم الوحيد…”، ليس المراد منها المعنى المعجمي. إن معناها، في المسرحية، يحدده السياق وليس المعجم. الفرق بين المعنى المعجمي والمعنى السياقي فرق في التصور الفكري للأحداث المسرحية. في المعنى المعجمي الضحايا مذنبون، أما في المعنى السياقي فهم ضحايا. وهذا المعنى الأخير هو المقصود في العرض المسرحي.

تلك هي وجهة نظر الضحية. وإذا كانت الضحية محبة للحياة، وقد تم الإفصاح عن ذلك في الزنزانة، فإن الموت لم يكن في مكان واحد، بل في عدة أمكنة تختلف وظائفها، ولكن جمَعها الموت في العرض المسرحي ووحدها. هذه الأمكنة التي كان فيها الموت هي الشوارع، والمستشفيات، وساحات المعارك، والتلفزيون. وإذا كان القتل في الأمكنة الثلاثة الأولى قتلا ماديا، بغض النظر عن اختلاف الدوافع والأهداف، فإن القتل في التلفزيون، بوصفه وسيطا إعلاميا، قد يحمل تفسيرين مختلفين. أولهما هو الأخبار المتعلقة بالموت فيه. الموت في هذا التفسير الأول هو صور القتل المادي المبثوث تلفزيونيا. أما التفسير الثاني الممكن، فهو قتل معنوي وليس ماديا. هذا القتل المعنوي يتعلق بالخط التحريري للتلفزيون الذي يؤدي إلى هذا النوع المعنوي من القتل. وهو قتل لا يتعلق بالأموات، مثل الأول، بل بالأحياء. إلا أن الموت لم يكن في تلك الأمكنة فقط، بل في “كل مكان”. الموت إذن موجود ومنتشر في كل الأمكنة. لهذا السبب كرهت الضحيةُ الموتَ. في العرض المسرحي “أسئلة الجلاد والضحية”، كان صوت إطلاق الرصاص الذي اخترق “أجسادنا”، كما جاء في العرض المسرحي، وصوت الانفجار. ضمير الجماعة الموجود في “أجسادنا” هم الضحايا، ومنهم الضحية، أي الشخصية الفاعلة مسرحيا. من ضحايا هذا الانفجار امرأة وجنينها. ضمير الجماعة نحن الموجود في “أجسادنا” يتضمن جسد المرأة وجنينها أيضا. هذه المرأة التي تم سماع صوتها وهي تخاطب ابنها/جنينها غناء، عمقت أغنيتها موضوع المسرحية.

الذي دل على موتهما ليس الأغنية بل الملفوظات المصاحبة للأغنية المتلفظ بها من لدن الضحية. وقد عبرت هذه الأخيرة، أي الضحية/الشخصية الفاعلة مسرحيا عن تعاطفها مع تلك المرأة المقتولة بسبب الانفجار. تجلى هذا التعاطف في سرد حكايتها، وفي النبرات الصوتية والحركات الجسدية- تعابير الوجه- المصاحبة لذلك السرد. من علامات هذا التعاطف أيضا حركتا اليدين اللتان دلتا على انتقال الجنين من الرحم إلى القبر. وقبل هاتين الحركتين، كانت حركة وضع اليدين على البطن قد تزامنت مع بداية حكاية المرأة الضحية. هذه الحركة الأخيرة لها معنى محدد في سياق العرض المسرحي، إنه رغبة المرأة، التي لم تتحقق بسبب القتل، في حماية جنينها. كما دلت على التعاطف تمني الضحية الموت على الأقل من أجل “مواساة” الضحايا، كما جاء في العرض المسرحي، الذين ماتوا بسبب إطلاق الرصاص والانفجار. ويبدو أن الهدف من سرد هذه الحكاية الأخيرة، هو المزيد من الكشف عن ضحايا الجلاد الذي لم تستثن قسوته حتى النساء والأجنة/الأطفال.

ولم تكن “المكافأة” بالموت فقط، ولكن أيضا بالتهجير خارج الوطن، وهذه هي الكلمة، أي التهجير، التي وردت في العرض المسرحي. إن وجودها على هذه الصيغة الصرفية فيه، المرادُ منه التمييز بين الهجرة والتهجير. الهجرة طوعية أما التهجير فقسري. ولأنه كذلك، فقد وردت في العرض المسرحي استعارتان تتعلقان بالمهجَّرين قسرا إلى “هناك” إي إلى “بلاد بعيدة”. هاتان الاستعارتان هما “جمر الرجوع” و”نار الحنين”. فكلمتا “الجمر” و”النار” لا تدلان كذلك على المعنيين المعجميين للكلمتين، لأن هذا “الجمر” وهذه “النار” يوجدان في نفوس المهجَّرين بسبب التعلق بالوطن. ويفيد الاسم/الظرف الدال على المكان البعيد “هناك”، أن الضحية حينما كانت تستعمل ضمير الجمع المخاطَب الدال على الجماعة ووجهها متجه نحو الجُمهور مباشرة، كانت تقصد الجُمهور الموجود “هنا” أي داخل الوطن، أي أن رسالتها المسرحية موجهة إلى الجمهور “هنا”. وقد تخلل مسرحية “أسئلة الجلاد والضحية” صوت إطلاق الرصاص والانفجارات، لا سيما في الجزء الثاني. في هذا الجزء أيضا تم ذكر “القاعدة”، و”داعش”، و”كواتم الصوت”، و”الميليشيات”. ومع ذكر كل واحدة من هذه الكلمات، كان للغة الجسد (غمزة العين، حركة السبابة والوسطى، الضحك) دور في إبلاغ المعنى. وقد أفصحت الضحية بان جميع من تم ذكرهم سابقا كانوا عاجزين، رغم استعمالهم أدوات القتل التي كانت سببا في إطلاق الرصاص والانفجارات، أمام الضحية حسب تعبير هذه الأخيرة نفسها على الركح، وهذا خلافا للجلاد. وقبل معرفة سبب ذلك، تجدر الإشارة إلى أن ما يجمع بين الجلاد من جهة، و”داعش” و”القاعدة” و”الميليشيات”، في العرض المسرحي، من جهة أخرى، ليس الفكر ولكن القتل. لكن لماذا نجح الجلاد فيما أخفق فيه الآخرون؟ الجواب هو الحب.

في الجزء الأول كانت كلمة الحب من ملفوظات الجلاد، فقد عبر عن حبه للضحية وتعذيبها في الوقت ذاته. وفي الجزء الثاني، وبعد سلسلة من الأحداث المسرحية، وفي نقطة مفصلية في العرض المسرحي، قالت الضحية إنها ستسمي الأسماء بمسمياتها. حينما أعلنت الضحية عن هذه الرغبة كانت على الأرجوحة وهي تستعمل سيجارة من النوع الذي استعمله الجلاد في الجزء الأول من هذه المونودراما التعاقبية “أسئلة الجلاد والضحية”. السيجارة في هذا السياق إحالة على شخصية الجلاد. صاحبت هذه الوضعية ملفوظات للضحية وهي تدافع عن الجلاد باستعمال ضمير الغائب المفرد المذكر. دفاع تم تأكيده بتكرار لا. فهو كما ذكرت الضحية ليس إرهابيا، وليس طائفيا، وليس مصاص دماء. ولكل وصف دلالته العميقة داخل العرض المسرحي، كما أن لكل وصف معنى يختلف عن الآخرين. تقديم هذه الصورة الوردية عن الجلاد من لدن الضحية تزامنت معه أصوات جماعية. يدل السياق على أن هذه الأصوات الجماعية ليست متفقة مع تلك الصورة. لهذا، كانت الضحية تخاطب هذه الأصوات حينما كانت تدافع عن نفسها بقولها إنها ليست مازوشية. لماذا إذن هذه الصورة الوردية للضحية عن الجلاد؟ الجواب يكمن في السلطة الأبوية. ذلك أن الجلاد هو الأب والضحايا هم الأبناء. وإذا كنت الضحية قد استنكرت اعتبار الجلاد الضحايا من ذريته في بداية الجزء الثاني من المسرحية، فإنها في نهاية المسرحية عبرت عن حبها له. وقد كان تبرير هذا في صيغة سؤال وهو: هل يوجد ابن يعتبر أباه عدوا لدودا؟. والجواب الذي يُفهم من السياق هو أنه غير موجود. هكذا تم نقل علاقة طبيعية بين ابن وأبيه من مجال أسَري إلى مجال سياسي.

لذا، تم إسقاط العلاقة بين ابن وأبيه، وهي أسرية واجتماعية، على العلاقة بين الجلاد والضحية، وهي سياسية، من لدن هذه الأخيرة. هذا هو السبب الذي جعلها تقول بأنها لا تستطيع منع الجلاد من تعذيبها. وهو ذات السبب الذي جعلها تُشَبه الجلاد بالأب من حيث الحنان. غير أن هذا الحب لم يقتصر على الضحية تجاه الجلاد. فبالرغم من استنكار الأصوات الجماعية لتلك الصورة الوردية، وبالرغم من استغرابها، حسب ملفوظ الضحية، فإن هذه الأخيرة، أي الضحية، رأت بأن تلك الأصوات، رغم كل ذلك، ستحب الجلاد وستهتف باسمه في المستقبل. وللتأكيد على هذا الحب، الذي سيكون، كان التأكيد، من خلال النبرة الصوتية، على كلمة “تحبوه” (تحبونه) التي كانت مسبوقة ب”راح”، وهي تعادل لغويا أداة التسويف التي تسبق الفعل المضارع في اللغة العربية. وإذن، هناك ثلاثة أزمنة في هذه المسرحية هي زمن السرد (الآن)، وزمن الوقائع (الماضي ومنه تاريخ من الدم حسب العرض المسرحي)، والزمن المستقبلي “راح تهتفون له وتحبونه” (ستحبونه وتهتفون له). هذا الحب سيكون طيلة العمر بعد عودة الجلاد. هذه النهاية تؤكد على استمرارية الاستبداد. وأخذا بعين الاعتبار مجموع العرض المسرحي، فإن الاستبداد هو من صنع الناس أنفسهم، لأنهم هم الذين صنعوا وسيصنعون الجلاد. بناء على هذا، يجوز القول بأن رسالة المسرحية الضمنية، تكمن في أن التحرر من الاستبداد لن يكون إلا بالكف عن صنعه. هذه الرسالة الضمنية هي التي تُفسر ما قد يبدو ظاهريا بين استنكار الضحية اعتبار الجلادَ الضحايا ذريته في بداية الجزء الثاني من المسرحية، واعتباره من لدن الضحية ذاتها أبا حنونا في نهايته. وبصفة عامة، يمكن القول بأنه هذه المونودراما التعاقبية “أسئلة الجلاد والضحية”، وهي من تأليف صباح الأنباري وإخراج فاروق صبري، قد تجاوزت “مونولوجية” المونودراما ب”حواريتها” حسب مفهومي ميخائيل باختين. تتجلى هذه “الحوارية”، وهي ليست الحوار، في دعوة الضحية إلى التشكيك، في بداية الجزء الثاني، في الصورة التي قدمها الجلاد عن الضحية في كونها تتلذذ بالتعذيب وتشتهيه. وكذلك في تأكيدها على مفهوم الشك في كل ما قاله، في هذا الصدد، الجلاد من أجل الوصول إلى اليقين (الشك الديكارتي).

وكذلك من أجل الوصول إلى الحقيقة: حقيقة الذات المتكلمة الفاعلة مسرحيا، وحقيقة المخاطَبين، وحقيقة الجلاد. وعليه، لا توجد في المونودراما التعاقبية رؤية فكرية وحيدة مؤطرة للأحداث المسرحية برمتها، كما هو الشأن بالنسبة للمونودراما، ولكن توجد رؤيتان فكريتان مختلفتان. وإذا تم اعتبار ملفوظ الشخصية من بين معايير تحديدها، ومادامت شخصية الضحية قد استعملت “مازوشيا”، و”الشك الذي يؤدي إلى اليقين” في ملفوظها، فإنه يمكن القول بأن الضحية في المسرحية شخصية مثقفة. والجدير بالإشارة هو أن اسم الشخصية هو في حد ذاته رسالة (Message). لذا فإن اختيار اسم “الجلاد” للشخصية المعنية، واسم الضحية للشخصية الأخرى في العنوان، هو في حد ذاته رسالة وموقف فكري. هذا، وقد كشف العرض المسرحي “أسئلة الجلاد والضحية” عن طريق التشخيص، ولغة الجسد، والسينوغرافيا، والسرد، والتذكر، والغناء، وخيال الظل، والحوار الافتراضي، واستعمال الدمية، احتضانا وضربا وتعذيبا، حسب السياق، عن نوعية الأسئلة الواردة في العنوان. أسئلة، سواء تلك التي تلفظ بها الجلاد أم تلك التي تلفظت بها الضحية، لا تخرج عن المجال السياسي، وبالتحديد عن نوعية العلاقة الرابطة بين الجلاد والضحايا. وهي علاقة استبداد حسب الأحداث المسرحية والأسئلة جزء منها. وإذن، فهي جزء من بنية العرض المسرحي ساهم في نمو تلك الأحداث. وفي إطار بنية الاستبداد12، يُفهم معنى”الانتظار”، وقد ذُكرت هذه الكلمة في المسرحية، وكذلك مفهوم “الخيانة”.

الهوامش:

1-شكل درامي حينما يتعلق الأمر بالنص الدرامي، وشكل مسرحي حينما يتعلق الأمر بالعرض المسرحي. 2-ينبعي التمييز بين المونولوج ومونولوجي. 3-توجد مؤلفات مختارة لأنطون تشيخوف في أربع مجلدات مترجمة إلى اللغة العربية تحت عنوان “أنطون تشيخوف”، موسكو، الاتحاد السوفييتي، دار التقدم، 1981، ودار رادوغا، 1987، ترجمة أبو بكر يوسف. لا توجد في هذه المجلدات “مضار التبغ”. 4-ماري إلياس وحنان قصاب حسن، المعجم المسرحي، بيروت، لبنان، مكتبة لبنان ناشرون، ط/1، 1997، ص/493. 5-لحسن قناني، ميكروكراسي… 6-7-ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، ج/1، ص/616. 8-للتوسع في مفهوم الاستبداد يمكن العودة إلى : ا-عزالدين العلام، الآداب السلطانية، عالم المعرفة، الكويت، عدد 324، فبراير 2006. ب-كما عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد قراءة في نظام الآداب السلطانية، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1999. ج-عبد الغفار مكاوي، جذور الاستبداد قراءة في أدب قديم، عالم المعرفة، الكويت، عدد 192، 199. في هذا الكتاب فصل عن قصيدة “المعذب والصديق”. “تعرف هذه القصيدة الحوارية بين معذب وصديقه الحكيم بأنها “التيوديسية” البابلية. والكلمة الأجنبية الأخيرة مكونة من كلمتين يونانيتين تدل أولاهما على الإله “ثيوس” وتعني الثانية “ديكية أو ديكايا” العدل أو العدالة، والمراد بها هو تبرير الشر والألم والظلم في هذا الوجود بالحكمة الخافية على عقول البشر، أو” بعلمهم الجاهل” - على حد تعبير الفيلسوف واللاهوتي الألماني نيقولا الكوزاني (1401-1464) - بالطبيعة الإلهية والتدبير الإلهي. والقصيدة في أصلها الأكدي وفي مخطوطاتها أو بالأحرى ألواحها العديدة-التي وجد أهمها وأكملها في مكتبات الملك الآشوري آشور-بانيبال تتألف من سبعة وعشرين مقطوعة، وكل واحدة منها من أحد عشر سطرا” ص/203.