الأنباري يُصدر (كتاب الصوامت)

منير العبيدي

     

   صدر لصباح الانباري عن دار التكوين "كتاب الصوامت"، كتابٌ يتضمن ست عشرةَ مسرحيةً صامتة سبقها تقديمٌ لعبد الفتاح رواس قلعه جي اختتمه بـ " يعتبر الانباري في ميزان الاصالة و الابداع و التجريب رائد ما اصطلح عليه باسم المسرح الصامت، و إن مشروعه هذا شديد الأهمية تنظيرا و تطبيقا، و ذلك بالخروج بالعرض الايمائي الذي كان يطغى عليه الفردية إلى الدراما الصامتة" (ص. 17). تلى ذلك تقديمٌ من المؤلف نفسه افتتحه بالعنوان: " المسرحيات الصوامت من الفعل الى التجنيس" أشار فيه الى أن التجنيس "هو عندنا تفعيلُ نوع جديد (المسرحيات الصوامت) يبنى على سابق له (البانتومايم) ويسعى الى مخالفته، و وضع اشتراطات و موجهات يتأسس عليها هيكل صرحه الجديد" ص. 21 ". بعدها قدم لنا الانباري نصوصَه الصامتة "الصوامت" و هي ستة عشر نصا معروضا للقراءة كنص ادبي أو كمشروع لعمل مسرحي صامت على خشبة المسرح. و في الفصل الثالث و الاخير المعنون "تجربة الصوامت في مرايا النقد المسرحي" يقدم لنا الانباري ستة عشر موضوعا لكتّابٍ آخرين تناولوا تجربته في "الصوامت" كان بعضها نقديا اتسم بالعمق والتمرس وعكس مجهودا بحثيا.

وبإشارته الى المخالفة و الاشتراطات و الموجهات الجديدة المضافة يكون الأنباري قد اشار ضمناً الى نشوء شيءٍ مختلف نوعيا. و لكنه فيما يلي من صفحات يشير صراحة الى ان ريادته تقوم على تجنيس الصوامت و جعلها قابلة للقراءة كجنس جديد من الابداع. يُعزي ذلك، كما يرى، الى أن لا احدَ قد تجرأ تجنيسَ المسرحيات الصامتة أدبياً والسبب: "لأن تجنيسها يتطلب جهدا، و دراية بحرفية المسرح، وأصول الإخراج، و قدرة ادبية و لغوية على توصيف الفعل الدرامي، واستثمار إمكانيات الفنون الاخرى كالموسيقى والباليه والرقص و الاكروباتيك" (ص. 26) . فصباح الانباري مخرج و كاتب و ممثل مسرحي وناقد، كما انه، كما معلوم لعارفيه، قد مارس رياضة الجمناستك و حافظ على لياقة بدنية دائما و هو امر بالغ الاهمية بالنسبة للعمل المسرحي الذي يتطلب مرونة لاداء ادوار تلعب فيها لغة الجسد دورا مهما. هذه المؤهلات مجتمعة مكنته من كتابة نص صامت و لكنه متعدد الابعاد. فهو صامت مقروء و صامت مرئي و قراءة النص تعتمد الصورة و تجر معها القارئ الى رسم صورة لما يقرأ راسما امامه شريطا صوريا متتابعا.

يورد الأنباري ما يلي: "لم يبرز في التاريخ الحديث أي كاتب للنص المسرحي الصامت بالمعنى الدقيق للكلمة باستثناء بكيت الذي خلف لنا صامتته اليتيمة المترجمة الى العربية (فصل بلا كلمات)" ثم يواصل " على الرغم من ريادتها و بنائها الفني، و الفكري الرصين ـ لم تكن الا لبنة اولى في اجتراح النص المسرحي الصامت القابل للعرض و القراءة في آن" ( ص 37). اذا ما تأملنا النص سنجد أنه عدا الاشارة الصريحة إلى التجنيس يكون الانباري قد اشار ضمنا، الى انه من الرياديين التأسيسيين للمسرح الصامت الذي هو مختلف نوعيا عن البانتومايم و مؤسس عليه وهذا يتوافق مع خاتمة مقدمة قلعه جي التي اوردناها في اعلاه و الذي اعتبر فيها الانباريَّ "رائدَ ما اصطلح عليه باسم المسرح الصامت"، والريادة تفيد التأسيس

وفي المناقشة حول مسرح صباح الانباري في صالون "نون" الفني في القاهرة تم تناول مسرحيتي الأنباري "عندما يرقص الاطفال" و " طقوس صامتة" تحت عنوان " استبداعات عربية جديدة  في فن المسرح" فاعتبر مجدي مجاهد الانباريَّ رائدَ هذا المسرح كما ورد في الصفحة 271 وهذا مختلف كليا عما اورده د. صالح الرزوق في ص 280 حين يورد أن الانباري في رسالة خاصة بتاريخ 29/7/2011 " لا يزعم أنه مؤسس لهذا الجنس الفني، و لكنه على الأقل عمل لتطوير ما وصل إليه من سبقه.. و لذلك قلّده النقادُ وسامَ الريادة".
أن موضوعة التأسيس و الريادة مطروحة للحسم من قبل النقاد المتخصصين و مؤرخي المسرح مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الكثير من المبدعين ينفون عن أنفسهم الريادة في بعض ما انجزوه تواضعا و تجنبا للاحراج أو لانهم غير قادرين على التحقق من ذلك فعلا، و التواضع الذي يُطرى كسلوك ليس له أن يكون معيارا.

النشوء
في الصفحة 39 يروي لنا الانباري نقطة الانطلاق في نشوء فكرة كتابة الصوامت فيقول " عام 1994 في ذروة الاهتمام المتزايد بالاعمال الابداعية الكبرى، و قراءة الكثير منها هيمن مخيالُها بطريقة خلاقة على شبكة الأحلام و الرؤى التي تزاحمت و تضاربت، و تقاطعت، و تنافرت و شج بعضها بعضه الآخر في جوانية العقل الباطن... حتى أن ليلة واحدة لم تمر دون مداهمة العشرات منها" هذا ما دفع الانباري، كما كتب، الى العمل على استيعابها و توظيفها بـ " نقل الصراع من فضائها الى فضاء الكتابة، و من فضاء الكتابة إلى فضاء الخشبة، و ربما الى فضاءات أخر"

 ولكن لماذا "الصوامت"؟ يجيب الانباري: "عندما تكون طقوسك خاصة تماما فليس من السهل أن تمارسها إلا بصمت تام. في الحلم تتحرر من مقيدات اليقظة، و رقابة العقل فتفعل ما تشاء لتحقيق هدف مقموع، او رغبة مكتومة، أو فكرة محظورة، أو فعل  محرم، أو قول ممنوع."

ولكن تأسيس مسرح صامت يستلزم تأسيس ادواته. فماذا فعل الانباري لانجاز المهمة؟ يقول: " ابتكرت لها لغة تميزت بتوصيف الأفعال، و استبعاد الأقوال، و الاستخدام الأمثل للتنقيط أو ما يسمى أحيانا الترقيم. لغة اشتغلت على الجملة الفعلية أساسا، و اشتراطا،  و ابتداء مستبعدة  إلى حد كبير الجمل الأسمية لأنها في أحسن أحوالها لا تقدم إلا سردا هادئا للحدث بينما تنقل الجملة الفعلية الحدث مباشرة عن طريق الفعل الذي هو في جوهره حركة تؤدي إلى هدف أو غاية من خلالهما يتوضح المعنى المطلوب إيصاله إلى المتلقي رائيا كان ام قارئا". الانباري الصوامت ص. 52

حصاد الصمت


يقول ماركيز عن طريقته في الكتابة " انا ابدأ دائما بصورة" و نصح بقراءة فرجينيا وولف حيث كتاباتها صورٌ متعاقبة (الأمواج مثلا)، و لكن الرواية التي يقدمها ماركيز لا تستغني عن السرد، فالصورة هي دعم للسرد. الرواية الحديثة لم تبتكر الصورة لكنها اعطت للصورة دورا اكبر.

وظّف الأنباري في "الصوامت" مجموعة كبيرة من الرموز البصرية (الملابس، اللونين الأسود و الابيض، رقعة الشطرنج، بقع الانارة الملونة، حركات الجسد، تعابير الوجه...الخ) و القليل من الرموز الصوتية(ضربة صنج، انفجار، صوت اطلاقات..الخ) للتعويض عن الحوار و ذلك بمخاطبة عين المشاهد فيما اذا كان العرض على خشبة المسرح. يكون المشاهد بذلك مساهما نشيطا في الحوار القائم بينه و بين الخشبة حيث تقدم له المسرحية مفاتيح التأويل.

أما للقارئ فإن الانباري يقدم له مجموعة صورية ديناميكية لدفعه الى رسم صورة.
وبذا فإن صوامت الانباري (و هو الذي اعتبر في يوم ما فلم (speed) مثالا للفلم الخالص)  تتجوهر في خلق خصائص ذات اتجاهين: جعل المشاهد/ القاري يؤسس نصاً من صورة أو صورةً من نص. 

لنصوغها هكذا:

انه يدفع المشاهد إلى تحويل الصور المتعاقبة الى سرد، بناء كلام مستنبط من الصمت بتأويل مجموعة الرموز و حركات الجسد سرديا.

وهو يدفع القارئ، وبإتجاه يتعاكس مع الاول، إلى الانطلاق من الكلمة المكتوبة لرسم صورة ثم صور متعاقبة عما يقرأ. فقارئ الصوامت يترتب عليه تكوين سلسلة من الصور ذات ارتباط سردي.

وفي الحالتين فإن انشغال القارئ/ المشاهد بإعادة الخلق تبلغ درجة عليا من التوتر و الانشداد حين يجد نفسه منشغلا بتأويل مجموعة من الرموز وحركات الجسد، عدا أن "الصوامت" تستفز القارئ/المشاهد لمساهمة انشط في الحوار مع النص/ المسرحية واعادة تشكيله.
الخشية من التبسيط والتقليدية في تصوير الصراع بين الخير و الشر ثم الافراط في التأجيج العاطفي (وهي امور تم تناولها مرارا و تسببت في الحاق الاذى بالعديد من النصوص المسرحية و ايقاعها في الرتابة و التقليدية) حاول الانباري تجنبها بأن عقّد تناول العلاقة التقليدية المستهلكة بين الخير و الشر بأن جعلهما وبطريقة مبتكرة يتبادلان المواقع كما في التناول الديناميكي للتداخل وتبادل المواقع بين القاتل والقتيل في "الالتحام في فضاءات الصمت" على سبيل المثال لا الحصر.

القرن الماضي، بعقوبة و الجو الثقافي

ثمة تناول مركب للاغتراب بمعناه العام تجسد بتمظهرات ملموسة توزعت الاعمالَ المسرحية و تجلت، بادئ ذي بدء، في استعادة أجواء الثمانينات القاتمة، المشبعة بالموت، الحاضنةِ الزمنية لنضوج مقدمات كتابة الصوامت، تلتها فترة التسعينات التي هُزم فيها النظام فارتخت قبضته الفولاذية فشهد العراق حريات نسبية و انطلاقة كبيرة للنشاط الثقافي و خصوصا في بعقوبة حيث عاش الانباري و كتب معظم اعماله كما وساهم في اخراج و تمثيل العديد من المسرحيات. كان الجو العام بمثابة ممارسة لحرية فرضها الواقع لكنها بقيت دائما تحت حد السيف، فلا احد يعلم متى يسقط النصل على الرقاب. لكن متى عاشت الثقافة العراقية جوا غير هذا؟

هيمنت اجواء الحرب و الحضور الطاغي لسلطة الدولة و اجهزتها  و ترقب عودة الازواج والاحبة والخوف من الاختطاف والقتل على اجواء الصوامت و تواجدت المرأة كحبيبة تترقب عودة من تحب من جبهات القتال أو امرأة شهية تُطارَد من قبل الجلادين فتُغتصَب أو تقتل.

في تلك الأجواء كانت دائرة الشؤون الثقافية ناشطة وكان ضمن ما اصدرت الكتاب المميز "سمها تجربة" لأرسكين كالدويل. بالرغم من أن الكتاب كان بمثابة سيرة ذاتية للكاتب، الا انها كانت سيرة من نوع خاص و مختلف حيث يتناول فيها كالدويل ظروف انتاجه العمل الإبداعي و التي  كانت شاقة و بطولية بمعنى الكلمة. جذبتني الموضوعة بقوة و رافقني السؤال: ما هي العلاقة بين الانتاج الابداعي و ظروف انتاجه؟ ما هي الظروف المثالية لانتاج العمل الإبداعي و هل حقا ان الالهام يحتاج جوا خاصا من الاسترخاء و الرفاهية أم العكس؟
 
في تلك الحقبة الزمنية وفي فترة عمله في استوديو الامل للتصوير في بعقوبة كان الانباري يقتطع الوقت اليسير المتوفر من ساعات العمل لكي يضيف الى مسودات مسرحياته سطرا او سطرين. وحين يعود إلى عائلته كان رغم التعب والإرهاق و ضيق الحال قادرا على زرع الابتسامة على وجوه اطفاله و ابتكار وسائل التسلية والضحك والمرح.

كتب صباح الأنباري في ظروف بطولية بمعنى الكلمة وكان في طليعة المثقفين المثابرين وفند بجهده وعزيمته التي لا تنضب ادعاءات الكثير من "المبدعين" المحبطين الذين تخلوا عن الكتابة والانجاز الابداعي بدعوى أن الظروف غير الملائمة وانهم "بانتظار الإلهام". كان هذا الموضوع، أي مثابرة الانباري و طاقته الابداعية المتجددة الموضوع الذي كنت انوي ان اكتب عنه حتى سبقني اليه سعد محمد رحيم فكتب بأسلوبه الشيق المنساب: " على الرغم من حمله لشهادة جامعية.. على الرغم من أنه مؤلف مسرحي و ناقد، له عدد من الكتب المطبوعة، ناهيك عن مئات النصوص و المقالات و الدراسات المنشورة في الصحف و المجلات.. و على الرغم من كونه مخرجا مسرحيا معروفا في الوسط الفني العراقي، إلاّ أنه بقي عاملا أجيرا في أستوديو للتصوير لمدة تزيد على الربع قرن، يتنقل من بيت مؤجر إلى آخر مع أسرته (زوجة و اربعة أولاد) يكدح من اجل إعالتهم و تعليمهم و تثقفيفهم، وهو مملوء بالتفاؤل، مترع بكبرياء حادة، مسكون بشغف فائر بالفن والحرية والحياة".
نشط في فترة التسعينات خصوصا العشرات من المثقفين والكتاب والفنانين في مدينة بعقوبة ومحيطها وساهم الجو الثقافي وعلاقة صباح الانباري الوثيقة به في التفاعل الثقافي أخذا وعطاءا، فقد انشغل في النتاج الابداعي في مجال الكتابة والمسرح والفن التشكيلي على سبيل المثال لا الحصر محي الدين زنكنه، عزيز الحسك، ابراهيم البهرزي، سعد محمد رحيم، أديب ابو نوار، صلاح زنكنه، مؤيد سامي، سليمان البكري، سالم الزيدي، منير العبيدي و آخرون.

اثناء ذلك حصل الانباري على المركز الاول في مسابقة الاقلام عن مسرحيته زمرة الاقتحام وذلك  في العام 1993 ونشرت المسرحية في العام اللاحق، ثم وفي العام نفسه حازت مسرحيته "الصرخة" على جائرة الدولة للابداع ولكن السلطات لم تجز النص للعرض.
مذ حاول الكتابة لأول مرة كان الانباري مولعا و مسكونا بالابتكار، لقد جرب دائما ان يقدم لنا ما لم يقدمه الآخرون. صوامت الانباري ذروة انتاج متجدد ترفد المسرح العراقي بنصوص مبتكرة.