صباح الانباري: الهجرة الى اقصى الجنوب
د. فاضل عبود التميمي
جامعة ديالى كلية التربية
صباح الانباري المولود في مدينة بعقوبة / العراق العام { 1954 } ، مثقف كاتب ، ومسرحي معروف، شهد له { قلمه } بالعمق ، والتمكن، والكتابة في موضوعات شتى … بدا حياته منحازا إلى عالم المسرح فقرر دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد { 1972 } وتخرج فيها { 1975 }. نشر لاول مرة في مجلة {الثقافة} البغدادية التي كان يصدرها في السبعينيات المرحوم الدكتور صلاح خالص بحثا عنوانه { أبعاد جديدة في شعر الستينيات } ، اخرج عددا كبيرا من المسرحيات في العاصمة بغداد، ومدينته بعقوبة ، كتب عنه النقاد والأدباء اكثر من اثنين وثلاثين بحثا ومقالة ، نشر في المجلات الأدبية والثقافية إحدى وعشرين مسرحية صامتة، وصائتة .. اصدر أربعة كتب عن دار الشؤون الثقافية ، واتحاد الكتاب العرب في سوريا عن المسرح ونقده ، وله اكثر من كتاب مخطوط في القصة، والمسرح، والشعر ، نشر عشرين مقالة ودراسة وبحث في المسرح ونقده ، كتب في النقد الأدبي منذ وقت مبكر من حياته الثقافية ، وله في نقد الشعر مقالات كثيرة ، أما في نقد القصة فقد نشر خمس عشرة مقالة وبحث... مقالاته في النقد التشكيلي ، والفوتوغرافي بلغت ست عشرة مقالة ، وله مقالات وتحقيقات صحفية في شخصيات ديالى الأدبية والفنية عددها اثنتا عشرة مقالة وتحقيق ، أجرت الصحافة الأدبية والفنية ثلاث عشرة مقابلة معه... ولعلني نسيت اشياء اخرى من سجله الثقافي لم اعد اتذكرها، فضلا عن انه مصور فوتوغرافي حاذق…
حصل على شهادات تقديرية من جامعات عراقية ، ومجلات ثقافية، وجمعيات مهنية ، ولجان احتفالات عددها أحدى عشر شهادة ، فضلا عن كونه عضوا في اتحادات أدبية ونقابات فنية ، وجمعيات مهنية على الراس منها اتحاد الادباء العراقيين … فاز الانباري بأكثر من جائزة أدبية ، وعنه كتب الشاعر إبراهيم الخياط قصيدة { تقاسيم على أوتار الصمت }، قلت عنه يوما وانا بصدد الحديث عن مسرحياته الصامتة: ترى باي فلسفة حاول الكاتب الانباري تخريب قناعتنا ليعـدل بها من الصخب الـى الصمت وليجعلنا نرنو الى الصمت بوصفه بديلاً جمالياً عـن الصوت ؟، وبأي بلاغة خاطب ذائقاتنا في سلسلة طويلة مـن الحركات القائمـة علـى التعبيـر الفنـي المقصود والتي حاولت أن ترتب حركاتنا وسكناتنا نحن المشدودين فـي لحظـة القراءة الى مخيلة التلقي، والسرد وهي تمارس فعلها العجيب في الاقناع، وتسفيه الحقائق بعدمـا ترفــع بلطف محبب ستائر مسرح الذات ..
هذه المقدمة المنحازة بالحق الى الاديب {الانباري} لم تشفع له بالبقاء في مدينته بعقوبة التي احبها كثيرا فارخ فنها المسرحي، والفوتغرافي، وبعضا من تراثها الثقافي، وله فيها ذكريات لا تمحا... نعم لم تشفع له بالبقاء في مدينة البرتقال، والذكريات الندية فقد هاجر عنها، ولا اقول هجرها، وقد التقيته للمرة الاخيرة فيها عند محترف القاص {حسين التميمي} بدا لي شيئا مختلفا في ذلك المساء الحزين فصرّح برغبته في ا لهجرة الى استراليا... تعجبت وقلت في نفسي: استراليا، استراليا دفعة واحدة الى اقصى الجنوب، ما عساه ان يفعل هناك في تلك البلاد العجيبة؟ ايربي بقرا شبيها بجاموس الجنوب؟، ام يطارد حيوانات من تلك التي لا اعرفها؟ ما الذي تفعله هناك يا ابا{إباء}؟ لا شيء، لا شيء... هبط المساء بكلكله على وجه المدينة ودعته بقلق مشوب بالحزن، لم اكن مصدقا ما تفوه به، ثم خرت دمعة الوداع.
رحل عنا صباح الانباري واخذ معه ولده الفوضوي النبيل إباء، كان كلما رايته في ممرات الحرم الجامعي يناديني{{عمي}} وكنت كلما اسمعها يزداد حبي له كان وجهه يعيدني الى القرية ، لكأنه جاء منها ذات يوم، هذا الصبي الذي اختار اللغة الانكليزية من بين اقسام الكلية للتعلم كاد ان ينهي سنواتها الاربع لولا رحيل العائلة، لقد كان هو الاخر شغوفا بالمسرح حتى انه شارك مجموعة من طلبة قسم اللغة الانكليزية تمثيل مسرحية لشكسبير بلغتها الام.
لم اكن من اصدقاء صباح القدامى، تعرفت عليه في العام 1991 بلا مقدمات في اتحاد ادباء ديالى ، حيث حل صديقا صدوقا على قلبي... فصار مفتاحنا الذي نلج فيه باحة نشاطاتنا الثقافية في الجامعة، اذكر انه كان لصيقنا ونحن في قسم اللغة العربية كلية التربية جامعة ديالى نخطط لعقد ندوة عن الكاتب المسرحي محيي الدين زنكنة، كان ذلك في العام 1999، ولما عقدت الندوة كان صباح الانباري احد المحاضرين، وكان قبل عام من ذلك النشاط شاركنا في التحضير لندوة الروائي عبد الخالق الركابي ثم اندمج في الوسط الاكاديمي، ولعله الاديب الوحيد الذي ارتضت الجامعة في العام 1999، ان يكون محاضرا في قسمنا في تاريخ المسرح ،وتحليل النص المسرحي، لقد شد انتباه طلبتنا الى شيء ما كانوا يعنون به فقد كان المسرح، وعوالمه السحرية بعيدة عن الدرس الجامعي التقليدي، لكن المحاضر الجديد فعل فعل السحر في طلبتنا حين برهن لهم بالدليل القاطع اهمية المسرح في حياة الشعوب، لقد اينعت بذرته التي غرسها في نفوس اولئك الطلبة اليوم، حيث احدى طالباتنا {خولة ابراهيم احمد} تعد الان رسالة ماجستير عن الصراع في مسرحيات محيي الدين زنكنة، لكم كنت اتنمنى ان يكون صباح الانباري مناقشا لها... لقد كان الانباري منفتحا على الجامعة، وكانت الجامعة قد انفتحت عليه لانها ادركت مقدار ثقافته، وتمكنه من اختصاصه الجميل.
كانت عناية الانباري بالمسرح الصامت كبيرة، وكانت تلك العناية احتجاجا سلوكيا على تفاهات كثيرة كان يمقتها، ويعمل على طردها من مشروعه الثقافي الكبير كنا نساله عن {الصمت}، وكان يجيب بما يمتلك من ثقافة، وحرفة مسرحية، ومن قراءتي لكتابه {ارتحالات في ملكوت الصمت} مسرحيات صامتة، والصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد العام 2004 ، ادركت ان الصمت ليس لغة مجاورة للغة التصويت، وانما هو جزء من اللغة نفسها، من خطابها القائم على ثنائية: الصوت: الصمت، بمعنى اخر ان اللغة، اي لغة هي حيز صوتي قائم على بنيتي: الظهور: الغياب، ظهور الصوت، ومن ثم غيابه...
و{البانتوميم} مسرح، او نص لا تغيب اللغة فيه، فهي مجموعة من{القراءات} المتلاحقة، والمفعمة بالدلالات القائمة على حركة اليدين مثلا ، التي ترشح فَهماً يحيل على معان معروفة، وكذلك حركة الارجل التي يمكن تحليل طبيعة تشكلها في النظر، اي بصريا... اما حركة الرأس فهي في كل لغة صامتة تقترن بالكلمتين الشهيرتين: نعم، اولا... فضلا عن ان تعبيرات الوجه: الحاجبين، والعينين، والانف، والفم تشكل مجتمعة، ومنفردة لغة يمكن فهمها، وتاويلها، والاتفاق على دلالاتها، ناهيك عن حركة الرقبة التي تطول، وتقصر و تدور، وتميل، وتنحني، وتستقيم تبعا لما تريد ان تقول معاني{الصمت}، اما قوام الانسان فهو مروض على دلالات معروفة.
رحل صباح الانباري الى عمّان ومنها سيطل على مدن لا احلم برؤيتها قط... ولا اعرف ما اشهرها، او اجملها... استراليا البعيدة في الخارطة لا احبها، كيف ستكون فيها يا اخي، وكيف سيتسنى لك استيعاب محبتها، ان كانت لها محبة؟ لا اريد ان اصدمك يا اخي، فقط اريد ان احبك مرة اخرى.