كلية اليرموك الجامعة
لعل الجاحظ (255هـ) في كتابه الكبير ( البيان و التبيين) كان من أوائل المنتبهين الى أهمية الصمت إزاء صخب اللغة،ولغو الناس،وفوضى التلفظ،وتجارة الكلمات … ولهذا عقد له بابا سماه (باب في الصمت) أورد فيه حكايات ممتعة منها: ان أعرابيا كان يجالس الشعبي فيطيل الصمت فسئل عن طول صمته فقال: (اسمع فأعلم،واسكت فاسلم) وأورد المقولة الشهيرة: (لو كان الكلام من فضة، لكان السكوت من ذهب).
أسوق هذه المقدمة لاحتفي بكتاب الصديق العزيز الكاتب المبدع صباح الانباري (طقوس صامتة) الذي شغلتني فيه مسرحياته: (طقوس صامتة) و (حدث منذ الأزل) و (متوالية الدم الصماء) اللواتي كتبهن على وفق رؤية طاردة لكل ما هو صائت وأنا اعرف بدءا ان الطقس جمعه طقوس،وهي الطريقة، أي النظم.
والطقوس دينية كانت أو دنيوية لا يمكن الا أن تكون صاخبة.. ومنها طقوس المسرح اي فضاءاته،وحركة شخوصه واناراته وما فيه من متع بهية،الا (طقوس) صباح الانباري في مسرحياته الثلاث التي ظلت وحدها (صامتة) فاستمدت (صخبها) من شعرية المسرح الصامت و ارتضت لنفسها مخاطبة الآخر بالحركة المعبرة،والإيماءة الذكية،ومحاورة الصمت بالصمت إلا في لحظات كان الصوت فيها ينبثق من ظل الصمت نفسه فهو قرينه الأبدي في صنع ثنائية المسرح: الصوت، والصمت،والحركة، والسكون.
ترى بأي فلسفة حاول الكاتب الانباري تخريب قناعتنا ليعدل بها من الصخب الى الصمت وليجعلنا نرنو الى الصمت بوصفه بديلا جماليا عن الصوت؟
وباية بلاغة خاطب ذائقاتنا في سلسلة طويلة من الحركات القائمة على التعبير الفني المقصود والتي حاولت ان ترتب حركاتنا و سكناتنا نحن المشدودين في لحظة القراءة الى مخيلة التلقي والسرد وهي تمارس فعلها العجيب في الإقناع وتسفيه الحقائق بعدما ترفع بلطف محبب ستائر مسرح الذات..
ترى ألم نمارس نحن هذه الطقوس في سرنا المعلن؟ ألم يكن الصمت يوما دليلنا الى الصوت؟ يخيل لي أن مسرح الصمت عودة موفقة الى بعث المسرح الأول. مسرح الحياة التي كانت الحركة فيه تعني أشياء كثيرة منها : أن طفولة الحياة هي الأصل، ففي البدء كان الصمت ثم كان الصوت و منهما انبجست تراجيديا الحياة وحروبها التي لا تنتهي.
……………………………………………………………….
نشرت في :
ـ صحيفة اشنونا ـ العدد 55 ـ التاريخ 19/2/2002