صباح الانباري واسطرة العصر الحديث

كولالة نوري

          ربما هو الواقع العراقي العصي على الاستيعاب من الآخر،غير العراقي،أو حتى من قبل العراقي الذي يمارس الإبداع حيث حاله كحال أي مبدع في كل زمان ومكان؛تتضخم في داخله جميع المشاعر الإنسانية سواء الجميلة منها كالحب والثبات على المبدأ ونكران الذات،أو السيئة كالحقد والخيانة والتخاذل والتذبذب،يلجأ الأديب العراقي كأسلافه البابليين والآشوريين (وليس تقليدا أبدا لأدب أمريكا اللاتينية وواقعيتهم السحرية ) إلى أسطرة كل المشاعر والطبائع الإنسانية والأحداث الجسام ولكن عن طريق بعض النماذج البشرية المتسلطة و العولمة والاستخدام غير الشريف للعلم كبديل لسطوة الآلهة القديمة التي كانت تنثر غضبها ولعنتها على كل من حاول كشف ماهيتها أو التجاوز على مهامها وتخومها .

هذا ما يمكن أن توحي إلينا مسرحيات الكاتب صباح الانباري خلال مجموعتيه الصادرتين بالتوالي( طقوس صامتة) عن دار الشؤون الثقافية في بغداد و(ليلة انفلاق الزمن ) عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق،وبالأخص المسرحيات المعنونة : عندما يرقص الأطفال،حدث منذ الأزل،متوالية الدم الصماء،زمرة الاقتحام،زهور وعقارب،ليلة انفلاق الزمن،طقوس صامتة .

فإضافة لاستخدام الكاتب للرموز  القديمة كالكهنة والإمبراطوريات المؤلهة..لجأ الانباري للخيال العلمي وهو برأيي محاكاة للأساطير القديمة تلك،ففي مسرحياته الصامتة تأتى ضربات الطبول مع هياج وقلق أو غضب وثورة،وصمت تلك الشخوص لا يأتي كصمت مطبق،انه حالة اكبر من الكلام واللغة .. حيث يدخل دور المشاهدة (الرؤية) لتقرر شيئا أو حركة بعد الترقب  .. أحيانا تكون الاستجابة ليست اكثر من مغلوبة على أمرها،و أحيانا آخر تكون ذات جدوى كبرى،ولا نستطيع أن نلغي تنويه الكاتب إلى هروب الإنسان من ذاته أيضا .. هروب من بعض ما يحمله من سوء وشر وليس فقط هروبا من الآخرين .

استطاع الكاتب أن ينقل إلينا التأثير السلبي لنظام العولمة على البشرية حيث الإنسان(كفرد) لا حول له ولا قوة أمام جبروت الالة.. والتكنولوجيا العملاقة حيث لا يملك امام الكائنات المستغلة لهذه التكنولوجيا سوى أضعف الأيمان وهو قلبه،ويشير أيضا بان أصحاب هذا المبدأ يقلون عن عدد أصابع اليد..وحتى هؤلاء أصبحت الثقة  بينهم مغلقة غير راسخة في كل الأحوال،لان طرق التأثير واغراءات التعبير متشعبة وغير واضحة تماما..فلم يعد هناك حل ثالث سوى أن تكون كلبا لتعيش،أو تكون إنسانا حقيقيا فتحارب كي لا تعيش..كما في المسرحيتين(متوالية الدم الثانية) و(ليلة انفلاق الزمن) حيث جعل الكاتب الانباري المسرحي والمبدع العراقي المعروف محيي الدين زنكنه إحدى الشخصيات في تلك المسرحيتين،والتي اختارت أن تحارب .

وفرصة انتصار محور الخير في مسرحيات الانباري فرصة خافتة .. تكاد تكون معدومة لولا بعض النهايات المفتوحة كما في مسرحية (الصرخة) والانتصار الوحيد للخير كان في مسرحية (عندما يرقص الأطفال)،وهذا أيضا لم يكن من دون خسارات أو شهداء ومضحين .

 

 

…………………………………………………

    نشرت في:

               - صحيفة العرب العالمية ـ العدد 6575 ـ التأريخ 16/1/2003 لندن