المونودراما التعاقبية

(Sequential Monodrama)

Broadway.Arts

الكاتب: (؟)

أولا: حول المونودراما التعاقبية:

هي مونودراما الحدث الواحد، المتباين فيما بين استعادته مرتين أو على جزئين، الجزء الأول من خلال أحد أطراف الصراع، والجزء الثاني يدّخر للطرف الثاني من الحدث، وهذا اللون من المونودراما يوازن بين عرضين لحدث درامي واحد من خلال طرفي الصراع؛ ليترك للمتلقي حق تقدير ما يعرض عليه، ومن ثمّ يضعه أمام الصورتين المعادتين من خلال رؤيتين متناقضتين؛ تزعم كل منها أنها تعرض حقيقة ما حدث. وبهذه التقنية في عرض الحدث يضع المؤلف جمهور المتلقين موضع الحكم، وهو ما يعني استدعاء المؤلف لوعي المتلقي؛ عزلا أو فصلا لمشاعره عن الميل أو التعاطف مع أحد الطرفين. وهنا يتماس هدف هذا اللون من الكتابة المونودرامية مع أسس نظرية التغريب الملحمي عند بريخت، التي تقدم الوعي بالحدث على الاندماج فيه؛ وهو ما يعني تهميش البعد الشعوري في بنيته الدرامية – تأليفا- وفي بنية - أدائه وعرضه مسرحيا -.

ثانيا: حول تقنيات التمثيل المونودرامي:

تختلف تقنيات التمثيل المونودرامي ما بين أداء المواقف الكوميدية والمواقف التراجيدية أو المواقف الاجتماعية بالطبع، كما تختلف ما بين التمثيل في المسرح الدرامي (الكوميدي والتراجيدي) عنها في التمثيل في مسرحية موسيقية أو عند التمثيل في مسرح الطفل سواء كان التمثيل للأطفال أو مع الأطفال. كذلك تختلف تقنيات التمثيل في مسرحية One man show عن كل التقنيات السابقة، حيث يقوم البناء الدرامي في المونودراما على عاتق شخصية واحدة، تحمل على عاتقها استرجاع عدد من المواقف السابقة بينها وآخرين، مما يلزم الممثل بتنويع تقنيات أدائه تبعا للأصوات وللمواقف التي يسترجعها عبر ذاكرته، وهي مواقف قصيرة بالطبع، وغالبا ما تكون مقاطع أو صور متشظية أو متناثرة تعود إليها الشخصية، تحناناً لموقف من الماضي أو لشخصية غائبة اشتبكت معه فيما مضي من الزمن، وعاوده الحنين إليها.

أولا: بناء الحدث وبناء الشخصية في المونودراما التعاقبية:

المونودراما حدث درامي غير متشعب في بنية خبرية تستعاد وقائعه وتفصيلاته وشخوصه من ماضي الشخصية المحورية. فهي حالة إخبارية في مجملها، أو حالة إعادة تصوير وقائع درامية لحدث ماض في حياة شخصية محورية، إخبار عما كان منها في مواجهة الآخر، باستعادة عبر الذاكرة الانفعالية إذا كانت وقائع قد حدثت حقيقة، أو عبر الذاكرة التخيلية إذا كانت وقائع ادعائية أو ايهامية، مع أن كلتا الحالتين محمولة على مبالغة العرض، سواء في تقنيات النص المونودرامي أو في تقنيات تمثيلها وعرضها المسرحي.

ثانيا: بنية اللغة في المونودراما التعاقبية بين الصوت والصمت:

للصمت إيقاع مواز لإيقاع الصوت في أداء الممثل؛ لتباين المعنى المختفي في الصوامت الدرامية عن المعنى الظاهر في صوتيات الحوار الدرامي، وتباين جماليات الأداء بين التعبير التمثيلي الصائت والتعبير التمثيلي الصامت؛ خاصة وأن زمن الصمت أقصر من زمن الحوار، وأبلغ منه، فالصمت بين الكلام مثل الكلام، كلاهما يدل على معنى، يقول الجاحظ "ومتى دل الشيء عن معنى فقد أخبر عنه وإن كان صامتا، وأشار إليه وإن كان ساكنا"

للصمت معان إذن ووظائف متعددة في فن الأداء التمثيلي، حددها د. أبو الحسن سلام وهو يعدد أنواع الصمت:

"صمت سماع وتعلم – صمت مناسبة للتمهيد للكلام – صمت تبين و تثبت – صمت تحرز عند المقدرة على تخير لفظ – صمت تحرز من زلل الرأي – صمت رأي دبري (تعليقا على رأي سابق) – صمت تحلّم (ترفقا بصاحب رأي معارض) – صمت لعدم حاجة. صمت مشاركة لتقدير المتكلم صمت عدم تقدير للمتكلم. – صمت استغناء"

ومن الطبيعي أن الممثل مطالب بالتعبير عن المعنى الدرامي الملائم لحالة الصمت في أثناء الحوار مع الآخرين في مشهد مسرحي.

ثالثا: بنية الأداء التمثيلي في المونودراما المتعاقبة:

يتباين الأداء التمثيلي بتباين مناهج التمثيل، فمنها ما يركز على تجسيد الصفات الداخلية الشعورية باعثا على تجسيد الصفات الخارجية للدور المسرحي (ستانسلافسكي)، ومنها ما يركز على الفعل _ الصفة الخارجية للحركة الآلية مولدا للشعور (مايرهولد)، ومنها ما يجنب المعايشة ويقصر الأداء على تصوير الصفة الاجتماعية الطبقية التي تنتمي إليها الشخصية (التغريب الملحمي البريختي (

ومعنى ذلك أن الأداء التمثيلي يتفرع في عدة فروع أحدهما يعايش الشخصية بمشاعرها حتى يصدق في تجسيد أفعالها، والثاني يفعل آلية الحركة لدي الشخصية وسيلة لإظهار الشعور. ومنهج ثالث يشخص الصفة الاجتماعية للشخصية بمعنى تصويرها عن بعد باعتبارها نائبة عن طبقة اجتماعية تنتمي إليها، لذا تكتفي بعرض الشخصية أو الموقف عن طريق الحكي التمثيلي أكثر من عرضها بطريق المحاكاة. يقول د. إبراهيم إمام: " إن زمن السرد لاحق للزمن المحكي عنه، فالحكاية وقعت ثم كان السرد ثانيا"

ويفرق د. أبو الحسن سلام بين مادة التشخيص ومادة التجسيد في فن التمثيل " نحن حين نتكلم عن التشخيص أو التجسيد في دور مسرحي فإننا نبدأ من حيث المادة التي سينبني عليها أي من الأداءين (التشخيصي، والتجسيدي) فالممثل يؤسس إبداعه على مادة أبدعها غيره من قبل (النص) وتوجيهات المخرج الذي يعد عمله أيضاً مؤسساً على مادة سابقة (إبداع المؤلف)، فهما متناغمان كتناغم التشكيلي الذي يبدأ عمله من حيث وجود مادة خام – مع الفارق طبعا - من هنا فإننا نؤكد أن الممثل لا يشخص إلا موقفاً أو شخصية بنيت لتؤدي بالتشخيص، وهو إذ يجسد شخصية أو موقفاً أو شعوراً – يعايش ذلك – تأسيساً على موقف أو على شخصية كتبت لتجسد لا لتشخص".

في المونودراما (One man show) تتداخل مواقف التجسيد مع مواقف التشخيص مع مواقف الحكي، وأداؤها المتباين المناهج محمول على صوت ممثل واحد، حامل لما يستعيد عبر الذاكرة من مقاطع أصوات من يستعيدهم بأصواتهم أو يستدعي صورا متشظية مما كان منهم في مواجهته من خلال عرضه لها.

وفي تمثيل (المونودراما التعاقبية بممثل واحد، خلال جزئي المونودراما) يتأسس البناء الأدائي، القطع والوصل بأداء كل منهما في أسلوب استعادته للحدث وعرضه من منظوره المغاير لأسلوب الطرف الثاني في الصراع.

ويتباين كلا الأداءين بتقنية القطع والوصل في تباين ثلاثة مستويات أدائية تبدأ بأداء الفعل الدرامي قبل القطع، تعبيراً عن لحظة صمت أو فترة صمت، ثم أداء فقرة الوصل، حيث يقطع الممثل أداءه لدوره الرئيس في الحدث بنقلة شعورية معنوية صامتة، ثم يوصلها بأداء تعبيري صوتي يشخص فقرة من موقف ماض، تمثل له في بنية تستند إلى نص (مونودراما تعاقبية) للكاتب والناقد المسرحي العراقي (صباح الأنباري) - وهو أحد أهم كتاب المونودراما في مسرحنا العربي

والنص يدور في جزءين حول مقتل طبيب تمكن من استدراج شابة جميلة يافعة مصممة ديكور فائقة الجمال إلى عيادته عبر مهاتفة تليفونية بحجة تصميم ديكورات لعيادته، فتفاجأ به يتحرش بها تلميحاً ثم تصريحاً فمحاولة لاغتصابها، وفي دفاعها المستميت عن نفسها تقتله بمثقاب في يدها كان من بين أدوات عملها.

يعرض الحدث مرتين، ففي الجزء الأول من المونودراما يعيد القتيل (الطبيب) عرض الحدث من الذاكرة – عرضا له ما له من صدق وعليه ما عليه من ادعاء – وفي الجزء الثاني تستعيد القاتلة الشابة الحدث - تصويراً له ما له من صدق وعليه ما عليه من ادعاء. وهنا يستدعي العرض في كلا الحالتين وعي المتلقي، الذي يتصوره المؤلف في حالة حياد موضوعي مدرك من خارج الحدث، في طريقتي عرضه، ليقرر في نهاية الموازنة بين خطاب كل من الطرفين، فهو مطالب باتخاذ موقف مما عرض عليه في النهاية. وكأني به متلق مثقف، ملتزم.

تحليل بنية الأداء التمثيلي في الجزء الأول:

يبدأ الجزء الأول في العيادة، والطبيب القتيل يقوم بعرض استعادي للحدث – من وجهة نظره – وهو يبدأ ممسكا بطرف خيط الحدث الدرامي:

" القتيل: آلو... أنا الطبيب رضا فتاح سرباد (ينظر إلى الكارت) شكرا لك سيدة إلهام عفوا أنا آسف جداً ولابد أن أكرر شكري الجزيل يا آنسة... أريد منك تصميم ديكور فخم لعيادتي... لا تهتمي أبدا بشأن التكلفة سنتفق عليها بالتأكيد... حسن هذا وقت يروق لي كثيراً... إلى اللقاء.

) يترك المكتب يخطو بضع خطوات وهو يفكر، ثم كمن تذكر شيئاً يعود إلى الموبايل يلتقطه من على منضدة المكتب. يضرب الأرقام مرة ثانية (

آلو... عفوا يا آنسة نسيت أن أضرب لك موعدا لمشاهدة المكان... حسنا أنا أفضل أن يكون بعد انصراف المرضى مباشرة لكي لا يقاطع أحد سلسلة تصورك عما يناسب مكتبي... نعم... بكل تأكيد... أتودين أن يكون الموعد غداً؟ طيب وماذا بشأن الجمعة؟ حسنا إنها يوم مبارك... ليكن... سأكون بانتظارك حتماً.

) يغلق خط الهاتف (

كان لابد لي أن أهاتف مكتبها فهي مصممة ديكور تتمتع بذوق رفيع جداً. يقولون إنها حققت نجاحات باهرة في عملها، وكسبت شهرة مبكرة؛ فضلا عن جمالها الذي يضاهي جمال ديكوراتها. ربما ذاعت شهرتها مما تتمتع به من جمال. على أية حال سأتحقق من كل هذا حين تأتي نهار الجمعة، ولكن ماذا لو بدت مثلما يقولون؟ أعتقد أنها ستكون مثيرة للاهتمام؛ فشابة طموحة مثلها تستطيع التأثير على زبائنها بطريقة سحرية.

) يتوجه نحو جمهور النظّارة (

جاءت في الموعد المحدد بالضبط، وكنت قد انتهيت من آخر مرضى عيادتي. دخلت عليّ وكأن ملاكاً من نور قدم من السماء ليبارك عيادتي الأرضية المظلمة. قلت ما شاء الله هذا جمال رباني يخطف الأبصار، ويأخذ القلوب، ويمتحن إيمانها.

تبسم ثغرها عن ابتسامة وقور. نهضت من على الكرسي وقدمت لها كرسيا لتجلس عليه. قالت بتهذيب رفيع وحياء بالغ:

شكرا لك سيدي الكريم. هل نبدأ العمل؟

قلت بالتأكيد سنبدأ، ولكن ليس قبل تكريمك لي بشرب فنجان من القهوة.

(يسمع طرقات على الباب. يتحرك صوبها ومن ورائها يحدّث المستخدم في عيادته)

اعمل للآنسة فنجان قهوة وغادر. انتهى عملك لهذا اليوم.

(يظل واقفا في محله وهو ينقل نظراته بين مكان جلوسها وبيت جمهور النظارة)

لم تكن خائفة من وجودها معي في خلوة وبعد عن أنظار الآخرين. كانت واثقة من نفسها تماما. وربما واثقة منى أيضا (بتباه) فلي مظهر يبعث على الارتياح والرضا (يجلس) جلست قبالتها وأنا أنظر إليها منبهراً مأخوذاً بجمالها الأخّاذ... وإذ أحست بالحرج خرجت عن صمتها.. قالت عفوا سيدي حبذا لو توضح لي فكرتك العامة عن الديكور الذي تريد كي أضع تصوري عنه. لم أنتبه لكلامها ولم أصغ إلاّ لصوت الجمال الذي لفني بدوامته القاتلة. ابتسمت ثانية وهي تقول سيدي الكريم هل سمعت كلامي؟

(بنهر بعض الشيء)

سيدي ...

عــ عــ عفوا آنستي لقد سرحت بأفكاري بعيدا عنك. صحوت مما أنا فيه وكأني خارج لتوى من غيبوبة طويلة. قالت هل تعاني من شيء يا سيدي؟ قلت نعم من كوني لا احتمل بعض الأمور غير المحتملة. قالت مثل ماذا؟ قلت لا عليك، لقد انتهت الحالة والحمد لله.

(ينهض من على الكرسي)

آنسة إلهام فكري بتغيير هذا المكتب أولا. أريده من طراز حديث بلا زخارف وبلا تزويق، وبحجم أكبر من هذا ليتسنى لي وضع المزيد من المستلزمات الطبية. على هذا الجدار أريد أن تضعي بعض المخططات الطبية التوضيحية الجديدة. أما السرير...

(يقترب منه ويربت عليه)

فحاولي أن تجدي ما هو أكثر قوة ومرونة فان لم تجد في الأسواق سريرا بهذه المواصفات فلا تترددي عن وضع تصميم له ليصنع في أي معمل للحدادة.

(يقترب من المجسمين يضع يديه على كتفيهما)

وليكن كافيا لاحتواء مريضين في آن واحد. سأخرج لأجلب قهوتك بنفسي. خذي المقاسات التي تحتاجينها على مهل.

(يسمع صوته خلف الكواليس)

ما الذي أبقاك حتى هذه اللحظة؟ ألم أقل لك أن عملك قد انتهى لهذا اليوم؟ هيا انصرف حالاً

(يدخل غرفة الفحص)

وما أن عدت حتى رأيتها منهمكة بأخذ بعض المقاسات. لم تشعر بوجودي خلفها فنظرت لمؤخرتها بشره عجيب كادت عيناي تخرجان من محجريهما وتلتصقان بها.

قلت منبهراً: ما شاء الله، فانتبهت للصوت واستقامت في وقفتها وقد أحسّت بمدى انبهاري وهيامي الذي لم أخفه عنها.. قالت:

آسفة سيدي لم أنتبه لخطواتك وأنت تدخل.

قلت دون أن أنتبه لنفسي:

حسنا فعلت إذ لم تنتبهي وإلا لما تسنّى لي أن أرى ما رأيت من الجمال الفتّان

(يلتفت لجمهور النظّارة)

بنية الأداء التمثيلي في الجزء الثاني:

وفي الحدث تبدأ باستعراض الوقائع في بنية محاكية/ حاكية مجتزئة، قليل قليلها مقاطع حوارية مستعادة على صوت القتيل، أو على صوتها في تباين مستويات التعبير عن الموقف، اندماجا أو تشخيصاً أو تعليقاً، حيث يتفرع الأداء التمثيلي المونودرامي في مستويات ثلاثة؛ تبعا لتباين مستويات بنية الحدث:

(البنية الحوارية للشخصية المحورية – البنية الحوارية المستعادة مع الشخصية المضادة – البنية السردية الوصفية لوقائع الحدث الدرامي – البنية السردية الموازية/ الإرشادات فيما بين الأقواس).

مستويات الأداء التمثيلي:

وهنا يضطلع أداء الممثل بعبء التعبير عن تلك التباينات على النحو الآتي:

مستوى الحكي التمثيلي:

ويتمثل في تمثيل المسرودات التي تصف الوقائع بالمسترد من تفصيلاتها، مع التركيز على مناطق القول فيها وما يتطلب أداؤها من تقنية المبالغة لكشف تأرجح وصف الشخصية بين مصداقية ما تحكيه أو ادعائها وتهويماتها بما يخالف حقيقة ما حدث منها وما حدث من غيرها.

مستوى التمثيل التشخيصي:

حيث يتباين أداء المقتبس من حوار الشخصية المحركة للصراع، محمولا على صوت الممثل الواحد نفسه وهو أداء مشوب بالمبالغة؛ لأنه يحمل وجهة نظر تلك الشخصية المحورية في الوقائع التي يعيد تصويرها. فالتشخيص – أداء عن بعد للصفات الخارجية للشخصية الدرامية – وهو ألزم لإعادة تصوير مستعاد عبر الذاكرة التخيلية للشخصية المحورية.

مستوى التمثيل التجسيدي:

وهو مستوى أداء الممثل لحالات الصدق في استعادة جوهر مشاعره حالة مواجهته لفعل الشخصية المضادة. في هذا المستوى يجتهد الممثل في الإمساك بالعاطفة الحاكمة للدور أولا، ثم إمساكه بمعاني اللحظات الشعورية – دوافع الفعل وردود الفعل-

المبحث التطبيقي

في هذا المبحث يتعرض البحث لنص مونودرامي للمؤلف والناقد المسرحي العراقي المعروف (صباح الأنباري) وهو أحد المبدعين المسرحيين في مجال تأليف المونودراما. حيث تتوفر الدراسة التطبيقية على التحليل الدرامي والفني لبنية النص، وعلى التحليل الأدائي عبر مستويات التمثيل المتباينة المناهج. بالتركيز على الجزء الثاني من مونودراما تعاقبية بعنوان: (القتيل والقاتلة)

يبدأ نص القاتلة - ج 2 - من المونودراما التعاقبية بوصف للمنظر وهو عيادة الطبيب القتيل،

الذي عرض وقائع كان من منظوره هو. وفي الجزء الثاني يمكن المؤلف الطرف الثاني من الحدث الدرامي المتعاقب.

" القاتلة: آلو... تفضل... أهلاً ومرحباً... بماذا أستطيع خدمتك سيدي... عفوا أنا آنسة لو سمحت... لا أبداً هذا لا يستحق الشكر... الديكورات الفخمة عادة تكلف كثيراً... حسناً... حسناً... إلى اللقاء. "

نلاحظ في بنية الحوار ضرورات الصمت الدرامي بين التحدث في الهاتف ولحظات الانصات للمتحدث على الطرف الآخر من خط الاتصال، فالزمن القصير المقتطع بين كلام الشخصية عبر الهاتف وانصاتها لمحدثها عن بعد يعوض بتعبير جسدي على ملامح الوجه أو خلال حركتها الجسدية سواء في وضعية حركة اليد أو وضعية الوقوف أو الجلوس وتباينها بالتوازي مع تعبيرها الصوتي أو في تعبيرها الصامت.

كذلك يتغير تعبير الممثلة بتغير قصدية الحوار، حالة تعقيب ممثلة شخصية دور القاتلة – هنا – على محدثها بعد انتهاء المكالمة بينهما:

" يبدو لي أن هذا الرجل مرتبك وسط فوضى مكتبه حتى أنه لم...

(يرن الموبايل فتنظر إلى شاشته)

هذه النقلة المعنوية المغايرة تبدي فيها الشخصية رأيا نقدياً لحال من حالات محدثها وتكشف عن أنها على معرفة به، وإلا كيف تصف مكتبه بالارتباك ما لم تكن قد زارت مقر عمله. ولولا وصفها لحال مكتبه لما قلنا إن بينهما تعارف أو مقابلة من قبل الممثلة، وتبعاً لذلك فإن الشعور بالألفة هو العاطفة الحاكمة لأداء ممثلة شخصية الدور المسرحي.

جمالية القطع والوصل

في أداء الشخصية المونودرامية:

ومع أن تقنية القطع في أداء الممثلة ووصلها الأدائي، مروراً بزمن تستغرقه فترة الصمت بين تقنيتي أداء ما قبل قطع الأداء قطعا فجائياً، عند سماعها لرنة الموبايل من جديد في أثناء تعليقها النقدي على ارتباك مكتب محدثها السابق؛ فالجمالية في قطع رنين الهاتف لاسترسالها في نقد محدثها؛ خاصة بعد اكتشافها أن محدثها المنتقد منها هو الذي يعاود الاتصال بها فرنين الهاتف الفجائي جاء تعويضاً عن صوت صاحبه، وكأن رنين الهاتف يرد غيبة صاحبه ويوقف منتقدته عن مواصلة اغتيابه. ذلك فضلاً على الدهشة التي تحدث لممثلة شخصية القاتلة عندما تطالع شاشة هاتفها في المرة الثانية لترى أن من يطلبها هو محدثها السابق نفسه.

وفي نقلة شعورية رابعة يتأسس تعبير ممثلة شخصية دور القاتلة على تشخيص حالة التوقع – توقع سبب مهاتفة محدثها مرة أخري فور إنهاء مكالمته الأولى معها:

(يرن الموبايل فتنظر إلى شاشته) إنه هو مرة ثانية. لابد أن يكون اتصاله الآن من أجل تثبيت موعد لمعاينة عيادته.. "آلو ..."

وما أن فتحت عليه خط الاتصال حتى يتغير نبر أدائها ويتلون بلون شعوري مختلف عن تعبيرها بعد فترة صمت قصيرة تعادل زمن انصاتها لما يقول عبر الهاتف:

" ... آلو... لا بأس في هذا أيضا... أنا أيضا أفضل أن يكون الموعد بعد انصراف آخر مرضاك... "

التعبير عن حالة الرضا وإبداء الموافقة على مطلبه – تحديد موعد لقائهما بعيادته في غير وجود مرضى. وتعبيرها هنا يؤكد توافق أفق توقعها مع مطلبه، فطلبه لم يباغتها فضلا على ذلك الكشف عن ارتياحها لإتمام اللقاء معه بعد انتهائه من عمله بالعيادة وهو ما يشف أو يلمح إلى البعد النفسي لكليهما – فصل الخاص عن العام في التعامل – غير أن التعبير عن حالة الرضا؛ سرعان ما تتغير إلى النقيض بعد لحظة صمت تعادل زمن سماعها للجملة التي جعلتها ترفض طلبا إضافيا منه:

" ... آسفة يا سيدي... لا أستطيع... غدا مشغولة جدا... نعم الجمعة تناسبني... شكرا لك

سيدي... إلى اللقاء "

فجملة " آسفة سيدي" تسبقها حالة صمت للإنصات، وهي لحظات صمت قصيرة متقطعة ما بين جملة وأخرى تليها ".... لا أستطيع " محمولة على تعبير عن حالة الرفض التي تفصلها عن تعبير الممثلة التالي عن مسببات الرفض جملة الاعتذار "... غدا مشغولة جدا " لتلحقها بتعبير عن حالة الموافقة والرضا في أدائها لجملة: "... نعم الجمعة تناسبني..." ويأتي تعبيرها الأخير في نهاية مكالمتهما ناقلاً لحالة الشكر " شكراً لك سيدي... إلى اللقاء"

إشكالية الزمن في البنية المونودرامية

بين مستويات المحاكاة ومستويات الحكي:

تختلف طبيعة الزمن في المنتج الأدبي والفني بعامة عن مفهومه في الطبيعة والحياة المعيشة؛ لأنه زمن خيالي افتراضي، فالزمن الذي يستغرق سنوات في الطبيعة قد يستغرق دقائق معدودة في الرواية أو القصة الأدبية أو في القصيدة أو في الفيلم أو في المسرحية.

ومع أن للزمن في البنية المونودرامية؛ الخاصية الافتراضية نفسها؛ إلا أن توظيف الزمن في دراما الممثل الواحد One man show مختلف في بنية الأداء التمثيلي عنها في بنية النص الدرامي، ففترات الصمت القصيرة المتكررة تدخل في الزمن الطبيعي بما يناظر زمن الانصات إلى المتحدث على الطرف الآخر من الاتصال؛ غير أن بإمكان الممثلة أن ترفعه إلى مستوى الزمن الافتراضي حالة ما يضاعف لحظات الصمت في أثناء وقفات إنصاتها لمحدثها.

ويختلف إيقاع الأداء بطبيعة الحال ما بين أزمنة التعبير التمثيلي بالحوار والتعبير التمثيلي بلغة الوصف أو الاسترجاع السردي؛ الذي هو ضرورة من ضرورات توظيف الدرامي للزمن الافتراضي؛ مثله مثل الزمن الافتراضي للمواقف المستعادة من الماضي عبر الذاكرة. وفي اختزال المؤلف (صباح الأنباري) لمشهد اللقاء المتفق عليه بين شخصية (القاتلة) وشخصية (الطبيب) يروغ المؤلف من الزمن الدرامي الميت – زمن لقائهما والتعويض الدرامي السردي المختزل؛ استخلاصا لنتيجة اللقاء؛ وتلك خاصية درامية أساسية في البناء المونودرامي:

 (تغلق الموبايل. تضعه في حقيبتها. تفتح الأضواء فنرى المنظر السابق نفسه) ولنلحظ الزمن الافتراضي في النص الموازي فيما بين الأقواس، وهو الزمن فيما بين إغلاق الموبايل ووضعه في الحقيبة، وفتح الأضواء على المنظر الذي ظهر في بداية المسرحية... وهو زمن افتراضي لأنه لم يستغرق سوى مسافة ما بين وضع الموبايل في حقيبتها وفتح الأضواء على المنظر السابق نفسه، وهو ما يعني أن ما بين إغلاق الموبايل وحفظه وفتح الأضواء قد مر يوم الخميس بكامله نهاره وليله؛ باعتبار زمن مكالمتيهما الأولى والثانية وقعت يوم الأربعاء؛ فالزمن الافتراضي استغرق أربعاً وعشرين ساعة؛ مع أن الزمن الطبيعي المستهلك ما بين فعل إخفاء الموبايل وفعل إنارة المكان السابق نفسه استغرق بضع ثوان؛ اختزالا دراميا يتجنب الزمن الدرامي الميت ( مشهد لقائهما):

"دخلت عيادته في الموعد المحدد بالضبط فوقف منبهراً؛ ربما غير مصدق أن المرأة يمكن أن تكون دقيقة في موعدها إلى هذه الدرجة. أو ربما لسبب آخر أجهله.

قلت له أنا إلهام مهندسة الديكور؛ فنظر إليّ نظرة فاحصة من قمة رأسي إلى أسفل قدمي وقال:

ما شاء الله هذا جمال رباني باهر يخطف الأبصار، ويأخذ القلوب، ويمتحن إيمانها.

لم أشعر بالقلق أو الخوف أو الارتباك؛ فأنا واثقة من نفسي ولي اعتداد كبير بشخصيتي، ولم يسبق أن مسّني أحد بسوء. أعرف أن الجمال فتنة للناظرين. ولكن هل على المرأة أن تقبع خلف الجدران لمجرد أنها على قدر من الجمال؟ ولماذا لا يكف الرجال عن ظنهم أنهم يعيشون في غابة يحق لهم فيها افتراس ما شاء لهم الافتراس من الطرائد؟ لقد دخلنا مرحلة جديدة من الحضارة التي دجّنت الرجل وجعلته يفكر بطريقة متحضرة. أنا الآن مع طبيب والطبيب رمز إنساني كبير ولهذا لم اتردد في المجيء إلى عيادته بمفردي. أردت المباشرة فورا، ولكنه طلب مني بتهذيب رفيع أن أحتسي فنجان قهوة قبل الشروع بالعمل. استجبت لطلبه فأحضر القهوة بنفسه. كان يطيل النظر في عيني ربما بحثاً عن شيء مفقود أو ربما عن امرأة فقدها في الماضي وراح يسترجع صورتها من خلال عيني. قال:

هل تعرفين يا آنستي أن لون عينيك كلون قهوتي؟! ألا يعني هذا أن ثمة بيننا شيء مشترك؟ ... شيء يدعو إلى التفاؤل أو التقارب أو أو ربما اجتماعنا عل عل على الخير على الخير طبعا.

كلماته جعلتني أرتاب بعض الشيء فارتبكت ولم أعرف كيف أرد عليه آ... تذكرت عندما عاد بالقهوة... لم أسمع وقع أقدامه ووقف عند الباب وهو يسترق النظر الي. استقمت بوقفتي فأسمعني كلمات تدل على هيامه بمفاتن جسدي مما جعل الريبة تدخلني من أوسع شرورها. بدأت العمل بحذر شديد. رسمت مخططاً أولياً للديكور، وحملت وصفه لسرير فحص المرضى على محمل الشك. ترى لماذا يريده لشخصين معا خلافاً للمعمول به في كل العيادات الطبية! سألته عن ذلك فأجاب:

كي يأخذ المريض راحته بالحركة وكي ينام بالوضع الذي يشتهي.

لقد ضاعف تلميحه ارتيابي. لم أشعر بخطر الوحدة معه مثلما بدأت أشعر به الآن إنه يحتاج لرد عنيف يوقف سلسلة أفكاره الخبيثة، ولكن ماذا لو كنت مخطئة جرّاء ظنوني وقلقي الذي استفحل الآن دفعة واحدة؟ كان علىّ اكتشاف ما يريده فعلا فرحت أبذل جهداً مضاعفاً في تثبيت المقاسات والتركيز على كلماته، وبالكيفية التي يقولها فلا يصح وضع الثقة في غير محلها لمجرد أنك تقف أمام طبيب. يقولون ما أختلى رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما وأنا لا أومن بوجود الشيطان إلا داخل النفوس الضعيفة المستسلمة للشهوات والنزوات العابرة. كلماته وتلميحاته تدلّ بما لا يقبل الشك إنه عازم على أمر ما، لم استشعر خطره إلا بعد أن وقف ورائي مباشرة وراح يقترب مني حتى كاد جسده يمس جسدي بلا حياء. ارتجفت خوفاً أول الأمر ثم ثارت ثائرتي وقررت إخافته ليكف عن مضايقتي.

ابتعدت عنه بغضب شديد. أخرجت المثقب من حقيبتي اليدوية ورحت أطعن به الجدار. قال ماذا تفعلين يا آنسة إنك تشوهين الجدار. قلت له بتلميح مقصود هذا الجدار قديم كرجل مسن علىّ اختبار تحمّله قطع الديكور التي سأضعها على منتصفه. طعنت الجدار طعنة قوية أخافته كثيراً اغتنمت لحظة خوفه فتحركت نحو الباب. اللعنة. (تحاول فتح الباب) إنه مقفل ولا سبيل إلى فتحه إلا بإخافته، أكثر فأكثر تقدمت نحوه (وهميا) ببطء وتحفز للانقضاض عليه وهو يقف أمام مكتبه. وبدلا من استمرار التقدم نحوه توجهت نحو الجدار ثانية. طعنته عدة طعنات وهو ينظر إلى بحذر شديد. تراجعت عن الجدار حتى التصق جسدي بمجسم الرجل والمثقب لا يزال بيدي. استغل وقوفي خلف مجسم الرجل. تحرك بخطوات مضطربة لم أنتبه لها. انقض عليّ مثل وحش مغتلم وأحاطت ذراعاه يديّ حتى لم أعد أستطيع الحركة أو التخلص منه.

(يمسكها المجسم كما لو أنه الطبيب فعلا)

مزق قميصي فانكشف صدري وصار كلّ همي ستر نفسي منه ولكنه وبيد واحدة راح يحاول خلع تنورتي. رجوته أن يكف عن فعلته النكراء. أن يتركني وشأني لكنه لم يسمع كلمة مما قلت. صرخت راجية إياه أن يدعني أذهب بسلام لكنه ازداد قوة وكأن عشرات الشياطين تعمل على غوايته وحقنه برغبة سادية عجيبة. كان لهاثه يفزعني والتصاقه بجسدي يثير فيّ الاشمئزاز والنفور، والخوف في آن توسلت به قائلة:

أنا مثل ابنتك فلماذا تفعل بي ما لا يفعله الأب بابنته."

في هذا المقطع من حوار الشخصية يتكئ المؤلف على السرد وسيلة لعرض الفعل الدرامي وردود الفعل عن طريق الأداء الحاكي، ويزخرفه من حوار قليل متقطع ومتناثر بين الفتاة والطبيب، من خلال استعادة الفتاة لتفصيلات الواقعة وصفا لما دار بينهما. ما كان من فعل الطبيب المتحرش وما كان من ردود أفعالها، وتعليقها على فعله تعليلاً أو تذييلاً أو تحليلاً عبر تصورها الذهني، أو فعلاً مقاوماً لفعله الهجومي المباغت والمحموم؛ وهنا تتبدي مستويات أداء الممثلة متأرجحة فيما بين المناهج المختلفة.. فاستعادتها لمقاطع مبتسرة من قوله في محاولته الاحتكاك القولي أو الجسدي بها، مقرونة باستعادتها لمقاطع من ردودها الزاجرة له أو المقاومة لهجمته؛ قد تؤديها الممثلة بصوتها تصويراً يشف عن المسكوت عنه من قوله – طريقة قوله – ولأن طريقة قوله منفرة لها؛ فعرضها لقوله محمولاً على صوتها لابد أن يعبر عن حالة نفورها منه. بينما تكشف بطريقة تعبيرها عن قولها المسترجع لردها عليه بلون من الاصرار والغضب.

ويبدو أن من خصائص البنية المونودرامية تأكيد المؤلف على طبيعة الشعور الذي يتوج جزءا من أقوال الشخصيات، كقولها: ".. قلت له بتلميح مقصود"، أو قوله "أو أو ربما اجتماعنا عل عل على الخير على الخير طبعا. "

فوصف الفتاة لطريقة قولها في الجملة السابقة تحدد معنى اللحظة الشعورية التي ركز عليها ستانسلافسكي في كلامه عن دور الممثل في الإمساك بالعاطفة الحاكمة للدور وتتبع معاني اللحظات الشعورية أساساً لتجسيدها في تعبيره عن بواعث مشاعر الشخصية. وتكرار بعض الحروف أو تكرار كلمة أو جملة في كلام الطبيب المتحرش للفتاة، يكشف عن حالة عدم التركيز وغياب الوعي.

فجوهر إرادتها ومناط تعبيرها في جملة " بتلميح مقصود" وجوهر ما يشعر به ومناط تعبيره في ارتباكه الواضح في لعثمته "أو أو ربما اجتماعنا عل عل على الخير على الخير طبعا".

فإذا جئنا للنسق السردي في وصفها للواقعة؛ يتباين أداؤها التمثيلي بتباين مستويات الحكي.

فوصفها لمظهر التحفز المتدرج لهجوم الطبيب عليها، مغاير لوصفها لحالة دفاعها المتدرج عن نفسها، ولكل منهما أسلوب تعبير وأداء مختلف، مع أن إطار الحوار السردي الوصفي واحد في فعله وفي ردود فعلها.

ومن خواص كتابة المونودراما توظيف النص الموازي – ما بين الأقواس – أو مؤثر صوتي أو مرئي أو رسم حركة مقترحة للمخرج: " (يمسكها المجسم كما لو (نسمع صرخة) " مع وصف لطبيعة الصرخة " (كما لو أنه طعن مرة ثانية) " " (يحل الظلام والصمت في أرجاء الكلام ... )

 

المبحث الثاني

الممثل ومقومات المونودراما بدون مخرج

مقدمة البحث وأهميته:

تختلف تقنيات التمثيل بين مناهج التمثيل المختلفة ما بين المنهج الاندماجي والمنهج التغريبي ، والمنهج الخليط بينهما. وفي تمثيل المونودراما تختلط المناهج التمثيلية تبعا لتداخل أصوات الشخصيات التي يستدعيها الممثل المونودرامي عبر ذهنه استدعاءً وهمياً ولحظياً، وهنا يكون قادراً على مهارات التنقل فيما بين مناهج التمثيل لخلق مصداقية التباين في تصوير الشخصيات المستعادة ذهنياً من وقائع حدث ماض، مصداقية تختلف عن مصداقية أدائه لدوره المحوري. وهذا البحث يتعرض لهذه الإشكالية، فضلاً على إشكالية تزعم بعدم حاجة الممثل إلى مخرج في إنتاج عرض مسرحي؛ بزعم أن الممثل قادر بنفسه على إقامة العرض على خشبة المسرح.

إشكالية المبحث وأسئلته:

- هل يمكن استغناء فن التمثيل عن فن الإخراج وعناصره من ديكور وتقنيات الإضاءة.. - كما يقول الممثل الألماني (كلاوس كينيسكي) متحدياً المخرجين باعتبار التمثيل هو الدعامة الأساسية للعرض المسرحي، وباعتبار التمثيل هو الشرط الضروري لقيام عرض مسرحي؟

- هل يقوم العرض المسرحي مستغنياً عن وجود مخرج، مكتفياً بالممثل ومكان للعرض وجمهور المشاهدين؟

- هل كان كونستنتين ستانسلافسكي يرى إمكان قيام عرض مسرحي دون حاجة إلى فن المخرج؛ عندما قال: " إن السيد الوحيد على خشبة المسرح إنما هو الممثل الموهوب - المبدع "؟

منهج البحث: تطبيقي

من الحقائق المؤكدة أن المسرحية تتحقق عندما تعرض أمام الجمهور. ومن الحقائق المؤكدة أن العرض المسرحي لا يتحقق بدون الممثلين. وربما كان ظهور مصطلح (موت المؤلف) في الدراسات النقدية العالمية قد تأمل خلال قراءاته لرحلة النص المسرحي من صفحة فضاء الكتابة إلى صفحة فضاء المسرح فرصد اختفاء مؤلف النص المسرحي عن المشهد؛ فور انتهائه من كتابة نصه المسرحي كما يقول الكاتب المسرحي الفرنسي جان جيرودو في مقال له، حيث لا يبقى على خشية المسرح غير الممثل وجها لوجه في زمن حضور اندماجي بينه والجمهور. لقد بدأ العرض المسرحي هكذا (ممثل يحمل عبء أداء نص ليؤديه أمام جمهور) لم يكن هناك مخرج – بالمعنى المعروف لنا منذ العصر الحديث - على مر تاريخ المسرح كان التمثيل هو الشرط الأساسي لنجاح العرض المسرحي بمهارة الممثلين وقدرتهم على التعبير من خلال مصداقية التمثيل وتمرسهم في التعبير عن مقاصد النص الشخصيات والمضامين. لكن أي نوع من التمثيل ذلك الذي يمكن أن يقوم بعرض النص المسرحي بدون فن الإخراج!! هنا يجد البحث نفسه وجهاً لوجه أمام إشكالية ثلاثية الأبعاد:

الإشكالية الأولى: حيرة الممثل أمام اختيار منهج التمثيل.. أي نوع من التمثيل ذلك الذي يمكن أن يقوم بعرض النص المسرحي بدون فن الإخراج!!

الإشكالية الثانية: تتمثل لا في حيرة الممثل أمام تباين مستويات الحدث المونودرامي ما بين تجسيد حاضر الشخصية، واستحضار مواقف وشذرات من حدث أو أحداث مرت بها استحضاراً لحظيا عبر الذاكرة في أداء دور الشخصية المونودرامية؛ حيث مهارة الإمساك بلحظات الأداء التجسيدي، وبلحظات التشخيص أو إعادة تصوير الموقف ومهارة تباين تقنيات الأداء.

الإشكالية الثالثة: في ازدواجية عرض الحدث في المونودراما التعاقبية؛ التي تأسس معمارها الدرامي على عرض حدث واحد خلال وجهتي نظر مختلفتين بالتبادل بين شخصية حاضرة تستحضر الحدث والشخصية المضادة لها بصورة فيها ما يتآلف مع ما ستعرضه تلك الشخصية المستحضرة عبر صور من مواقف متشظية تفي بعرض وجهة نظر الشخصية الحاضرة في الجزء الأول من ذلك النوع من المونودراما. وفي إعادة عرض الحدث، نفسه من وجهة الشخصية الأخرى التي استحضرت غياباً في الجزء الأول؛ بممثل آخر أو بممثلة أخرى؛ ومع تغير عرض الحدث باستعادة صور متشظية من مواقف الشخصية الأولى التي هي الآن شخصية مضادة، في هامش الحدث بعد أن كانت مركز الحدث في عرض الجزء الأول؛ لا شك سيتغير أسلوب الأداء ويتنوع فيما بين مواقف تجسيد فعله، وصور تشخيص فعل الشخصية الأخرى، وأسلوب حكي النص الموازي (الإرشادات فيما بين الأقواس) تلك التي تصور بالصوت وصفا لحركة الشخصيتين، فضلاً عن شذرات القول الإسنادي ( قال – قالت ) ليحل بعدها أداء الشخصية المستحضرة، لتؤدي بنفسها بالصوت؛ وربما بالصوت والصورة المستحضرة لحظيا – في رؤية الإخراج التخيلية – ربما

أولا: العرض وضرورات الإخراج:

الإخراج فن جامع لمفردات العرض الايهامية (الممثلين، المنظورات: ديكور، أزياء حيل تنكر، إضاءة، صوت، ملحقات البيئة وملحقات الشخصيات)، فإذا استغنى التمثيل عن ذلك كله، فكيف يتوحد الأداء بين الممثلين على رؤية محددة للعرض؟! خاصة مع نص متعدد الشخصيات، لكل منها أبعاده المختلفة اجتماعياً وجسدياً ونفسياً وثقافياً؟!

حتى لو توافق ممثلو العرض المسرحي على رؤية جماعية لظهور العرض على خشبة المسرح، فإن ذلك في ذاته يعتبر إخراجاً جماعياً. وخلاصة القول فإن حاجة العرض إلى رؤية أو تصور إخراجي قائمة سواء تعين له مخرج ما أو تركت شؤون عرض النص على خشبة المسرح بيد ممثليه.

ولا يمر الأمر هكذا بعيداً عن خبرة الممثل نفسه، تلك الخبرة التي توجب على الممثل - في تلك الحالة - أن يكون مؤهلاً تأهيلاً دقيقاً يعوض العرض عن غياب المخرج المحترف. فما هو التأهيل اللازم والضروري للممثل؛ ليؤدي عمله أمام الجمهور في عرض متكامل يحقق الفرجة المسرحية ويقنع الجمهور ويقف جنباً إلى جنب مع العروض المسرحية التي تخرج بمخرج مسرحي محترف.

وتأهيل الممثل لكي يقوم وحده بتجسيد نص مسرحي على خشبة المسرح دون حاجة إلى مخرج يخرج العرض، لا يقتصر على مجرد تدريب صوته وتنمية مهاراته الجسدية ولكن في مخزون خبراته المعرفية، واتساع مخيلته التصورية، وقدراته في تحليل الحدث المسرحي في مستوياته المتدرجة، وقدرته على تخيل معادل موضوعي لأدائه الشعوري والإدراكي بالتعبير الصوتي الحركي المناسب لكل مرحلة من مراحل الصراع في تأزمه وفي تصاعده وفي التعبير عن أثر الصدمة الدرامية ومفارقاتها صوتياً وحركياً بمصداقية عالية. أو قدرته على إعادة تصوير دور الشخصية من وجهة نظر نقدية معاصرة – وفق منهج التغريب

وعلى الرغم من أن توفر ذلك كله لدى الممثل؛ فإن ذلك لا يغني عن تصور إخراجي للعرض، في المسرحية التي يقوم بناؤها على شخصيات متعددة، لكل منها إرادته وعلاقاته ومشاعره ودوافعه الذاتية الخاصة. وهنا مع تعارض إرادات الشخصيات، وتعارض تصور كل ممثل على حده لأسلوب أدائه لدوره. وحتى في حالة إعادة تصوير دور الشخصية – وفق التغريب الملحمي – وتعارض تصور الممثل للصفة الاجتماعية لدور الشخصية باعتبارها تشخيصا لصفة الطبقة التي تنتمي إليها، فلابد في كلتا الحالتين من وجود فكر ينسق أو ينظم بين أسلوب كل ممثل من الممثلين المشاركين في العرض المسرحي، بحيث لا ترتبك حركة الممثلين على خشبة المسرح ولا يتداخل التعبير الصوتي للممثل على تعبير ممثل آخر أو ممثلة أخرى في الحدث أو الموقف المسرحي، فضلاً عن تشكيل التكوينات الجماعية في بعض المواقف وضرورة أن تبدو في صورة جمالية، وفي وحدة إيقاعية، وتبعاً لذلك كلّه نؤكد أن وجود مخرج مسرحي للعرض ضرورة لا غنى عنها. وفي تاريخ العرض المسرحي لم نسمع، ولم نر عرضاً مسرحياً بدون تصور يضبط عناصر الصورة المسرحية بإيقاعها العام وما يتصل به من إيقاعات أداء كل ممثل أو ممثله ممن شاركوا في العرض.

المبحث الثالث: ممثل المونودراما

- مبحث تطبيقي

ربما يكون استغناء الممثل مكتفياً بذاته في إنجاز عرض مسرحي منفرداً لصيقاً بالممثل في المونودراما، سواء كانت عرضا للممثل الواحد One man show أو في المونودراما التعاقبية، التي يؤديها ممثلان أو ممثلتان أو ممثل، وممثلة، يقتصر دور كل منها على تمثيل الجزء الأول من المونودراما – أحدهما يمثل الحدث من جهة نظره، بما يغاير وجهة نظر ممثل الجزء الثاني المعقب على رواية ممثل الجزء الأول من المونودراما. غير أن ذلك وإن استغني التمثيل فيه عن المخرج؛ فإن العبء الذي كان يفترض أن يتحمله المخرج من تحليل للنص، وكشف عن مناطق ضعف الحدث ومناطق قوته، ونقاط التصاعد الدرامي، ونقاط الانفراج، ومساحات الأداء التجسيدي ومساحات الأداء التشخيصي، ومساحات الحكي، وما يناسب كل مساحة من مساحات الأداء التمثيلي من تخيل للحركة الجسدية المتزامنة مع كل تعبير صوتي، وربط مفردات الإيقاع في كل مستويات التعبير والتصوير مجتمعة في وحدة منظومة إيقاعية عامة لخلق الأثر الدرامي والأثر الجمالي. وهذا كله يتطلب تحصيل معرفي وفني على مستوى عال من المهارة والحرفية بتقنيات مناهج تمثيلية متعددة منها منهج التجسيد النفسي للصفات الداخلية والخارجية الذاتية للشخصية عند ستانسلافسكي، ومنها منهج التغريب؛ اعتماداً على تصوير الصفة الاجتماعية لموقف من مواقف الطبقة التي تنتمي إليها الشخصية المونودرامية؛ ذلك أن الشخصية المونودرامية ذات أصوات متعددة يستدعيها الممثل لوهلة عبر الذاكرة back Flash ، محمولة على صوتها الرئيس، وسريعاً ما يعود إلى الأداء بصوت الشخصية التي يقوم بتمثيلها.

ومن أمثلة ذلك ما نجده عند صباح الأنباري في مونودراما (عامل في جدارية فائق حسن) - وإشكالية أداء دور شخصية تمثال يخرج خروجاً خيالياً من جدارية، وما يتطلب من تقنيات أداء آلي، تحقق مصداقية تشخيص حالة الأنسنة.

فكرة الحدث:

هذه المونودراما تصور منحوتة عامل يخرج من الجدارية بعد أن سقطت قذيفة مدفعية؛ فتركت حفرة عميقة أمامها؛ دون أن تصيب الجدارية.

فإذا وقفنا عند النص الموازي لنص الحوار وهو ما يمثل وصفاً إرشادياً بصوت الممثل معلقاً على فعل أو حدث ماض مستعاد؛ فماذا نقول عن هذا النص الذي يرسم حركة الممثل بكل تفاصيلها أليس ذلك إخراجاً من واقع النص الذي كتبه المؤلف؟ فكيف يمكن القول إن الممثل يستطيع الاستغناء عن المخرج؛ لكي يقدم العرض مكتفياً بنفسه على خشبة المسرح - بدون إخراج

الإرشاد الموازي ومقومات الإخراج:

" نشاهد على الخشبة (في منطقة أعلى وسط الوسط) جدارية ضخمة هي جدارية السلام للفنان العراقي الكبير فائق حسن من الجدارية يخرج بشكل استهامي العامل الذي يقف في مقدمتها وهو يرتدي بدلة العمل الزرقاء. يبدو عليه التعب والضجر يتحرك أمام الجدارية جيئة وذهاباً يتوقف يفكر. يبدأ المشي مرة أخرى ولكنه سرعان ما يتوقف. يلتفت إلى جمهور النظّارة ثم يتقدم باتجاههم. يتوقف عند حافة المسرح إذ يفاجأ بوجود حفرة كبيرة يكاد يسقط فيها، فيتراجع خطوة إلى الوراء:

" العامل : آ نسيت وجود هذه الحفرة. أو لأقل إنني نسيت أمر القذيفة التي استهدفت الجدارية ولكنها سقطت هنا (يشير إلى موضعها) فأحدثت هذه الحفرة الرهيبة.. (يتوقف فجأة ثم يوجه كلامه إلى جمهور النظارة مباشرة)

عفوا نسيت، وما أكثر ما أنسى هذه الأيام، أن أقدم لكم نفسي.

أنا العامل في هذه الجدارية (يشير إليها) منحت قبل قليل فرصة للخروج منها لأتنفس الهواء النقي بعد أن أفسده بعض عابري السبيل أو السكارى الذين لم يجدوا مكانا للتبول إلاّ تحتها. معذورون هم، فلا أحد منهم يعرف قيمتها.

(يلفت انتباههم نحو الجدارية)

انظروا ماذا فعل الإهمال بها. لقد بهتت ألوانها، عاث بها الموترون خراباً، وكأنها ليست ملكاً لهم أو جزءا من تراثهم الجميل. حين أكملها فائق حسن أطلق الناس مئات الحمامات البيض ابتهاجاً بها حتى صارت السماء بيضاء كالجليد. لم أعرف من أين حصل الناس على هذا العدد الكبير من الحمامات البيض التي تشبه نظائرها في اللوحة. سمعت ذات مرة وأنا أقف في مقدمتها رجلاً من المارة يقول

"(يمثل دور القائل. يمّر من تحت الجدارية.. ينظر إليها ساخرا):

(يعود لشخصيته)

حقيقة لم أفهم لماذا يضمر هذا الرجل كلّ هذا العداء لحمامات اللوحة! لكنني اكتشفت ذلك بعد مرور وقت قصير حين جاء فتية من الملثمين، وأطلقوا النار على الحمام هكذا.

(يضع على وجهه قناعاً. يمثل دورهم وهم يطلقون النار على الحمامات بحركات صامتة. يتوقف. يزيح القناع. يعود لشخصيته)

ولما لم تسقط أي واحدة منها جاءوا بعلب دهان.

(يضع القناع على وجهه ثانية. يخرج إلى ما وراء الكواليس. يدخل ومعه علب الدهان وفرشاة. يضع بعضها إلى جانب بعض. يقوم بفتح أغطيتها واحدة تلو أخرى. يتناول الفرشاة محاولا طلاء الحمام. يقلد حركات الملثمين بشكل ساخر. يستمر بالطلاء حتى يشلّ التعب حركة ذراعه فيعود لشخصيته السابقة كعامل في الجدارية، ثم يخلع القناع ويرمي به أرضاً. يحرّك يديه من شدّة التعب)

كلّت متونهم بعد إصرار عجيب على الطلاء فولّوا الأدبار، واختفوا في أزقة البتّاوين المظلمة "

على أيّة حال نزع أحد رجال الجدارية قطعة القماش التي تلفّ وسطه، وراح يمسح بها بقع الدهان من على وجه الحمام.

(يتحرك باتجاه اللوحة يقف إلى جانبها)

لم نخش إطلاق الرصاص علينا فنحن نعرف صلابة المادة التي جبلنا منها ولكننا والحق يقال كنّا في حالة دهشة كبيرة (متسائلاً) لماذا دهشة كبيرة؟

لأنه لا يوجد مجنون على هذه الأرض يمكن أن يطلق النار على أهله وناسه بهذا الاستهتار المفزع.

(فترة صمت)

لم يتوقع أحد من المارة إننا يمكن أن نراهم أو نسمعهم وهم يتهامسون بأمور كثيرة ومثيرة. ففي ليلة من ليالي الصيف القائظ اقترب منّا ثلاثة أشخاص قال أولهم:

(يمثّل شخصية الأول بعد أن تتركز الإضاءة عليه. يشير لرجلين وهميين بالاقتراب منه . يحاورهما همساً مستخدماً حركة جسده موضعياً باتجاه الشخصيتين)

- غدا ساعة الصفر، علينا تبليغ خلايانا بذلك.

- هل المكلفون بالاغتيال على أهبة الاستعداد؟

- إنهم على أهبة الاستعداد.

- وهل استلموا العدة؟

- نعم استلموا بنادق بورسعيد من حليفنا سراً وهي مؤهلة الآن، وكافية لعملية الاغتيال.

( يترك مكانه عائداً لشخصيته) "

ألا تمثل النصوص الموازية للحوار في كل مستوياته ما يعرف بنص المخرج!!

تقنيات الأداء التمثيلي:

تتعدد الأصوات المستعارة المستحضرة افتراضياً؛ من صور الماضي المتوهم، محمولة على صوت شخصية العامل؛ الذي خرج منفصلاً خارج الجدارية كما نرى وهذا يعني أن على الممثل عبء التنقل بمهارة وتقنية فائقة عبر الأدوار التي يتوهمها لذا يتلون أداؤه التمثيلي ما بين التجسيد والتشخيص من تباين.. تجسيد شخصية العامل، وتشخيص صورة الشخصيات الموهومة التي تستدعيها ذاكرته استدعاءً لحظياً لوهلة؛ شخصية إيهامية أبدعها خيال المؤلف - وسرعان ما تغيب - حيث يؤنسن الحجر، منحوتة شخصية العامل من الجدارية الشهيرة ببغداد، ويمنحها حياة إنسانية.

والإشكالية في قدرة الممثل على اصطناع تعبير صوتي لا يخلو من الآلية لمنحوتة العامل، بعد أن تحولت إلى إنسان تدب فيه الحياة، تدب في حجر. مع قدرته على تشخيص الشخصيات المستدعاة من خارج الجدارية، ومحاولاتهم في تلويثها أو تشويهها أو هدمها بإطلاق الرصاص الحي عليها، أسوة بإطلاقهم الرصاص على بني وطنهم الأحياء.

الممثل إذن يستخدم أكثر من منهج أدائي للتنقل بين الأدوار التي يقوم باستدعائها عبر الذاكرة، فهو يستعين بمنهج ستانسلافسكي في تجسيد دور العامل – الدور المركزي- الذي خرج من الجدارية، مستعيداً في حالة تحوله للشخصية القناع التي تحمل وجهة نظر المؤلف نفسه في محاولات بعض المتطرفين المعارضين أو الإرهابيين الظلاميين لهدم جدارية ترمز إلى تخليد أو تجديد ذكرى النضال العمالي – فممثل تمثال العامل حامل لصوت المؤلف، وحامل لصوت الصفة الطبقية للعمال، وحامل لصفة الفئة الظلامية الإرهابية، وحامل لوصف ملابسات الفعل المستعاد عبر الذاكرة بدلالات التباين بينها.

حيرة الممثل:

بإزاء ذلك التداخل في مستويات الأداء تجسيداً وتشخيصاً وحكياً؛

ماذا يتعين على الممثل فعله؟

يتعين على الممثل في المواقف التي تعبر عنه وهو يمثل مركز الحدث أن يعيش انفعالات الشخصية وأحاسيسها بصدق وإيمان، وأن يتحول من الممثل الشخص إلى الشخصية المسرحية.. فكيف للممثل أن يؤثر على الجمهور ويقنع المتلقي بانفعاله وشعوره، وبصدق أحاسيسه؛ إذا لم يكن هو مؤمناً ومقتنعاً إلى الحد الذي يصبح فيه إلى حد ما.. الشخصية التي يؤديها؟ نقول إلى حد ما لكي لا يفهم من هذا الكلام أن لا دور لعمل الوعي والنقد الذاتي، أو المراقبة الذاتية في عمل الممثل.. أو بتعبير آخر مفارقة الممثل الأساسية في أن يعيش الشخصية بصدق، وأن يكون في الآن، نفسه، على وعي تام بأنه يمثل الشخصية ويقدمها للجمهور _ مستعينا بمنهج المعايشة النفسية عند ستانسلافسكي - كما يتعين على الممثل الاستعانة بمنهج التغريب البريختي الملحمي في تشخيص الشخصيات التي يستعيدها عبر الذاكرة لوهلة أو للحظة قصيرة جداً في ذهنه، وهنا يظهر الاقتدار والتفرّد في إيجاد أسلوب يجمع بين الأسلوبية (الاستايلزم) وأسلوب المعايشة. والممثل المقتدر والمقنع هو الذي يلعب بكيفية طبيعية، تلقائية وصادقة. مع قدرته على عدم الانغماس الكلي في الدور أو الانقياد الكلي لمشاعر الشخصية، بوصفه ممثلاً لصفة اجتماعية وليس ممثلا ًلذاته والفرق بين المعايشة وتشخيص الصفة الخارجية للشخصية هو فرق بين منهجين مسرحيين مختلفين في التمثيل فالصدق الاندماجي يستلزم المراقبة الذاتية. أما الصدق التغريبي أو غير الاندماجي فيستدعي الوعي ومراقبة الممثل لأدائه لمواقف أو صور من الشخصيات المستعادة؛ مستعينا بالأقنعة لتمثيل بعض الشخصيات في مواقف معينة – وهذا موجود في النص المونودرامي الذي بين يدينا

التلقي وجمهور عروض المونودراما التعاقبية:

في مقابل تداخل مناهج التمثيل في الأداء المونودرامي؛ هناك معادلة موضوعية لتلقي الجمهور لتداخل أساليب أداء الممثل المونودرامي عبر مستويات التشخيص؛ محمولا على الدهشة مما يتلقى ومن ثّم المراقبة الخارجية الواعية؛ فكما يكون للممثل المونودرامي – هنا – دور مراقب للصفة الاجتماعية للشخصية؛ يكون لجمهور المونودراما دور المراقب الخارجي؛ تبعا لانتفاء عنصر الإيهام في بنية الشخصية المونودرامية ؛ تبعا لخروجاتها المتكررة خارج إهاب الشخصية المحورية ؛ والعودة إليها على مدى امتداد الخط الدرامي المتعرج دخولاً وخروجاً. وبسبب تلك البنية ذات الصور والمواقف المستحضرة استحضاراً لحظياً في إيقاعات متشظية لاهثة، تنتفي حالة الاندماج ويهمش الإيهام ، وتتحول الفرجة المونودرامية إلى ما يعادل فرجة التلقي في معرض للفن التشكيلي بتقنيات الـ ( performance ) فالدور الملقى على عاتق المتلقي لعروض المونودراما التعاقبية مزدوج ، إذ يجمع بين حالتين من حالات التلقي تلقي المعايشة، وتلقي المراقبة المندهشة؛ وبذلك يحقق الأداء خطاب المونودراما التعاقبية؛ التي تجسد فكرة التعدد الحداثية أفضل تجسيد؛ باعتبارها أثر من آثار الفكر الحداثي؛ حيث التوالد الدائم للمعنى مع كل عملية تلقي للمنتج الإبداعي نفسه.