د. صالح الرزوق

أسطورة في دراما أجاثا كريستي وصباح الأنباري

صالح الرزوق
يذكرني نص صباح الأنباري (الهبوط شنقا إلى العالم السفلي) * بنص مماثل لأجاثا كرسيتي وهو (أخناتون)**. وإذا كانت أطروحة الأنباري مختلفة تماما عن مشروع كريستي، ملكة الروايات البوليسية، فهما يتفقان بالتخلي عن طموحات مشروع كل منهما. الأنباري يخفف من شهوته للتجريب، وينخرط مباشرة بحكاية متسلسلة تحملها شخصيات بسيطة وحوار واضح. بينما تنسى كريستي نفسها وبطل تحقيقاتها الجنائية هيركول بوارو، وتدخل في تفاصيل لحظة تاريخية حاسمة، وهي لحظة توحيد الوجه القبلي مع الوجه البحري في مصر الفرعونية. وأعتقد أن هذا يضع كلا من المسرحيتين في نفس المدار. فهما تلقيان الضوء على مشكلة طالما أرقت البشرية، وهي مشكلة الطغيان وما يتولد عنها من عنف وإراقة للدماء. لذلك يتساوى العملان على الأقل بنقطة الانطلاق أو الارتكاز. فقد كانت بذرة الفكرة وجودية وبعيدة عن الأدلجة أو التسييس. ولكن تبقى مسرحية أجاثا كرسيتي أقرب لولعها غير المحدود بالبحث عن أثر يدل على الشخصية، أو بتعبير آخر بطبيعتها الجنائية في دراسة شخصياتها. فهي تهتم بالمواصفات الخارجية والإيماءات والحركات منذ المنظر الأول. وتستعمل عيون بعض الشخصيات الكومبارس لتستدل من هيئة وهندام شخصيات أخرى على الوضع النفسي والاجتماعي.  

وأذكر كمثال لحظة دخول موكب الأجانب. حينها نسمع رجلا يقول: انظروا إلى شعرهم وقلانسهم.
فترد امرأة: إنهم قبيحو الشكل

ثم تردف: يثيرون التقزز بقذارة منظرهم. (ص 9). وهكذا.

لقد احتلت عين الكاميرا أو المشاهدات وتفاصيل الأبنية والأزياء والأثاث مساحة هامة من مسرحية كريستي. وبحسبة بسيطة تجد أن الحياة لديها هي نتاج للرؤية ودقة الملاحظة. وكانت تبني الكثير من الاستنتاجات والنتائج على ما تراه بعينها المجردة.  بمعنى أن البصر هو نافذة على الذهن والحياة النفسية.   وعلى هذا الأساس تستطيع ربط مسرحيتها (أخناتون) بكتاب فرويد المعروف (موسى والتوحيد). ومن المؤكد أن كلاهما نظر لليهودية على أنه دين بشري، وهو من بنات أفكار ملك طاغية ودكتاتور سفاح، أحب أن يربط كل السلطات بيده. وهكذا اخترع موسى فكرة الله واخترع أخناتون فكرة توحيد وادي النيل
وإن استعمل صباح الأنباري عنصر الدراما (بمعنى الصراع)، وحركه بمهارة شكسبير في إدارة نزاع الإنسان مع نفسه، كانت كريستي تكتفي بالحوار، وتحصر الخلاف بين الأفكار والرغبات. وفي النهاية استعملت مشكلتنا الوجودية لتقضي بها على مشاكلنا النفسية وتدجنها. وبلغة مباشرة رفعت شخصياتها فوق المعاناة التاريخية وفرضت عليهم أن يعاني كل إنسان من نفسه

ومن هذه النقطة يفترق عنها الأنباري. فهو يتابع تقسيم الكل لوحدات أصغر، حتى مفهوم الطغيان يبدو على درجات، نوع عادل تمتلكه الآلهة، ونوع جائر يطبقه البشر. ولذلك كانت شخصياته تنتمي لعالم بشري نتعايش معه، وعالم آلهة بكل ما فيه من غرائب ومعجزات وخوارق. حتى أنه وضع مقابل شخصية سدوم ريتي (الملك الظالم) شخصية إيريش كيجال (ملكة العالم السفلي). وهكذا كانت أحداث مسرحيته تدور في مستويين: أنفاق تحت الأرض (مملكة العالم السفلي). ومدن وحواضر على سطح الأرض (وهي أرض الشمس). وقد ساعدته هذه البنية الدرامية على تحريك فكرة الدراما. ولا أقصد بواسطة الأداء والوظائف أو الأفعال الفيزيائية الملموسة، إنما بإضفاء جانب حركي على الواقع النفسي وعلى المضمون. فالحبكة تدور في عدة سطوح متتالية. أو يمكن القول إن أحداث المسرحية تطورت أفقيا على وجه الأرض، ولعبت الأدوار شخصيات إنسانية عادية كابنة سدوم وشفق (مستشاره) ورجال بلا أسماء ولا صفات مما يدل أنهم من بين العامة.
وعموديا: في جو تخيم عليه الظلمات وتحتله آلهة وعمالقة وشياطين وعفاريت وهلم جرا. وانقسام الحبكة بين عالم أموات وعالم أحياء يحيي فكرة الصراع الأساسي بين الخير والشر من جهة وفكرة نفي كل مبدأ لنفسه. فالبشرية تلغي حياتها من خلال تحقيق موتها الخاص لكنها لا تستطيع أن تلغي وجودها. ومثل هذه الفكرة تدل على أبدية النفي وأبدية الإثبات، وعلى استمرار الصراع بين المتناقضات
تقوم فكرة المسرحية على إعدام سدوم، ومثوله أمام  إيريش كيجال، وعقد صفقة معها، وهي أن يعود للحياة مقابل التضحية بأصغر بناته. ولا يخيب على فطنة أحد أنها صفقة شيطانية على غرار ما فعله مفيستوفيليس مع الشيطان. ولكن تضحية بطل غوتة تقتصر على حدود أناه، فهي تضحية بالبنية ذاتها. أما في حالة الأنباري فهي تضحية تاريخية وتزيد من هوة المشكلة بين الأجيال (الآباء والأبناء)، وتكشف بها عمق الخدعة وحجم الكذبة التي تتحكم بشكل إنتاج السلطة والمجتمع. ولكن كيف عزل الأنباري محاوره ثم دمجها دون أن يسبب أي ارتباك لشكل مسرحيته العضوي؟؟ لقد تبع ثلاث مسارات لتحقيق ذلك.

الأول هو التاريخ، واستعمل ذاكرة جماعية تعود للمرحلة البابلية.

الثاني هو الأسطورة، واستعمل الخيال البدائي كرافعة لتطويف الحقائق التي حفظتها ألواح موجودة في المتاحف تعود للألف الثاني قبل الميلاد

الثالث، هو الرؤيا. وقد استعمل عدة إشارات تدل على تقاطع حدود عوالمه وتقريبها من المنطق وتبديد الإبهام والغموض المتعمد عنها بواسطة الحلم والرؤيا. مثلا بعد فشل مهمة سدوم باستعادة ملكه، وانتفاض الشعب ضده يسأل: هل عدنا إلى العالم السفلي؟

يرد المارد 2 قائلا: نحن لم نخرج من عالمنا حتى نعود إليه.

ثم يضيف: كل ما رأيته كان هنا (ويشير بأصبعه إلى دماغ سدوم). ص 57. بمعنى أن ما حصل هو حلم يقظة أو توهم أو رؤيا. وبالاستطراد نفهم أن ما يجري كان يتم على نفس السطح الفيزيقي. وأن اللامعقول مجرد نشاط نفسي تشعر به دون أن تخوض غماره فعلا. وقد لجأ هشام جعيط لهذا التفسير لحل مشكلة الوحي وواقعيته ولإثبات صدقية القرآن وعقلانية معجزاته. واستدل على ذلك بتواتر ورود كلمة رؤيا في القرآن وربطها بأي معجزة خارقة قد تنسف التفكير المنطقي***. 

بالمناسبة لم تعتمد أجاثا كريستي على هذه الحيلة في مسرحيتها إلا مرة واحدة حينما اتهمت أخناتون بالجنون لأنه يدعو لدين جديد، وكأنه نسخة ثانية من النبي محمد. فالمسيح وموسى كان لهما مدار معاناة مختلفة، ولم يكن الجنون أو الهلوسة أو شيزوفرانيا عقدة الرغبات من ضمنها. ولربما انتقلت تهمة الجنون لكريستي من ظرف تواجدها في مصر إبان العمل على مسرحيتها. وهناك دائما إسقاطات عامة تخترعها الذاكرة الشعبية وتتسلل بطريق الخطأ للسجلات. ومن المصادفات الغريبة أن تهمة الجنون شغلت فصلا كاملا من كتاب هشام جعيط عن الوحي وعلاقته بالرسول.

نعود لموضوعنا. لم يشجع صباح الأنباري الاستدلال على الحاضر من الماضي، وإنما استعمل نشاط النفس المفكرة وحدسها وتكهناتها ليقترب من مشكلة وجودية وأزلية. وبذلك يكون قد قفز من فوق المسرح التاريخي (الذي تبناه في مونودرامات تاريخية)، والذي روج له سعد الله ونوس في أعمال هامة لا تزال علامة فردية من نوعها باتجاه مسرح واقعي يستفيد من الأسطورة التاريخية دون أن يستسلم لها كما فعل في “الفيل يا ملك الزمان” و“مغامرة رأس المملوك جابر” وغيرها

* من مجموعته: قبل فتح الستار. خمس مسرحيات صائتة. دار نينوى. دمشق. 2019.
**
منشورات روايات الهلال. ترجمة حلمي مراد. عدد 342. عام 1977.

*** الوحي والقرآن والنبوة. منشورات دار الطليعة. بيروت. 2000.