شموعٌ أضاءت دياجير بعقوبة تسعينيات القرن العشرين

بقلم/ الروائي الراحل سعد محمد رحيم.. الشمعة الثالثة: صباح الأنباري

على الرغم من حمله لشهادة جامعية.. على الرغم من أنه مؤلف مسرحي وناقد، له عدد من الكتب المطبوعة، ناهيك عن مئات النصوص والمقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات.. وعلى الرغم من كونه مخرجاً مسرحياً معروفاً في الوسط الفني العراقي. إلاّ أنه بقي عاملاً أجيراً في أستوديو للتصوير لمدة تزيد على الربع قرن. يتنقل من بيت مؤجر إلى آخر مع أسرته (زوجة وأربعة أولاد) يكدح من أجل إعالتهم وتعليمهم وتثقيفهم. وهو مملوء بالتفاؤل، مترع بكبرياء حادة، مسكون بشغف فائر بالفن والحرية والحياة. وشخصياً كنت كلما أُصاب بفتور همّة وتتمكن مني الكآبة وأحس بأن الأفق مسدود كنت أذهب إليه فكان حديثه وحواره معي يعيدان إليّ ثقتي بنفسي وبالعالم وبالمستقبل. أخبرني في أحد أيام العام 1995 أنه بصدد مسرحة أربع قصص قصيرة لمؤلفين من ديالى (محي الدين زنكنة، عبد الحليم المدني، صلاح زنكنة، سعد محمد رحيم) ثم تكليف أربعة مخرجين، هو من ضمنهم، لإخراجها وعرضها في يوم واحد.. بدا لي المشروع، في حينها، خيالياً، أي غير قابل للتنفيذ. إذ كيف لمجموعة من المثقفين، شبه المفلسين، تغطية تكاليف أربع مسرحيات وإن كانت من ذوات الفصل الواحد؟ بينت له شكوكي، فقال أنهم سيخرجونها بأسلوب المسرح الفقير، أما العاملون (من ممثلين وفنيين) فهو واثق أنهم لن يتقاضوا فلساً واحداً. وهكذا كان.. كان مهرجاناً فريداً من نوعه، لم يشترك في إحيائه هو وحده، بل أشرك فيه أفراد عائلته أيضاً. وبالمناسبة فإن عقيلة الأنباري السيدة لميعة الناشئ كانت تعد طاقة كبيرة في مجال التمثيل، غير أن ظروف الحياة الضاغطة حالت دون أخذها لفرصتها التي تستحقها. وأذكر ذات مرة في صيف العام 1997 يوم مثلت الدور النسائي الرئيس في مسرحية محي الدين زنكنة (يحدث هذا في الخمس الخامس من القرن العشرين) من إخراج سالم الزيدي وقد تألقت في أدائها واستحوذت على إعجاب الجمهور.. رحت لأهنئها بعد انتهاء المسرحية فقالت: أتدري يا أبا سرمد أنني وقبل أن آتي إلى هنا وقفت أمام التنور تحت الشمس المحرقة وخبزت أكثر من أربعين رغيفاً (قرصة) من الخبز. بعد انتهاء عرض المسرحيات الأربع في الواحدة بعد الظهر عدنا إلى بيوتنا، وكنت مع عائلة الأنباري في الحافلة المزدحمة القديمة ذاتها، وكانت أم إباء (السيدة لميعة) تتحدث بمرح عمّا يمكن أن تعدّه لوجبة الغداء. في العقد التسعيني، كذلك، كانت هناك أنشطة مسرحية أخرى شاركت فيها أو أبدعتها تلك العائلة الرائعة. وكان صباح الأنباري في هذه الآونة يشارك في إحياء أمسيات أدبية في اتحاد الأدباء، وفي مهرجانات التصوير حتى أُنتخب رئيساً لفرع جمعية التصوير العراقية في ديالى، بعد سقوط نظام صدام. شيء آخر، ولابد أن نذكره للتاريخ. فقد كان صباح الأنباري يقوم، بخطه الجميل، باستنساخ مسرحيات الكاتب الكبير محي الدين زنكنة، يوم لم تكن هناك طباعة على الحاسبات.. كان قادراً على قراءة الخط غير الواضح بالمرة لزنكنة، وفي الغالب كان يحملها بيده، أو يبعثها، إلى جهات النشر. واستطاع بدأبه وصبره وضع أرشيف متكامل لجميع كتابات زنكنة المنشورة في الصحف والدوريات والكتب، وكذلك ما كُتب عنه. فضلاً عن جرد لمسرحياته التي مُثلت في بعقوبة أو بغداد أو المحافظات الأخرى، وحتى خارج القطر. وكان ذلك إنجازاً حفظ كثراً من نتاجات زنكنة من الضياع. في النهاية لم يجد صباح الأنباري بداً، وفي قلبه غصة، من مغادرة العراق إلى أستراليا، بعدما ضاقت به السبل. فلم يحصل من أجل إقامة منزل له على قطعة صغيرة من أرض العراق التي كان يعشقها بصدق عال.. ولم تجر إعادته إلى وظيفته التي تركها في العهد البائد، يوم تعرّض لضغوطات سياسية وأمنية واقتصادية قاسية. وقد غادر البلد، في العام 2006 لمّا باتت أشباح الرعب والموت تجوب طرقات مدينته وأحيائها. تحية للأنباري وعائلته في مغتربهم. والذي، يخيل لي، (فأنا عرفتهم هكذا)، أنهم منه يرسلون كل يوم نظرهم صوب بلادهم التي لا يعشقون سواها.

....................................................

 

ومن أروع مسرحيات الأنباري المونودراما الشهيرة (إطلاقة واحدة حسب) المهداة الى الشهيد البطل مصطفى العذاري في رحلته الأخيرة... وهذا رابطها:

https://www.facebook.com/SabahAlanbari/posts/873145762734831:0