التراث ويوم المسرح العالمي 2013

عبد الفتاح

عبد الفتاح قلعه جي

       في عصر شائك من العلاقات، كثير التبدلات وعميقها، خطر المواجهات، يشهد انقلابات، وتقلبات فكرية وسياسية واجتماعية، ومتغيرات جوهرية في المفاهيم عامة، والمواقف الثقافية خاصة . وانزياحات سريعة عن الثوابت الأساسية للمكونات الشخصية. وبالتالي هو عصر يقوم على تبديل المفاهيم، والخلفيات المرجعية، على مختلف الأصعدة،. فلم تعد التصفيات العرقية في هذا العصر إلا إحدى الممارسات البدائية الفجة للتصفيات الحضارية، بجوانبها المتنوعة الخطورة على الجوانب التاريخية، والفكرية، والثقافية، والفنية. فعصرنا الذي تبحث فيه الشعوب عن تأكيد وجودها، وعن حماية هذا الوجود وتمايزه تحت مظلة الولادة الجديدة لعالم القرن الحادي والعشرين. عالم الأخوة والسلام المرتقبة، فقدت في هذا العصر كثير من الشعوب - بسبب المتغيرات العنيفة - دروعها المستعارة الواقية، وغدا لا مهرب لها من أن تلجأ إلى ذواتها، وإلى المقدرات الكامنة فيها لحماية ذواتها في معركة وجودها الحضارية. فلم تعد الأسلحة المعاصرة تقليدية فحسب، وإنما تنوعت فنون الاستلاب بأسلحة معنوية مرّة، وأيديولوجية تلفيقية مرّة ثانية، تنطلق من الدعائية الإعلامية، لتؤثر على الرأي العام، وتفرض حصاراً ثقافياً على شعب، واقتصادياً على آخر، وتجويعاً غذائياً لشعب ثالث، غرضها من كل ذلك تركيع تلك الشعوب، ومحاربتها في تراثها، وتاريخها، وثقافتها، وفنونها وحضارتها . تسعى قوى الاستلاب في غالب أغراضها لكي تجعل هذه الشعوب مضطرة بعد فترة إما للتماهي في الآخر "الذي هو مصدر هذه الحرب، وتلك الأسلحة". أو لتهيئ جيلاً من أبنائها يقبل بأي حلّ مفبرّك له، مما يؤدي إلى امحاء شخصيتها التاريخية، ووجودها الحضاري . وإيماناً منا بمكانة المسرح الهامة في لوحة الحضارة الإنسانية، وبدور التراث في حمل جوهر الوجود الحضاري لأمتنا العربية، وبقدرته على الاستمرار في الحاضر والمستقبل، وبأن التفاعل ما بين مسرحنا وتراثنا، يعني الاسهام بأفضل وسيلة اتصال ثقافية في صياغة مشروعنا الحضاري، وحماية ثوابت أمتنا ومكوناتنا الجوهرية، وشخصيتها التاريخية. وفي ظل ما تتعرض له أمتنا من هجوم شرس على أصعدة مختلفة، ومنها الصعيد الثقافي، بأسماء مختلفة، تتخطى حدود المثاقفة.
ومن أجل انبثاق آفاق مستقبلية جديدة في المسرح، وفتح نوافذ الحاضر على الماضي، والماضي على الحاضر، في بناء عمارة لمستقبل عربي منشود تأخذ موقعها المشرّف بين العمائر الإنسانية . تتصل معاً ولا تنقطع . تتفاعل ولا تتقوقع . إيماناً منا بكل ذلك أصبح التمسك بهويتنا الإنسانية والثقافية وثوابتها أصبح ضرورة ملحة، وبهذا يصبح التراث ركيزة أساسية في ثوابتنا الإنسانية والوطنية، وتحقيق ذلك يكون بما يلي:

 
1 - السعي لتحقيق هوية عربية للمسرح
.

 2 - الوصول إلى المحيط العالمي، والتعريف بالمسرح العربي .

3 - تحريك الساكن من التراث باللون المسرحي .

4 - إحياء اللازم من ظواهر، وتسجيلها . وإن في تراثنا إمكانات كبيرة للمسرحة، وقيم، وموضوعات سامية يمكن أن تساهم في تكوين الإنسان العربي الجديد.

5 - تسجيل بيانات بالممارسة الفعلية لإحياء التراث ونقله مسرحياً، وبحثياً للأجيال القادمة. 

*  *  *

   إن التنوع في تراث شعوبنا الممتدة على صدر قارتي آسيا، وأفريقيا . وإن تأثر هذا التراث بتراث وثقافات الأمم المجاورة، وإن الغنى، والتعددية في القيم الفكرية والاجتماعية لهذا التراث، لا بد أن يقابله تنوّع في الأشكال المسرحية، وإغناء وتعددية في القيم والأفكار التي تطرحها تلك الأشكال . وبذلك يصبح المسرح وسيلة من وسائل الحوار الثقافي والفكري والفني

ولمعرفة الذات، معرفة حقيقية، والحفاظ عليها من التماهي، لا بد من تمثّل التأريخ القديم، والمعاصر والالتصاق بالشعب في جميع الأقاليم، والأقطار : البادية، والريف، والمدينة، ولا بد أن نضع في الاعتبار أن الشعب كائن تأريخي.

   إن نظرتنا إلى التراث ليست متحفية، ولا سلفية، فهذه رؤية منقطعة . إن رؤيتنا للتراث هي رؤية اتصال وصيرورة، وحضور الماضي في الحاضر، وإن مجرد نقل الظاهرة إلى مجال المسرح يعني أنها ما تزال حية، وإن حضورها في المسرح بعد سلسلة من عمليات الإعداد الفكري، والفني تعني التأكيد على صيرورتها، وإعادة خلقها من جديد . وبذلك تنتقل الظاهرة من الماوراء الزمني محتفلة بنبضها الحيوي، إلى الأمام المعرفي، وبأشكال فنية معاصرة مستلهمة من وعينا الجمالي، وذوقنا . وهذا واحد من أهم سبل الاستلهام.


   إن هذه الدعوة هذه بقدر ما تحمل من قيم قومية تحمل قيماَ إنسانية. إنها ليست عصبية قوموية. ولكنها تنحو للقدر الذي يشعر به الإنسان باستقلاله، ووجوده. وفي عين الوقت يحترم استقلال الآخرين ووجودهم وثقافتهم . إن تحقيق شرط الإنسانية لا يكون في امحاء الوجود الذاتي، والقومي، والتماهي في الآخر.


   ليست الغاية تزيين الأشكال المسرحية الغربية بموروثات شعبية . أو ترفيهية . وإنما الغاية هي تأصيل مسرح عربي تتجدد فيه شخصيتنا، وهويتنا، وفكرنا، وفلسفتنا، ونظرتنا إلى الحياة، وقيمنا الجمالية، والفنية التي يتصل ماضيها بحاضرها في حركة عبور سليمة نحو مستقبل نبينه بأنفسنا ضمن الأطر الكبرى لحضارتنا التي نحرص على استمرارها في عالم يتشكّل اليوم من جديد. عالم تصل فيه حرابه إلى جيناتنا الثقافية، لتبدّل إنساننا العربي الذي ظلّ محافظاً على قيمه، بإنسان آخر لا ينتمي إلينا، رغم أنه يرتدي أزياءنا، ويتكلم لغتنا، لكنه سيكون الخادم . أو التابع . أو الإنسان الآلي الذي تسيّره أنظمة عالمية مسيطرة تحرص على نزع هويته، وتأريخه كي يكون مؤهلاً للبرمجة التي تريد . إن الوقوف بوجه ذلك في مجال المسرح يقتضي منا ارتياد تراثنا، والكشف عنه، والتمسك به في مختلف أنواعه : الأدبي، والعلمي، والشعبي، والفني، والتاريخي . وحضور هذا التراث جوهراً في الإبداعات المعاصرة التي ترتاد حقول الواقع، وتستشرف آماد المستقبل . وهذا يعني أن عملنا يبدأ من النص المسرحي، ويتشكّل على خشبة المسرح، ثم ينتهي بالجمهور المسرحي.

 

   إننا لا نقف ضد المعاصرة أو "الحداثة"، لكننا  ندعو إلى المعاصرة الموضوعية، والعلمية، معاصرة المتصل لا المنقطع . معاصرة تحتفظ بثوابت حضارتنا . وهذه الثوابت هي الطاقة المولّدة، والحافظة لكينونتنا . والمعاصرة هذه مرتبطة بالحرية الفكرية، والفنية، والتجريب في المسرح المنطلق من رموز تراثنا  وواقعنا وحريتنا المطلقة في التعبير. وإن في تراثنا وواقعنا امكانات لتشكيلات مسرحية إبداعية، فنية، وفكرية عصرية لا حدود لها، ولا بد ن نضع في الاعتبار أن علينا أن نساهم في خلق تراث يعتز به من يأتي بعدنا .

   إن أي تخاطب مع الآخر، لا بد أن يعتمد على اللغة . هذه اللغة نصيّة، لفظية كانت . أم فنية. أم كلتيهما هي نتاج تجارب، وخبرات موغلة في القدم، ومستمرة في الحاضر. وبهذا المعنى فإن التراث لغة، وإن المسرح في الخارطة الجغرافية للفنون، هو أرقى الوسائل الفنية، والثقافية، وأكثرها جماهيرية في حمل هذا التراث، وتقديمه بلغته البصرية والشاملة.


   وفي مجال المسرح حيث النوافذ مفتوحة على جميع الاتجاهات، والتجارب المسرحية في العالم، ستكون لنا نافذتنا الأوسع، والمنفتحة على تراثنا، وحاضرنا، وغدنا، نافذة يكون فيها الرائي، والمرئي، هو "إنساننا" الذي تمتد جذوره في الزمن لآلاف السنين.