رسالة الفنان الهندي جيريش كارناد

2002

إن أحد أقدم النصوص في العالم عن المسرح هي الرسالة المطولة «ناتيساسترا» التي ترجع إلى أبعد من القرن الثالث قبل الميلاد ويحكي الفصل الأول منها قصة مولد الدراما.

تقول الاسطورة أن العالم غرق في لجة من الانحطاط الأخلاقي، فأصبح الناس عبيدا لنزوات لا عقلانية. لذلك بات ضروريا البحث عن وسيلة من شأنها أن (تسر عيون الناظرين وتشنف الآذان، وفي الوقت ذاته تهذّب الأخلاق) لترتقي بسوية البشر. ولهذا فقد عمد الإله براهما إلى دمج عناصر من أسفار «فيداس» (النصوص المقدسة الأربعة) لوضع سفر خامس وهو سفر العرض، ولأجل تطويع الدراما فإن هذا السفر الخامس قد نقل إلى «بهارتا»، الكائن البشري. وعندها قام بهارتا بمساعدة أولاده المئة وبعض الراقصين الذين أرسلهم براهما من السماء، بانتاج أول عرض مسرحي، وشاركت الآلهة بحماسة في تدعيم الطاقة التعبيرية لهذا الفن الوليد.

كانت موضوعة المسرحية التي عرضها بهارتا تدور حول تاريخ الصراع بين، الآلهة والشياطين، واحتفالا بالنصر النهائي الذي حققته الآلهة، فأطرب ذلك العرض المسرحي الآلهة والبشر.

غير أن الشياطين المتفرجين ساءهم كثيرا ما شاهدوه فلجأوا إلى استخدام قواهم الخارقة لإفساد العرض عن طريق شل عناصر الحوار والحركة وذاكرة الممثلين. لكن الآلهة لم تسكت لها، فهاجمت تلك المخلوقات الشيطانية وأهلكت العديد منها.

ذلك أدى إلى فوضى عظيمة، فما كان من براهما المبدع إلا أن اقترب من الشياطين وكلمهم. قال لهم: إن الدراما تجسد حال العوالم الثلاثة. وهي تجمع ما بين الأهداف الأخلاقية للحياة ـ بجوانبها الروحية والدنيوية والحسية ـ وبين أفراحها وأحزانها. وليس هناك من حكمة أو فن أو عاطفة إلا وتوجد في الدراما.

بعد ذلك طلب من بهارتا إعادة تقديم العرض المسرحي. ولا ندري ما إذا كان ذلك العرض المسرحي قد أصاب نجاحا أو واجه الفشل، إن الباحثين الذين يعلقون على هذا الفصل من النص يسلمون جدلا بأن تلك الاسطورة إدانة للشياطين، فسلوكهم يدل على إخفاقهم في فهم الطبيعة الحقيقية للمسرح، وأصبح خطاب براهما في المسرح لب هذه الاسطورة.

ويبدو لي أن ذلك معناه الابتعاد عن الفهم الصحيح للأسطورة، فمن حيث المبدأ: إن عدم لجوء الشياطين للعنف البدني، واكتفاءهم بمهاجمة عناصر «الحوار والحركة والتذكر» لدى الممثلين، في العرض المسرحي، يظهر أن تلك المخلوقات تتميز بفهم دقيق لأهم مفاصل العرض المسرحي.

زد على ذلك: إننا أمام نص مقدس كتب ليعلمنا فن إنتاج العرض المسرحي وتقنيته، وهو يتحدث عن أول عرض مسرحي عرفه تاريخ البشرية. إن براهما المبدع ذاته، ضالع بهذا المشروع، ومعه عدد من الآلهة الآخرين، والحوريات السماوية، والممثلين المدربين، فمن المفترض إذن ان يلاقي نجاحا مدويا، لكن الأمر تمخض عن كارثة بدلاً من النجاح.

إن ثمة ضمنية تجنب الدارسون النظر إليها هنا، وربما أنهم قد أربكتهم، ويقينا أن تلك المضامين قد أخذت تظهر في الجماليات الهندية الحديثة التي تؤكد بأن الغرض الرئيسي من المسرح هو عزل الجمهور عن العالم الخارجي وإغراقه في حالة مشتركة من الفرح.

ويبدو لي أن الأسطورة تشير إلى صفة أساسية في المسرح، لم تتمكن ملاحظات براهما المهدئة ربما أن تميزها، وهي أن كل عرض مسرحي ـ مهما بلغ من الحنكة والإبداع ـ يحمل في داخله مخاطر فشله، يحمل التمزق وبالتالي العنف. إن أقل ما يحتاج إليه العرض المسرحي الحي: الأداء الإنساني (أعني التظاهر بتقمص شخصية أخرى) ووجود من يتفرج عليه. وهي حال حافلة باللايقين.

إن العالم لم يعرف عبر تاريخه مقدار ما عرفه الآن من العمل الدرامي، فالإذاعة والتلفزيون والسينما والفيديو تغرقنا بالدراما. لكن بينما يمكن لهذه الأشكال الدرامية أن تشد المتفرجين أو تثير حفيظتهم، فإنه يصعب على أي منها أن يغير موقف المتفرج عن العمل الفني ذاته. إن أسطورة العرض الأول تظهر أن المسرح يشكل استمرارية، بل حالة من الاستمرارية التي ستظل دائماً ثابتة لا تتغير وفي ذلك يكمن زخمها التفجيري.

ذلك هو السبب في أن المسرح يوقع وثيقة موته حين يحاول أن ينشد لنفسه السلامة: ولهذا السبب فإن مستقبل المسرح وان بدا كئيبا في الأغلب فإنه يبقى حياً وقادراً على الإثارة.

جيريش كارناد ـ الهند

.................................................................................

جيريش كارناد في سطور

* ولد الكاتب جيريش كارناد عام 1938 في ماثيران (الهند) ودرس في الهند واكسفورد.

* عمل 7 سنوات في مطبعة أكسفورد بالهند، ثم استقال ليتفرغ للكتابة والسينما.

* أصبح مدير معهد السينما والتلفزيون في عام 1974 و1975، وهو الآن مدير مركز نهرو (الجناح الثقافي للجنة العليا الهندية) في لندن.

* يكتب كارناد مسرحياته بلغة الـ «زكاناداس» حيث يعيش وقد ترجمها إلى الإنجليزية. وكانت مسرحيته الثانية «توجلاق» (1966) قد جعلته كاتب الهند كلها. وهو كاتب مسرحيات «نجاماندالا» والنار والمطر وبالي الضحية.

* بين عامي 1987 و1988 عمل أستاذا زائرا في جامعة شيكاغو.

* قلّده الرئيس الهندي وسام بادما بوشان.

* أسس الأكاديمية الوطنية للفنون الحركية «سانجيت ناتاك» بين 1988 و1993.

* منح عام 1999 جائزة بهارتا جنانبيث، أرفع جائزة أدبية في الهند.

* في مجال السينما، أخرج جيريش عدة أفلام سينمائية ونال جوائز وطنية ودولية، كما عمل مع أشهر السينمائيين في بلاده.

 

*