رسالة مسرحي من بيت أكيتو
السومري في اليوم العالمي للمسرح 2015
أستاذ الأدب المسرحي الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي
في التاريخ الإنساني، كانت ولادة المسرحية أغنى تركيباً بنيوياً من كل تلك الآداب
والفنون التي سبقتها. وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بولادة دولة المدينة ومجتمعها. ومنذ
أكيتو حيث طقوس المسرح في مهد التراث الإنساني بسومر ومروراً بكل تلك المسارح
الإغريقية والفرعونية وعبوراً نحو المايا وحتى مسارح النو والكابوكي فالمسرحية
الحديثة، كانت المسيرة تعبيراً جمالياً غنياً ثرّاً عن الحياة بكل تفاصيل اليوم
العادي للإنسان.
فالاحتفالات الطقسية في بواكير ولادة المدنية، هي ما احتضنته المسارح التي ألبستها
الإنسانية احتراماً وقدسية مخصوصة. والسبب ذاته وإنْ كان باتجاه معاكس، هو الذي دعا
بعض البلدان وسلطاتها التي أرادت الانفراد بالسلطان والحكم بإسقاط القدسية على
نفسها وعلى قيمها؛ محاوِلةً بذلك إخضاع المجتمع لجبروتها. وتذكر البشرية أمثلة على
ذلك من مثل: منع النساء من المشاركة بمسارح الكابوكي وغيرها.. ومنع الفرق التي أدت
الكابوكي ومثل ذلك جرى في مسارح بمختلف أرجاء المعمورة بالركون إلى دوافع ومبررات
قيمية مضلِّلة، لم يكن جوهرها الحقيقي المتخفي إلا قمع الحقوق والحريات.
ولطالما شكّل المسرح الحديث تمسكاً، أبعد وأعمق، بقضايا الناس وحقوقهم وحرياتهم،
فخرجت المظاهرات بالمعنى الأوسع لهذا المصطلح لتكون هدير مسيرات المضطَهَدين ضد
الظلم وضد وحشية قوى الاستغلال وهمجيتهم. فكانت جماليات المسرح التي حملت مضامين
العصر ومعالجاته، تطلبت أنماط بنى دراميةٍ جديدة استدعت تكسير القيود التي حدّت
وتحدّ من آفاق التحديث والتطوير، وكان لابد من تجاوز ذلك باتجاه إبداع أجناس درامية
جديدة معبرة عن إبداع أبناء العصر وجمالياتهم.
إنَّ اتخاذ يوم عالمي للمسرح منذ أكثر من نصف قرن، جاء ليعبر عن شكل الاهتمام
القرين بالقدسية التي منحتها البشرية في بواكير ولادة هذا الفن الجمالي. ولهذا فإنّ
التوجه اليوم إلى الاحتفال المشترك لمجموع مبدعي المسرح في عالمنا وجمهورهم، هو
توجه يتابع مسيرةً إنسانيةً عمّدت احترامها لقيم الإبداع ومعالجاتها الجمالية بفكر
تنويري تتعاظم أضواءُ شموسه لتزيح حالات ظلام تجثم على كواهل بعض المجتمعات
والشعوب!
فها
نحن نشاهد كيف يجري تجريف الآثار البهية ومسارح التاريخ ومنجز شعوب شادت حضارةً،
كانت مهد التراث الإنساني.. مثلما جرى في أوروك وسومر ومؤخراً في آشور ونينوى!
وبالتأكيد سيكون علينا نحن منتجي فن المسرح أنْ يأتي ردُّنا مجسَّداً في مزيد منجزٍ
إبداعي جماليٍّ مسرحيٍّ يتناسب وتنوع ثقافات البشرية بعصرنا.
لقد برهن بقاء ألوان المسرح من أقصى شرق آسيا كما بالكابوكي والنو الموسيقي
والكيوغن واليونراكو مروراً بالمسرح الشعبي والحكواتي ومجالس التراث والظل وعبوراً
نحو مسارح أوروبا والأمريكتين، برهن على مصداقية التحدي الإنساني حيث التمسك بالقيم
الروحية وبالثقافة التنويرية التي ترفض الانغلاق والأحادية وتؤكد أنّ جماليات
الإبداع تبقى مرتبطة بقيم المدينة والمدنية، وبثوابت أنسنة وجودنا. وستسطع مجدداً
أضواء تلك المسارح من جديد.
وستعلو طرقات المسرح الثلاث مقارِعةً زمجرة الأسلحة والحروب، لتقدم رسالة إنسانية
سامية نبيلة، لا تكتفي بالدعوة لقيم الإخاء والتسامح والسلم الأهلي بل لتعمل من أجل
تحقيقها ونشر ثقافة روحية متفتحة متمدنة؛ هي ثقافة صنع الجمال والبحث عن وسائل
تحويله من حلم الإبداع المسرحي إلى واقع الإنسان وحقه في الأمن والأمان بعيداً عن
أشكال الاستباحة والاستغلال.
فمباركة رسالة المسرح والمسرحيين، ولتلتحم سمفونيتا أكيتو السومرية والنو اليابانية
ليترنم بها مجتمعنا المعاصر في ظلال السلام وإنتاج الجمال والخير؛ حيث أضواء المسرح
فكراً وفلسفة جمالية بديلاً لظلام كهوف الخراب والدمار؛ وحيث إشراقة الأمل بديلاً
للألم، يعود ليُحيِي في الأنفسِ كافةً، الأملَ.