التشخيص ومسارات الفعل الدراماتيكي الصامت

في مسرحية الرمضاني (هوو)

 1.   التشخيص و العنونة

  طوع المسرح،كغيره من الفنون الإبداعية،الحكايا ذات الطابع التراثي والمعاصر على حد سواء،وسخّرها لخدمة النص الدرامي الصائت،تحديدا، لاعتمادها كليا على فعل الحكي المنطوق المبني على أساس تصويت الكلمات التي تؤدي معنى محددا وليست مجرد أصوات منطوقة أو حروف مجردة؛وفي المسرح الصامت يمكننا أن نقدم حكاية ما ولكننا ما أن نضعها في إطارها الدراماتيكي الصامت فإننا نجردها من حكائيتها و نبعدها عن صفات الحكي بما يجعلها عملا مختلفا يوجب إيجاد مصطلح جديد له يتلاءم وطبيعة استخدامنا الجديد لهذه الحكاية أو تلك.

      إن مسرحية )هوو( لم تقدم لنا حكاية شخصيتها الرئيسة حسب بل قدمت لنا تاريخ البشرية بكل مراحل تطوره ابتداءا من أول رجل قضم التفاحة فحدث ما حدث وانتهاءًا بآخر ما توصل اليه التطور الناجز من طرق ووسائل وأساليب قهرية.وحسنا فعل الكاتب حين أطلق على هذه الشخصية اسم(هوو) فهو صوت واحد من ملايين الأصوات البشرية بغض النظر عن أهمية التسمية أو لا أهميتها لأن المسرحية الصامتة تستغني عن تسمية الشخوص إلا ما استثني منها لأغراض بيانية،أو نصوصية(نص صامت مقروء وغير معروض).إن(هوو)،في رأينا شخصية درامية وليست مجرد صوت يطلق في حالات الخوف والسعادة والدهشة..الخ.وعلى هذا الأساس تعامل المؤلف معها فوردت في نصه مرة كفاعل (يدخل هوو الى المسرح)أو(يتقدم هوو بحذر ليكتشف فائدة هذا الاختراع)،ومرة كمفعول به(يقفز جنديان ليعتقلا هوو)،ومرة كمجرور،وفي أغلب الأحيان كمبتدأ خبره جملة فعلية في محل رفع وهذه كلها توكيدات تشخيصية بحتة، ولم تطلق الشخصية هذا الصوت إلا في نهاية المسرحية على شكل صوت غنائي منغم(هووووووووووووو) كان يمكن الاستغناء عنه لو شاء المؤلف ذلك.إن ملاحظة المؤلف عن(هوو) كـ"صوت يطلقه البطل للتعبير عن حالات مختلفة"أربكت قارئها فحسبَ أن الشخصية كسرت حاجز الصمت الى النطق ليخرج بنتيجة أن المسرحية"قد لا تنتسب تمام الانتساب الى نوع المسرحية الصامتة".وهذا استنتاج خاطئ لأنها لم تستخدم كلمة(هوو)إلا مرة واحدة في نهايتها كما أسلفنا فضلا عن أن(هوو) صوت منطوق ليس له معنى محددا كما هو شأن الكلمات المنطوقة أولا، وأنها يمكن أن تستخدم أصوات بعض الحروف الممدودة كدالات لمعان يقتضيها النص الصامت أو العرض  ثانيا،كما يمكنها أن تستخدم بعض الأصوات التي تشخصن مصّوتها ولكن من دون اللجوء الى استخدام الكلمات المنطوقة أو غير المنطوقة ثالثا.

     لقد اشتغلت أغلب النصوص أو العروض الصامتة ومنها عروض الرقص الدرامي على تاريخ البشرية أو تاريخ الخليقة فجعلتها مادة أساسية وموضوعة أثيرة  بسبب خزنها لطاقات درامية قد لا نحتاج الى كبير جهد لتحريرها وتحويلها الى جنس درامي إبداعي صامت.

وهذا هو عين ما اشتغل عليه ناهض الرمضاني في مسرحيته(هوو)التي وان تشابهت موضوعتها،بشكل عام،مع بعض النصوص الصامتة مثل(حدث منذ الأزل)أو العروض الراقصة مثل(نار من السماء) و(2003 قبل الطوفان)إلا أنها اختلفت عنها بما يضمن تفردها وتميزها الواضحين.

2.   مسارات الفعل

       ظلّ النص المسرحي الصامت،وعلى الرغم من المحاولات الجادة لتجنيسه أدبيا،محددا بحدود الكتابة السيناريوهاتية.فهو فعل ووصف للفعل.فعل يحقق غاية ما أو هدفا ما عن طريق الحركة.وهو(أي السيناريو) في أحسن أحواله عبارة عن مختصرات ورموز.أما المسرحية الصامتة فهي تجاوز لهذه المختصرات وتلك الرموز وهي وصف عام لحالة الفعل،المضارع في أغلب الأحيان،ولمساراته الدرامية.وكلما أسهب النص في الوصف كلما ازداد اقترابا من الأدب المسرحي وعليه فان النص المسرحي الصامت الذي نبتغيه هو نص يزاوج ويصاهر ويماهي عددا من الفنون والآداب،كالسيناريو والقصة والفوتوغراف والشعر والاوكروبايتك والرقص..الخ،في بوتقته كحاضنة لكل تلك الفنون.

السيناريو يحدد المسارات الدرامية والقصة تحدد المعنى العام للنص والفوتوغراف يجسد صور تلك القصة عن طريق الجسد الذي يشتغل على الحركة والإيماءة والاكروباتيك والسيرك والرقص الدرامي..الخ.

    في مسرحية (هوو)اشتغل الرمضاني على كم هائل من الأفعال تصدّرها فعل مضارع رئيس هو(يدخل) والدخول هنا محدد بجغرافية المسرح وبمساحة خشبته. فالرمضاني لم يهتم،وهو يكتب هذه المسرحية،بمسألة (التجنس) أو بغيرها،ولم يهتم بالفضاءات الأدبية أو بغيرها،أراد فقط أن ينتج عملا فنيا وقد أنتجه بطريقة جميلة،الفعل(يدخل)إذن هو حركة وصول الغايةُ منها زج الداخل في لعبة النص أو العرض وسيقوم عن طريق الأفعال التكميلية بإنجاز معاني النص وبيان فكرة حتمية التطور وتأثيره سلبيا على الكائن البشري.

لنتابع الآن مسارات الفعل (يدخل) في نص الرمضاني (هوو).

 يبدأ النص)في حالة القراءة(أو العرض)في حالة المشاهدة (بدخول(هوو)الى خشبة المسرح ليقوم بسلسلة من الأفعال التكميلية وعلى الوجه الآتي:

يدخل (هوو)

يتلفت>>>> يتأمل>>>> يتحسس>>>> يقطف>>>> يتذوق>>>> يأكل

 (وتمثل هذه الأفعال فطرية اكتشافات(هوو) لبيئته الجديدة)

يدخل خروف ثم قطيع كامل من الخراف

يقترب منه بحذر>>>> يمسد عليه>>>> يلاعبه

يدخل أكثر من شخص

يتظاهرون بقطع النباتات الصغيرة>>>>> يزرعون أشجارا مثمرة               يتأملهم>>>> يشعر بالجوع>>>> يحاول قطف ثمره>>>> يضربه الفلاح على يده>>>> يقايض الثمار بالمال.

       (وتمثل هذه الأفعال بدء الزراعة والمقايضة.)

يدخل رجل

يضع عجلة>>>> يقوم بدحرجتها>>>> يساعده(هوو)في صنع دولاب الخزفيين>>>> يصنعان آنية خزفية

       (وتمثل هذه الأفعال تدشين مرحلة الصناعة البدائية.)

يدخل رجل آخر

يمسك لوحا>>>> يكتشف الكتابة المسمارية

    (ويمثل هذان الفعلان بدء تعلم الإنسان الكتابة على ألواح الطين المفخور.)

تدخل المجموعة

 تحاول سرقة المحصول>>>> تقتسم الأرض >>>> تضع الحدود تتصارع من اجل زيادة مساحتها ثم تطفأ الأضواء و يسدل الستار على المشهد الأول أو على مجموعة الأفعال الأولى لتبدأ بعدها مجموعة الأفعال الثانية بدخول التمثال كقوة مادية و روحية .

يدخل تمثال
يسير على عجلات>>>> يصابون برهبة>>>> يركعون>>>> يأمر بإبعاد الأسوار>>>> يستحوذ على معظم المساحة>>>> يتذمرون ولكنهم يبقون راكعين.

و تمثل هذه الأفعال والأفعال التي تليها بدء تطور و نمو الشعور الديني من الوثنية الى التوحيد أما بقية الأفعال فتمثل في مجملها عمليا الدخول الى العصر الحديث ابتدءًا من عصر النهضة الصناعية وانتهاءا بالمعارك الطاحنة التي استخدمت آلات الدمار الثقيلة واختلاط كل الأفعال مع بعضها في ضجيج عالمي وزعيق تنافسي واحتراب نفسي خرج منه (هوو) بساقين مبتورتين وشعور أجج في نفسه الرغبة في  ملاحقة الفراشة مرة أخرى ومتابعة مسرى النور وصوت الطيور وإيمان بالخلاص وهو يغني بسعادة(هووووووووووووو) فتنغلق المسرحية على نفسها أو على فلك دائرة زمانية بدأت بنقطة معلومة وانتهت،بعد لأي،بالنقطة نفسها.لقد استخدم الرمضاني الفعل(يدخل) في مسرحيته للدلالة على بدء المراحل التاريخية وما اتصفت به كل مرحلة على انفراد.وسنجد انه استخدم هذا الفعل (13) مرة ليغلق مسرحيته،بدافع التشاؤم،على نفسها في دائرة تسترجع البداية وتتماهى مع النهاية.وقد برر الرمضاني هذا الإغلاق وهذه العودة بما ألحقه التطور من عاهة مستديمة بالإنسان وشعور متفاقم باليأس وارتداد قهري.

       ان مسرحية(هوو) رحلة مكثفة ومختزلة من الصمت والدوار في حقيقة التطور البشري والحضاري الناجز وتأثيراته،شكلت بكليتها رؤية متكاملة للعالم،واستبصارا لمستقبله الضبابي ودعما فنيا مساندا للمحاولات الجادة التي قمنا بها بغية تجنيس المسرحية الصامتة تجنيسا أدبيا يمنحها القدرة على التحول الى نص قابل للقراءة الأدبية من على الورق.وعرض قابل للمشاهدة الحية من على خشبة المسرح.وهي واحدة من الصوامت التي استكمل المؤلف فيها أغلب شروط وقوانين المسرحية الصامتة،المجنسة،المحدثة والجادة في آن.

*