قراءة الصمت في مسرحية ( عندما يرقص الأطفال )

لصباح الإنبارى

بقلم / سعيد رمضان على

1.مدخل القراءة

ساد تفاؤل في حركة المسرح في فترة من الفترات، تحديدا فترة المد الثوري.. عقبها في العقود الأخيرة حالة تشاؤم.. وفى الحالتين كانت النظرة للمسرح يشوبها قصور.. فالتفاؤل الذي ساد فترة المد الثوري حمل مضمونا اجتماعيا محاصرا في ذاته لكن هذا المضمون الاجتماعي أغفل حالة الإنسان الأساسية بتجاهله التناقض بين مطلب التغير ومطلب الثورة وحركة الواقع.. أما حالة التشاؤم فهي رد فعل لانسحاق الآمال والأحلام..!!

ومجمل الأزمة: أن سد التناقض بين مطلب التغير وحركة الواقع.. لن تتم إلا بامتلاك الإنسان المبادرة في جدله مع العالم.. وهو جدل يقوده أبدا إلى أبعاد ثورية  ترفض التكييف مع الواقع.. تلك هي المشكلة باختصار.. وعندما نطرح السؤال عن (هوية المسرح العربي) تتعدد الإجابات  التي تبتعد عن حقيقة الأزمة، والإجابة المترسخة في الأذهان أكثر من غيرها أن السؤال عن هوية المسرح  العربي تستدعى سؤالا عمن نكون؟

طبعا إجابتنا الجاهزة أننا عرب نتكلم لغة عربية ولنا تاريخ مشترك..!!!

وهو ما يعمق أزمتنا ويبعدنا عن أيجاد هوية حقيقية لمسرحنا.. لأن الأسئلة الحقيقية المطروحة في مواجهة مع المصير: ماذا نقدم؟ وما هي ثقافتنا ومعرفتنا.. وما نملك من أبعاد ثورية تسمح لنا بتجاوز الواقع، والثورة عليه، وليس التكيّف معه والنوم بجمود في أحضانه.؟؟

وإذا كان تطوير المسرح العربي (الصائت) والنهوض به هاجس يؤرِّق المهتمين بالمسرح مع كل تلك التجارب المسرحية، والتراكمات  التي سمحت برسو  بعض التقاليد من خلال تراث مسرحي ربما لا يكون عريقا.. لكنه تقدم بخطوات نحو التأصيل، فماذا يكون الأمر  حول المسرح الصامت وهو بلا تراكمات أو دعائم  أو تاريخ أو تراث أو ترجمات؟؟

أن أحلامنا بمسرح عربي، لن تتحق بدورانها حول الحلم.. أو بمجرد الدعوة إلى النهوض.. فالمبادرة، والضرب في مجاهل المجهول بشجاعة أبدا، هي التي  ترسو بأحلامنا على شواطىء الجزر.. وهذا أمر بالغ  الأهمية..! لأن المبادرة الفردية عندما تنحو لمصلحة الجماعة  تصبح بالغة السمو.. وقد تقدم صباح الإنبارى بهذه المبادرة من خلال مسرحياته الصامتة التي سنتناول أحدهن بالقراءة.. وإذا كان فن  المايم قد دخل في بعض المسرحيات، أو قدم في عروض منفصلة فمن أجل تقديم صور لتعبيرات نفسية.. لكن هذه الصور من المايم  لم تتناول مشكلات الحياة  كما تفعل المسرحية الصامتة.. وهذا هو الفرق.. مع الاعتماد على إيقاع معين، وحركات دقيقة.. وبدون ذلك تخرج المسرحية الصامتة من مجال المسرح وتسقط.. فالمسرحية الصامتة لها لغتها، لكنها لغة المقصود بها  تمكين الممثلين  من نطقها بأجسادهم  لتجسيد شخصية ما، ولغة الصمت التي تمتزج مع الإيماءة لها حضورها الخلاق.. لكنه حضور يعتمد القدرة على التجسيد لأن الإيماءة  العميقة هي التي تملأ فراغ اللغة المنطوقة في لحظات الصمت الدرامية .

 أما الإرشادات المسرحية التي يضعها الكاتب بين قوسين في المسرحية الصائتة بلغتها المنطوقة.. فهي إرشادات تكون موضوعة في المسرحية الصامتة بشكل عضوي..  وملتحمة التحاما عضويا مع أول حركة في النص. 

وتكتب المسرحيات بشكل عام لتمثل.. لكن (شو) هو الاستثناء العظيم لهذه الفكرة.. لأن قدرته على الوصف في الرواية هي التي جعلت مسرحياته صالحة للقراءة.. وعندما نتجه للمسرح الصامت باحثين فيه عن مسرحية لقراءتها نجدها في  مسرحية (عندما يرقص الأطفال)- مع اعترافنا بقصورنا في الإطلاع على كل ما ينشر- لكن  عند تناول المسرحية  نقديا.. تواجهنا صعوبة.. فما هي الأسس..؟ وكيف نبدأ ومن أين؟ وما هو المنجز السابق الذي نعتمد عليه في  التناول النقدي؟ لا شىء من ذلك موجود.. سواء كان منجز أبداعي في مجال  النص المسرحي الصامت، أومنجز أبداعي  في مجال نقد المسرح الصامت.. سواء في مجال التنظير، أو في مجال التطبيق.. وإذا كان صباح الإنبارى قد تقدم ضاربا  في أعماق المجهول بمبادرته الرائعة أبدا فسنحاول مجاراته بعض المجاراة مدركين أن الخطأ محتمل، والانحراف عن الطريق بدون علامات هادية أمر وارد.

  

2. قراءة الصمت:

يعود بنا المبدع صباح الإنبارى عبر صمته المعبر أبدا.. والصارخ أبدا.. إلى شاطئ المجهول.. للبحث عن حقيقتنا الأصلية.. إلى البداية الحقيقية لحياتنا ومصدر طبيعتنا ومطلبنا في الحرية.. تلك الحرية التي هي مصدر الجدل المفتوح أبداً.." بإزاء الإنسان  قاضيا ومجرما.."  ضعيفا ووحشيا ..إنسان يعانى من شر غير مبرر، يعيش في زاوية مظلمة، محاولا استشراف قبس من ضوء في ظلام حياته المخيف، يعيش تاريخا مغطى بالدم والموت والنهب، وعالما تسيطر عليه الوحشية التي باتت تعيش على المادة متغلبة على الروح، قاضية على الحب بالموت.

وفى مسرحية (عندما يرقص الأطفال) التي تضم طائفة من التعاملات عن الموت والخلود، نسير مع انكيدوا وجلجامش، وقلوبنا تخفق بالأمل المعذب أبدا، والحب الظامىء للحياة، حتى يتضح أن الوجود الإنساني في الواقع والمصير، لا تتحقق مواجهته إلا من خلال مقاومة جدلية.. والصراع الأبدي بين الخير والشر، وبين الإنسان والعالم بما فيه من حيوانات، وطبيعة، وبشر حيث تقوم حركة الوجود الإنساني في جوهرها صدورا عن العذاب والألم.

لا يقدم لنا صباح الإنبارى مسرحية صامتة.. بل يقدم لنا ملحمة تطل علينا في كل عصر  مازجا الواقع بالأسطورة، والحلم والاجتماعي بالسياسي.

لنتأمل المشهد الافتتاحي :

"يرفع الستار فنرى على الخشبة أشجارا تشكل مع الخلفية ما يشبه غابة الأرز.. يدخل- مع بدء الموسيقى- أطفال يرتدون الملابس البيض القصيرة - وعلى ظهورهم أجنحة صغيرة من يسار المسرح- وآخرون يرتدون ملابس عصرهم التقليدية من يمين المسرح.. يرقصون رقصة الملاك والبراءة.. يدورون.. يتقافزون.. يشكلون حلقة تدور حول نفسها.. ينفرد ثلاثة منهم.. يؤدون حركات انفرادية داخل الحلقة.. يلفت انتباههم شيء قادم من بعيد.. يبطئون الحركة.."

أن تلك الحركة للأطفال هي تشكيلات جمالية تعوض عدم استخدام الحوار التقليدي. تشكيلات تؤكد على قيم الجمال والحرية والبراءة.. ثم يأتي  (شواف/ سماع/ شمام) ومع أداء أدوارهم بطريقة كاريكاتورية.. نشعر فورا أنهم جواسيس الحكومة، ورجال أمن السلطة الموجودين أبدا في كل زمان، ومكان.. في كل شارع، وكل زقاق، وكل حي.. يطفحون بعفونتهم أثناء قيامهم بدورهم التقليدي في تدمير الحب، والجمال، والمبادئ، والأخلاق، والضمير.. تلك التي وجدت عبر دروب من الآلام، وبدايات التجربة الإنسانية.. وقد جسد الكاتب كل ذلك في الطفولة البريئة، والثياب البيض التي ترمز للسلام بأجنحتها المحلقة.. فكأننا أمام ملائكة في مواجهة شر قاسٍ يحاول العصف بهم.. ويبلغ الصراع ذروته بين الأطفال، وبين شواف وسماع وشمام أثناء المطاردة على خشبة المسرح.. وكما تقدم صباح الإنبارى بمبادرته (بمسرحيته) فهو يتجاوز أيضا في المسرحية الدور التقليدي الذي يوضع فيه الأطفال بإشراكهم في مسرحية  صامتة مقحما إياهم في الحياة متجاوزا  إطارهم المحدد.. وربما يكون الإطار هنا رمزي .. فالواقع في صورته المحددة والكئيبة يتم تجاوزه من خلال أرادة الأطفال.. لكن قوة النص الفعلي لا تظهر إلا مع الأساطير النقية بسحرها الذي يمنح الطاقة المحركة للوجود.. وهنا تتحقق إرادة أخرى.. إرادة  خارقة  توّحد  الروح النبيلة التي يمكنها أن تقف ضد الشر.. هكذا يظهر كلكامش وصديقه انكيدو من أعماق الأساطير كأننا أمام  نسيج متداخل من  الخيالي والواقعي.

لنتأمل هذا المشهد:

"تفتح الأضواء تدريجيا.. انكيدو وكلكامش ممددان على الأرض، وخلفهما على (السايك) صورة جبل تغطي الخلفية كلها.. تدخل امرأة متقدمة في السن ذات هيئة أسطورية تحمل بيدها اليسرى قنديلا، وفي اليمنى مبخرة تضعهما قرب رأسي البطلين ثم تتقدم إلى أسفل وسط المسرح.. تركع خاشعة متضرعة متوسلة رافعة يديها صوب السماء، ومتمتمة بطريقة طقوسية.. تنهض.. تحمل المبخرة، وتدور بها حول البطلين ثم تنسحب نحو المكان الذي أقبلت منه بهدوء يليق بالآلهة.. يصحو كلكامش ببطء.. ينظر إلى صديقه.. يمد يده إليه.. يوقظه.. ينظر أحدهما في عيني الآخر ثم ينظران معاً إلى القنديل، والجبل.. يقفان.. يتأملان المكان.. يأخذان القنديل، ويتجهان نحو أعلى وسط المسرح بينما تختفي الإضاءة تدريجيا، ويظلم المسرح لحظة بلوغهما ابعد نقطة في أعلى وسط الخشبة" وهو مشهد رمزي لحلم  تضمن  في الأسطورة التي وصلتنا، من خلال  التراث، ورؤية تؤكد على انتصار كلكامش  وانكيدو على الشر/ الظلام.. فالقنديل رمز لنور يفسح المجال للرؤية الحقيقية في دروب غير واضحة، وغير يقينية.. وهو ما تحقق فعلا في الأسطورة.. وتحقيقه على أرض الواقع يعنى تجاوزا لهذا الواقع، وليس الوقوف عنده.. فالصراع  ضد القهر، والظلم، والشر، والظلام هو "البداية  دائما والضرورة، وهو الأساس الذي لابد من التسليم به لإدراك معنى تجاوز "لحظة الخوف، والجمود، والموت..والتاريخ المحاصر أبدا بعقم فريد من نوعه.. إن ذلك لتأكيد فذ وعظيم للإنسان في وجه العالم، وأمام معنى وجوده، وقوام الوجود ومصيره، وهو ما يعنى بالأجمال حريته.. وهو ما تحقق في النص المسرحي  (عندما يرقص الأطفال)

ولنتأمل هذا  التحقق في نهاية المسرحية:

"تعزف الموسيقى.. يبدأ الأطفال بالرقص، ومع كل دبكة يدبكونها يتلوى خمبابا متألماً، ومنزعجا، ولا يطيق رقص الأولاد فيهرب، وهو يجر أذيال الهزيمة إلى خارج المسرح.. يرفع البطلان قبضاتهما إلى الأعلى ثلاث مرات، وهم يهتفون مع كل رفعة (هيه) يكرر الأطفال هتاف الأبطال ثلاث مرات قبل أن يسدل الستار، وتفتح الأضواء في الصالة. "

وإذا كانت الحرية، والقضاء على الظلام تم في المسرحية مع تجاوز الواقع، فان إسدال الستار، وفتح أضواء الصالة يشي برغبة عميقة لدى الكاتب في أن يتم التجاوز، والقضاء على الشر، والفساد، والظلام على ارض الواقع فعلا.. ولكن الكاتب أكثر نضجا ووعيا.. لأنه لم يقتل (خمبابا) في نهاية المسرحية.. بل جعله يهرب مبتعدا.. فالانتصار ليس ساحقا وحاسما.. فالصراع بين الخير، والشر قائم أبداً.. وهروب (خمبابا) دون قتله هو في عمقه أكثر صدقا، ودلالة على جوهر الحياة وطبيعتها.

 

نحن أمام دراما صامته تنطق بغير الصمت..!! بل بحياة صاخبة على المسرح هناك النور، والظلال، وموسيقى تجلب معها الحزن والأسى، والنصر، والفرحة، والخوف،  والشجاعة.. ويظهر الممثل ليعبر عن إشارات كونية.. كالحب، والشجاعة، والأخلاق، والظلم، والدمار.. "ومن خلال كل حركة من حركات الممثل يجلب  إلى القارىء " خيالا فوق خيال، وفكرة وراء فكرة..ومع دقة حركات الممثل  نقرأ ونثار ونتمتع بسبب  ذلك البهاء الكامن في حركاته، ومواطن السحر فيها أنها توحي لنا  بهمس رقيق يتجاوز الأذن، ويستقر في القلب، ويثير الخيال مع اهتمام عميق بمصير هؤلاء الأبطال، وأحلامهم التي هي أحلامنا.. لقد عشنا هويات الأبطال (كلكامش وانكيدو) كأننا نعيش تداخلا مع هويتنا الشخصية.. فكأن كلكامش وانكيدو هما نحن.. هما أنا.. هما حلمي، وآمالي وأحلامي.. وفى الوقت ذاته كان هناك كلكامش وانكيدو.. يشقان طريقهما في الظلام حاملان شعلة الأمل.. ويفيضان ببهاء مبطن.. يحاربان الشر، وينتصران عليه.. ها أنا انسج نفسي في نسيج النص، أو كأن النص ينسج نسيجه بمشاعري، ورغباتي، وأحلامي.. وها أنا أضيع في جو النص كأني واحد من شخوصه.. أريد تدمير الشر، والقضاء على الإحباط الذي يخنقني.. محققا أحلامي.. في حرية بلا قهر، ولا سجون، ولا معتقلات، ولا فقر.

 

-----------------

هوامش ومراجع :

1)  عندما يرقص الأطفال  - صباح الإنبارى – موقع مسرحيون  على الرابط :

https://masraheon.com/old/phpBB2/viewtopic.php?t=6426

2)-  نحو تراجيديا معاصرة – يسرى الجندي – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006

3)  الخيال -  د. شاكر عبد الحميد – سلسلة عالم المعرفة - 2009