فن التمثيل الصامت (الميم) في العراق

 للسنوات 1919-1998

 مارسو:

   " أنا سجين حرفتي، فالناس لا يرغبون برؤيتي وأنا أتكلم على الخشبة"!

علي مزاحم عباس

 مقدمة:

            بادئ ذي بدء ينبغي المصارحة بان محتوى هذه الدراسة هو ثمرة معطيات امتلكتها شخصيا واطلعت عليها في أرشيف المسرح بدائرة السينما و المسرح فلمنتسبيه الشكر والامتنان.وثمرة مشاهدات ما وسعتني المشاهدة. وان أول صعوبة تقابل الباحث- كحال أي باحث- هي قلة المصادر.. و بتخصيص أدق غيابها القسري.. و لان نشر نصوص هذا الفن العصي، لا يجد هوى لدى معظم منابرنا الصحفية.. إلا في السنوات القليلة الماضية، و لان العديد من فناني (الميم) عندنا يجيدون فن التشخيص أكثر من إجادتهم لفن الكتابة وهكذا انتصبت أمام هذه الدراسة صعوبة أخرى.. فضلا عن أن معظم هؤلاء الفنانين المولعين بفنهم، يؤثرون أن تتحدث أعمالهم نيابة عنهم .. وكثيرا منهم ما إن يغادر معهده أو كليته الفنية حتى تراه مديرا ظهره لعشقه إبان سني التلمذة .. أما انشغالا بلقمة العيش أو فقدان الثقة بالمواصلة.. فيرى أن ذمته قد برئت بعد ان أدى قسطه من رحلة التعب السعيد في سنوات عمره الأولى..و لعل القاريء وهو يقرأ عنوان الدراسة، قد انتبه الى استعمال مصطلح (الميم) قليل الرواج بدلا من مصطلح (البانتوميم) المشهور حتى اللعنة.. و اعترف باني منذ ان كتبت عن هذا الفن حتى آخر مقالة سبقت الدراسة، قد أسهمت أكثر من  غيري في ذيوعه الجارف.. وها انذا احصد ما زرعت يداي.. فقد بات عسيرا، ان لم يكون مستحيلا، العودة الى الأصل.. و مما يزيد الامر تعقيدا ان بعض المصادر المترجمة يستعمل مصطلح البانتوميم و هي تعني العكس تماما! وفي ظني ان مرد هذا الخلط يعود الى المترجم أحيانا والى المؤلف في أحايين أخر..

        ان (البانتوميم) مشتق من الكلمة اليونانية pantomimus  وقد وضع ليعني " التمثيل الإيمائي" الذي يطلق "على المواقف الصامتة في المسرحيات الحديثة والتي يقوم بالتعبير عنها (المواقف) حركات الممثلين الجسدية التي لا تصاحبها الكلمات "كما يقول د. إبراهيم حمادة في معجمه ( ص113) أي بوضوح أكثر يطلق على المواقف الصامتة في المسرحيات الصائتة. أما (Mime) فيرجع أصله الى الكلمة اليونانيةMimus   أي "المحاكاة" فبات يعني في العصر الحديث "أداء تمثيليات بلا كلمات، تعتمد أولا وقبل كل شيء على التعبيرات الصامتة التي يمكن أن تؤديها حركات الجسم "على حد قول حمادة أيضا ( ص305).

 

إطلالة تاريخية

       يرجح مؤرخو المسرح أن حضارات الشرق القديم في مصر والصين واليابان، قد عرفت التمثيل الصامت مثلما عرفته اليونان، فهو فن عريق عراقة الحضارة الإنسانية رغم ارتباط سمعته بالعبيد والعتقاء مما حفر بينه وبين الشعراء و الفلاسفة حفرة واسعة لم تردم إلا بصورة محدودة ومتأخرة!

 

وبعد اليونانيين عرفه الرومان، فكان "يمثل الرجال ادوار النساء كما هو الحال في المسرحيات الصائتة" (1) و ساعد على انتشاره بينهم الحجم الكبير لدور التمثيل. و من البديهي انه كان من الأيسر على المشاهد أن " يرى" من أن "يسمع" فكان الممثل" يضع قناعا و يعتمد بصفة خاصة على حركات الأيدي والأصابع، و حين ظهرت النساء على المسارح الرومانية حمل عليهن الكتاب المسيحيون الأوائل بعد أن ظلت قائمة طوال العصر الوثني" (2). وبعد القضاء على المسارح الصامتة انتشرت فرقها في أرجاء الإمبراطورية. فكان الممثلون الرواد الأوائل هم الممثلون الجاهلون خلال القرون الوسطى، و كانت عروضهم في أوج عظمة الإمبراطورية سلوة الجماهير الفقيرة. والشكل الفني الذي اتخذته عروضهم هو "أن يعبر فيه الراقص الواحد بمصاحبة الجماعة المنشدة والآلات الموسيقية- عن شتى العواطف و المواقف و الشخصيات باتخاذ مختلف الأقنعة و المحاكاة البارعة للانفعالات، وخاصة ما يتصل منها بالأشواق الحسية و الشهوات الجسدية" (3) و رغم شعبيته فانه لم يعدم وجود من يكن له و للملاهي الشعبية الأخرى، الاحتقار والعداء واشهر من فعل ذلك الإمبراطور الفيلسوف (مرقص اوراليوس) (161-180م) (4) وأتباعه الفلاسفة الرواقيون والكنيسة هي الأخرى قد صبت لعنتها على المسارح الهزلية عامة.. فقد استفزتها جرأتها في التعرض للشعائر الدينية، و "بلغ من رفث القول و فحش الإيحاء و خلاعة الحركة حدا لا يمكن أن يسكت عليه دعاة الدين الجديد" (5) وليس هذا حسب، بل كان الممثلون الجائلون يشغلون الناس عن حضور الطقوس الدينية، فعمدت الكنيسة، بعد أن سادت المسيحية، الى مطاردة الممثلين والممثلات(6) واضطهادهم.

       ومن ناحية أخرى ، اعتبر الباحثون أن كوميديا الفن هي طليعة الدراما "بل وبالنسبة الى كل أنواع الفن هي طليعة الدراما" بل وبالنسبة الى كل أنواع الهارليكان والبانتوميم والمسرحيات الصامتة الحديثة" (7) فقد ظلت شخصية الهارليكان و لعشرات السنين جزءا تقليديا من المسرحية الصامتة الحديثة، إذ انتظم في العروض الحديثة القائمة على قصص الأطفال وفن (البورلسك) ! وهو فن قلب الأوضاع حيث يبدو الجاد في صورة هزلية، و الهازل في صورة جدية.. مقتربا بذلك من فن (الفارس) (8).

 

فن التمثيل الصامت في العصر الحديث!

       حقق فن التمثيل الصامت في القرن العشرين تطورا عاصفا، فنشأت عنه مدراس و اتجاهات شتى وأساليب مختلفة في حدود المدرسة الواحدة.. مبرهنا على قوته، فلم تعد تقف في وجهه أي صعوبة حين يقتضي الأمر التعبير عن الاعمال العظيمة من مسرحيات وملاحم ومقطوعات موسيقية. وبات بمقدوره اقتحام ميادين جديدة بكل ثقة و اقتدار وامتياز، فلم يقنع بتقديم المسرحيات المكتوبة كدراما، بل قدم الرسامين الكبار والموسيقيين المعاصرين، فتحول جسد الممثل الى أزميل ينحت الأشكال العظيمة، و فرشاة ترسم اللوحات الرائعة ووتر يعزف المقطوعات الجميلة بأعذب الألحان وأروعها! وأمكن تقديم الكلاسيكيات القديمة.. فوجد يوربيديس وشكسبير وغيرهما ممهدا الى عالم الصمت الفصيح وعولجا بنفس معاصر وإنساني.

       وقد شهد عام 1957 تجربة عالمية مثيرة للدهشة حين أسست مجموعة من الشبان الصم والبكم، بمبادرة من الأخوين ميروسلاف وثاديوس اوستاشكفتج، فرقة تعرف اليوم باسم "مسرح اولز شتاين الإيمائي" اتخذها البولنديون أصحاب التجربة جسرا للاتصال الإنساني الحميم حين عرضت أعمالهم في العديد من بلدان العالم. فهدمت جدران العزلة والكبت والعقد والشعور بالعزلة. وأثبتت هيمنتها على مفردات بليغة و بالغة الحيوية في التعبير عن مشاعر الممثلين والمتفرجين المعاقين وتصوراتهم للحياة ورؤاهم لحقائق الأشياء.. فكانت لغتهم حسية ومفعمة بالتعاطف والمشاركة.. وعقدت صلاتهم ببني البشر الناطقين!

       ويجد الأطفال في هذا الفن متعة كبيرة مثيرة لخيالاتهم وحاسبة لأنفاسهم. فلا عجب أن يعرف عصرنا ثورة فنية درامية مثلما يشهد ثورة عاصفة في العلم والتقنية ولا غرو أن يتطور تطورا متوازنا متسقا في جميع أرجاء العالم المتمدن. ففي بولندا أسس توما شيفسكي أول مسرح للفن الصامت عام 1956. اشتمل عرضه الأول على أربعة فصول مستقاة من (المعطف) لغوغول و(احدب نوتردام) لهيجو ومن اعمال أدبية بولندية.. وسمي مسرحه ["مسرح مروتسلاف للبانتوميم" وتحول الى مسرح حكومي محققا منذ ذالك العام نجاحات باهرة توجت بتقديم "جلجامش" درة الأدب العراقي القديم. فمسرح توما شيفسكي يقوم على التكنيك المعقد والرقص والحركة لبلوغ هدفين متلاحمين وتحقيق طموحين، هما: "تجاوز حواجز اللغة، وتوسيع الطريق لفهم الإنسان والعالم" (9) وفي ألمانيا ( الديمقراطية سابقا) أسس جيرد جلاته بمدينة روستوك عام 1968 وبتأثير إحدى تلميذات الممثل الفرنسي مارسيل مارسو، فرقة للهواة اتخذت (مسرح كلايتس هاوس) مقرا لها. وتتميز أعمالها بالمشاهد الصغيرة والدراسات والتدريبات البسيطة التقليدية، والسعي لإيجاد طرق جديدة. كما قدمت الفرقة العديد من العروض اشهرها "أنشودة انغولا" أو "الغول البرتغالي" و "حديث فيتنام" لبيتر فايس جمع فيها المخرج بيرتن ما بين العناصر الفنية المختلفة من موسيقى وأغنية ومشهد درامي وتعليق مع غلبة الفن الصامت. (10) أي قدم فن البانتوميم!

       أما بريطانيا فقد عرفت هذا الفن منذ قرنين ويزيد، غير انه لم يأخذ أسلوبا ثابتا وشخصية مستقلة، إلا منذ القرن التاسع عشر (11) ولسنوات قليلة كان جمهوره مقتصرا على الأطفال حتى استطاع اجتذاب الكبار(جون مورلي) الملقب بملك المسرح الإيمائي. وبدأ حياته الإيمائية مستقصيا نصوص مسرحه من القصص والحكايات القديمة، إلا أن بعض المسرحيين الطليعيين عمدوا الى عصرنتها بأساليب ورؤى مختلفة فاستهوت الكبار وأسرت الصغار. ومن المؤكد أن هذه ليست كل البلدان التي تحتضن فن الإيماء.. تتميز التجربة الفرنسية باتساعها واجتهاداتها وبعلمين بارزين من اعلامها، هما، جان لوي بارو ( ولد عام 1910) ومارسيل مارسو(ولد عام 1924) ولا يزال يمارس الفن.. وقد وجدت ضرورة الوقوف عندهما وقفة مفصلة بعض الشيء خاصة مارسو لما تركه الاثنان من اثار عميقة على تجربتنا الوطنية.

 

بارو:

قدم جان لوي بارو خلال عشرة أعوام تمتد بين 1947 و1957 ثلاثة اعمال فقط، لعب في إحداها دور (هارليكان) الشهير. وقد تذرع بارو رغم موهبته العظيمة، بصعوبة تقديم اعمال صامتة معاصرة، لان هذا الفن هو " فعل قبل كل شيء، فعل يدور في لحظة ما، هذا الفعل ينبغي على الفنان أن يوضحه بقدراته ومواهبه التمثيلية" (12) و يضيف مؤكدا، إن كل نصف ساعة من التمثيل الصامت بقدر مسرحية ناطقة ذات خمسة فصول! وهو من جانب آخر ينتقد نفسه و يصمها بالتقصير مؤكدا أن الفن الحديث يتميز عن القديم بتقديم "الحوار ذي الطبيعة الصامتة" (13) ومضيفا بأنه يسعى "لإيجاد الطرق والوسائل الجديدة التي تعتمد على عناصر تكنيكية جديدة" (14) ولا ينبغي على الفنان الصامت أن يكون ممثلا مشوها تنقصه المهارة، بل عليه أن يكون امهر من الممثل المسرحي الاعتيادي، وتكون حركاته وإشاراته واعاداته بسيطة ومقنعة ومعبرة. ورغم ما يبديه بارو من تواضع فانه يعد بحق واحدا من أعاظم مؤسسي هذا الضرب من الفن!

 

مارسو:

لقد انزل مارسيل مارسو العظيم الكلمة المنطوقة عن عرشها المسرحي ليأخذ الصمت، تلك القوة الآسرة، مكانها ولتلتحم عناصر الصمت والحركة بخيال المتفرج في دائرة محكمة. عندها يصبح الخيال جليا واضحا متخليا عن طابع المجرد. ولا يتحقق هذا الإعجاز إلا إذا كانت الحركة مصقولة بأزميل نحات بلا حشو ولا فراغات خالية من المعنى. فكم هو صحيح وبليغ ما أفصح عنه مارسو: شيطان هذا الفن وسيده(15) بهذا الخصوص من أن سر النهضة المعاصرة للفن الصامت في فرنسا الثلاثينات، يكمن "باتحاد فن النحت عند رودان وتأثيرات فن الباليه الروسي" (16) تم ذلك على يدي أستاذه (دوكرو) " فتى البانتوميم المعاصر" كما كان يوصف بحق!

       ومن الصحيح كذلك أن فن (الميم) في أصله شكل من أشكال التعبير المسرحي، بيد انه انفرد عنه بلغته التعبيرية الخاصة واستقل بذاته عن فني السينما الصامتة و السيرك، أبويه الشرعيين! لقد انسل من صلب الفنون الثلاثة لا ليقطع معها الوشائج تماما، وإنما ليطوع امكاناتها الفنية لصالحه. فلم يتخل عن كينونته، غير انه استثمر بإبداع ومهارة وذكاء إمكانيات الفنون الأخرى. فلم يعد مجرد تهريجات سيرك، أو نوعا من ألاعيب الملهاة المرتجلة (كوميديا بلارتيه) أو بهلوانيات اللاعب على الحبال، وإنما بات فنا قائما بذاته. وأعطته (السينما الصامتة على أيدي العبقري شابلن وكين خاصة نفحة من حياة وفسحة من استقلال بعد أن استحدث لنفسه القواعد وأرسى لها الدعائم، فتحول بذلك الى نوع صامت (من الشعر والموسيقى). استمدت الحركة من  ( الشعر) بعض خصائصه.. أخذت عنه موسيقاه وشفافيته وتركيزه لماحيته. واستمدت من (الموسيقى) بعض ما تنطوي عليه من ايحاء وإيماء.. وبذلك وبغيره انطلق ممثل وفنان (الميم) من جسد اعزل وخشبة عارية، من " جدلية الفراغ والامتلاء، الوهم والحقيقة، الصمت والثرثرة. ومن شعرية الإيماءة أيضا وبكثير من الطرافة وخفة الظل.. من المرح والعفوية عبر الدهشة الدائمة في اكتشاف العالم وكشف ميكانيكية العلاقة بين العناصر والحالات والأفراد" (17) وكان على هذا الفنان التحكم في كل عضة من عضلات جسمه والفضاء المحيط به وجملة الإشارات الاتصالية، فيصبح جسده" المادة والأداة، الموضوع واللغة" (18) متخلصا من فوضى الحركة وميكانيكيتها. فأشرك مارسو بهذا الخصوص "غنائية التعبير" فبدون هذا الشرط تضيع الحركة وتصبح مجرد حركات هندسية!

       فحين يذكر فن التمثيل الصامت لا بد أن يذكر معه مارسيل مارسو حتى ليكاد يندمج الاسمان اندماجا لا انفصام له. فما برح هذا الفنان يلقب بساحر الصمت تارة وساحر الحديث تارة أخرى لما يتصف به من موهبة في الأداء في الكلام أيضا . وقد قال عنه كوكتو: " هذا الشخص الذي يندس في عالمنا بخطا لص.. بطبيعة رهيبة كضوء القمر" ! وقال عنه بول ايلوار إن فنه قائم على "ضبط المشاعر، عزل التوازن الداخلي؟ وتركيزه، مهارة الجسد ورهافة الروح" (19)

       بدأ مارسو حياته الفنية في مرحلتها الجديدة بمحاولة التخلص من نموذج " ارليكان" كما صوره أستاذه (دكبرو) وبدأت انعطافة الكبرى في مسيرته الحافلة بالخصب والإبداع منذ عام 1947 حين ابتدع شخصية" بيب" (20) وهي شخصية مطواعة تتيح لخالقها توصيل كل ما يريده وتحميلها كل آفاقه الفكرية الإنسانية وروعة إبداعه الإيمائي، حتى زادت مشاهدها على الثلاثين، فهي تشبه بطابعها الشعبي جحا العربي.. ويصفها مارسو بأنها " شابلن في  عصر بيكاسو" طرح عبرها ميكانيكية المهرج ورومانتيكية الشاعر وتساؤلات الفيلسوف!

       وفي عام 1959 ابتكر لوحة "صانع الأقنعة" مقتبسا اياها من اسطورة يابانية حيث يضع على وجهه قناعا وهميا عابسا تارة وضاحكا تارة أخرى وبغتة تحدث المأساة حين يلتصق القناع الضاحك على وجهه فلا يستطيع انتزاعه " إنها اللعنة التي تطارد صناعة الفرجة.. انه القناع الذي يخفي قناعا آخر ويحاول أن يقول الحقيقة. انه الزمن الذي تجمد عند لحظة معينة .. لحظة الضحكة التي تخفي غصة ودموعا وأشياء لا تقال .. إنها الضحكة المحنطة التي تخفي خلفها الموت" كما وضعها بيار ابي صعب حين شاهد اللوحة في باريس عام 1990.

       وقد اعتاد مارسو أن يخرج الى جمهور مسرحه متفردا بقناع مصبوغ بالأبيض. ثم يبدأ عروضه بمجموعة من المشاهد والإيماءات الكلاسيكية التي هي نوع من استعراض المهارات وتهيئة مخيلات المشاهدين خلافا لمن ينهج عن وعي نهجا مغايرا.. بعدها يقدم مشاهد بطلها " بيب" واللوحة الشهيرة "صانع الأقنعة" لتؤلف بمجموعها أنشودة حية تمثل فيها المشاعر بلغة صامتة ، لكنها بالغة الدلالة عميقة المعنى و مثيرة للخيال تجسد أنبل القضايا.

       وقد تعدت شهرته حدود بلاده فرنسا واجتازت أوربا الى إرجاء العالم. وانتشر تلاميذه، ممن تلقى الفن على يديه وفي معهده، أكثر من ستة عشر بلدا يجوبون أقطار الدنيا ناقلين بأساليب متنوعة صور وابداعات هذا الفن الجميل. ومن تلاميذه الذين نقلوا الى قطرنا صدى فنه الساحر الرائع كل من "نولاري" التي زارت العراق مرتين، وأميل وجان برنار شيبو وبراول.. وغيرهم من الذين تركوا أثرهم على تجربتنا. وقد تعرف بعض العراقيين على مارسو مباشرة كيوسف العاني وسعدون العبيدي وأحلام عرب. ومنهم من تعرف على فنه بصورة غير مباشرة اثر مشاهدة عروضه على الأشرطة المرئية والشاشة الصغيرة. تعرفوا عليه متأخرين بعد أن قطعوا مسيرة طويلة مثقلة بكثير من الإخفاقات وقليل من النجاحات.. وكان لا مناص من حدوثه .. بعدما أحرز مارسو المعلم والفنان المبدع احترام العالم..

       إن مارسو ليدرك جيدا المكانة التي تبوأها بكده وموهبته وذكائه. يقول عن نفسه دون مباهاة فارغة أو غرور أجوف انه أول من قدم فن الميم بالمعنى "الشعبي" (21) إذ استطاع أن يخلق لنفسه استقلال لا شائبة فيه بعد أن كان مجرد تابع ضائع الملامح خاضعا لغيره من الفنونّ وفضلا عن ذلك استطاع مارو أن يحقق لفنه نوعا من التقارب من الرقص الأسباني ذي الأصل الشرقي لارتباطهما بحالة من التوازي. فالرقص الأسباني يمثل حال التصادم والاندفاع بين الأرض والسماء(22) خلافا للرقص الغربي المرتبط بالأرض دائما، بينما تكون روحه مرتبطة في السماء لذلك ولغيره من الأسباب ادخل مارسو مادة الرقص الكلاسيكي والحديث في مناهج معهده وتدريباته الشاقة والمضنية. فضلا عن دروس أخرى في الاكروباتيك وفن المبارزة والفن الدرامي والمادة الرئيسة: فن التمثيل الصامت (البانتوميم والميم)، وبهذا اخترقت إنجازاته حدود الظلام الى صنع أسلوبيته. وبالرغم مما حققه على شتى الصعد التي رفعته الى مصاف المعلم الأكبر، فقد كان يقلقه هاجس كبير ظل لفترة طويلة يضنيه وهو يبحث عن إجابة له. ويتمثل في هذين السؤالين اللذين قلبهما مع نفسه طويلا: 1- هل أنا ممثل كبير؟ 2- هل أنا الأحسن؟ ظلا يؤرقانه منذ تتلمذ على أيدي أساتذة (ميم) كبار. وكانت ثمرة هاجسه وسبر أعماقه وبحثه الدائب عن ذاته، إن خرج بتجربة فريدة وبنصيحة ثمينة وجهها الى تلاميذه ومريديه أن النجاح " يتوقف على دراساتهم وأبحاثهم ما داموا أحياء كيما يجدوا أو يخلقوا لأنفسهم أسلوبا خاصا بهم" وقد كان هو نفسه أول من اخذ بالنصيحة. فقد درس تراث المسرح الياباني (النوه والكايوكي) وفسر "المودرا" الهندية. فالشرق معين لا ينضب لإبداع الفنانين الأوربيين الكبار كبيتر بروك وبيسكاتور وبريخت .. على سبيل المثال. فلم يكن مارسو أول أو آخر المستفيدين من الشرق!

       ويضيف مارسو: "انه لمن المهم جدا أن نفتح الباب الأول نحو الأسلوب الذي يبدعه الفنان الموهوب" فهو عبر بدوره عن معاناة الإنسان السوي سعيا وراء تحقيق أحلامه وتداعياته. وترجم آلامه وتوقه وصراعاته. وفي الحقيقة أن دراساته لم تقتصر على الشرق بل تعدته الى التراث الإنساني كتراث شكسبير وجوته وبيكاسو وسرفانتس، فلا غرو أن تتكامل شخصيته ليصبح الممثل والمؤلف والمخرج كما هو ماكيير ومصمم إضاءة وموسيقى يختارها بنفسه من موزارت وباخ وفيفالدي وغيرهم من أساطين الموسيقى الكلاسيكية.. فكانت ثمرة ذلك عظيمة ومثيرة مكنته من مخاطبة جمهوره بلغة فنية مدهشة وعالمية وبناء حركة فنية صامتة تحيط رأسها هالة شعرية باهرة!.

 

تلاميذ مارسو في بغداد:

       إذا كان بارو ومارسو قد أثرا في التجربة المحلية بصورة غير مباشرة، فانه قد تحقق بشكله المباشر على أيدي تلاميذهما الذين وفدوا على القطر منذ عام 1978. فقد زار القطر فنانان توأمان أمريكيان من اصل عراقي فعرضا على طلاب أكاديمية الفنون الجميلة عرضا ميميا. عملا الماكياج أمام الأنظار وذريعتهما في ذلك أنهما أمام متخصصين. لقد تلقى سمير ونمير وهذا اسمهما، الفن على يدي مارسو بعد أن عرفا ونشطا في المحيط الجامعي ثم قاما بتشكيل فرقتين للبانتوميم. ( 23)

       وفي نفس العام قدمت الى العاصمة الفنانة نولاري من اصل استرالي، وعرفت بنفسها أنها الفنانة الأولى لمسرح التمثيل الصامت. وبعد أن تعلمت رقص الباليه في السويد والدانمرك، التحقت بمعهد مارسو، فجعل منها تفوقها نجمة الطليعة الفرنسية للتمثيل الصامت قبل تأسيس " مسرح البانتوميم اللندني" في لندن عام 1975 . وأخذت منذ عام 1976 تقدم عروضها المنفردة مترسمة خطا أستاذها.. فباتت ممثلة جوالة وسفيرة أستاذها، حيث تقدم عروضا من تصميمها، فزارت منذ ذاك الوقت العديد من البلدان ومنها المغرب. وتغلب على لوحاتها الطرافة والانتقاد لشخصيات ومظاهر سلوك. (24)

       في زيارتها الأولى عرضت لوحات تراوحت بين المشاهد التقليدية والكاريكاتيرية. مثل "كاتبة الطابعة المرهقة" و "المقامر" و "الطباخ رغم انفه" ومن صفات أسلوبها النزول الى الصالة، كأن توحي للمتفرج بأنها تريه طبخها الفاشل. ومن لوحاتها الأخرى" الموسيقار الدعي" و " المهرج الساحر" الذي يسلي الصغار بان يقص عليهم الأساطير والحكايات العشبية. و لوحة "راقصة الباليه الفقيرة" .. ومن ابرز لوحاتها في هذه الزيارة مشهد بيرو بطل الكوميديا المرتجلة، وأدت لوحاتها على خلفية من موسيقى الكيتار.

       وزارت القطر للمرة الثانية عام 1984 فقدمت على مدى أسبوع بعض لوحاتها التي سبق أن عرضتها في زيارتها الأولى ولوحات جديدة. منها " البيروقراطية" التي ابتدأت بها عرضها وهي نقد لاذع للروتين في العمل واللامبالاة والكسل في الأداء. وسخرت كذلك من " الجراح غير الكفء" . وقدمت " راقصة الباليه المبتدئة" و "العازف الفاشل" و "مهرج البلاط والبرغوثة".

       ولا تكتفي أحيانا بالنزول الى الصالة، بل وترد على أفعال المتفرجين من سعال أو حركات غير إرادية بطريقة كوميدية، فهي ترى "إن الكوميديا أمر أساس ومهم في العمل الفني لأنها تروق لكل الناس. ولذا أخذت الكوميديا أسلوبا وحيدا" (25) حتى في الأعمال الجادة كما فعلت في لوحة " مأساة هندليت" المأخوذة من "هاملت" شكسبير وهي تنفي أن يكون لها موقف نقدي من الواقع، بل تتناول – على حد قولها- " الحقيقة كما هي في الواقع" تنقلها من غير تحليل لموقف أو الانحياز لفكرة ما.. يتكون ويتشكل في ذهن المشاهد بعد رؤيته للحقيقة" (26)

       وتقوم نولاري بكتابة سيناريو لوحاتها في خطوطه العريضة ثم ينضج أثناء التمرين..وأدخلت الباليه والمؤثرات الضوئية، تقدمها بماكياج المهرج، ولكنها تستعمل ملابس مختلفة خلافا للماكياج الذي يظل ثابتا. وفي إيماءاتها تنتقي الإيماءة الأكثر تعبيرا عن المعنى أي "الإيماءة العالمية" ! التي يتعامل بها كل البشر في كل مكان. ولإدراكها أن البيئة المحلية مختلفة بين بلد وآخر، لهذا لم تقدم في العراق لوحة "الجرسون" !

       وزار العراق عام 1980 الفنان الفرنسي " توبيش" وهو الاسم الفني لجان برنارشيبو، أحيا أمسية في بغداد قدم خلالها أربع عشرة لوحة. منها: " منظف الزجاج" و "صائد الفراشات" و" قارع الأجراس" و"عازف البيانو" وغيرها قدمها تحت عنوان مغامرات توبيش .. وهو يميل أسلوبيا الى تقديم اللوحات بطريقة لاذعة والتخلص من الديكور وملابس الشخصيات.. يقدمها منفردا على غرار اعمال أستاذه مارسو.

       وبعد ثلاثة أعوام عرض الفنان الفرنسي (أميل) عددا من اللوحات تمثل الواحدة منها صورة كاملة. فمن لوحاته التي شهدها المسرح الوطني "الرجل المحاصر" ولوحات استعرض فيها مهاراته في التمثيل مثل "الضفدعة" و "الشمبازي" و "طائر الكركي" قدمها بملازمة الموسيقى والمؤثرات الصوتية خلافا لما اعتاده أستاذه مارسو. وفي عام 1986 زار براول العاصمة ليقدم لوحاته المنفردة التي تتراوح بين الخفيفة والرمزية والهزلية والمعبرة. كما زارتنا "جماعة المسرح الإيطالي الصامت" مؤلفة من عمال هواة قدموا عملهم بالملابس العادية..

       تركت هذه الزيارات وغيرها آثارا ملموسة على ابرز فناني الميم مثل محسن الشيخ الذي يكثر من تقديم لوحات منفردة في الغالب، ومنهم سعيد في ماكياج مهرج السيرك، و البذلة اللاصقة وتقديم الأعمال بمصاحبة الموسيقى والمؤثرات الضوئية ولكن يغلب عليها التقليد والمحاكاة!

 

بواكير التجربة العراقية للسنوات 1919-1967

       تمهيد:

       أرجو ألا يخامر القاريء شك بان الكاتب وهو يتوغل في خفايا بعض أيامنا الخوالي نابشا ومثقبا عن بواكير فن التمثيل الصامت، يزعم لنفسه أيما زعم، بأنه سيكشف النقاب عن القارات المجهولة، بل كل ما ينشده أن يهمس في آذان البعض بان تاريخ هذا الفن لم يبدأ بهم وحدهم. فقد أفزعته مواقف هذا أو ذاك من مجمل تاريخنا المسرحي.. فتراهم يشيحون عنه وعن رواده البواسل بوجوههم، لا لشيء إلا لضآلة تجارب ذلك الرعيل وتفرقها وتباعدها وضعفها. ومن الجائز أن تقول إن شحة معلوماتنا عن تاريخنا احد أسباب الجهل به وتجاهله. وقد هاله أيضا أن يسعى البعض لطي صفحات كتبها بالكد والتعب والصراع القاسي كتاب وفنانون شجعان نالوا شرف المبادرة وأحرزوا قص السبق وان لم يشملهم التقدير وينصفهم التقويم لكن جهودهم مهدت السبيل للسير على منوالهم والبنيان لا يشيد من السقف وباقة الزهر لا تتم بوردة..

       ولعل هؤلاء الفنانين الذين يحسبون أنفسهم بلا جذور ولا يشك في حسن نواياهم- يوافقونني بان الحماسة والأماني الطيبة وحدهما غير كافيتين لخلق فن (ميم) أصيل فلابد من معرفة عميقة الغور بتاريخنا .. ومرة أخرى لا يزعم الكاتب بان هذه الصفحات الوجيزة هي كل التاريخ .. ففي الانتظار وعلى الطريق أشواط ومحطات ينبغي معرفتها وحسبي أن احفز وأثير فضول وأثير أسئلة عسى أن يقدم من وأكثر جلدا وأقوى مراسا على البحث عن الصفحات الكثيرة المجهولة واليتيمة!

 

المرحلة الأولى : 1919-1957

       في مطلع عام 1919 ولما يمض عامان على احتلال الإنكليز لعاصمة العراق. قدمت من انجلترا فرقة مسرحية للترفيه عن قوات الاحتلال وعرضت على مسرح مدرسة الصائغ ببغداد ثلاثا وعشرين مسرحية! منها " تشخيص بالإشارات بعنوان "مدينة الجنون" مع حركات ومشاهد هزلية. (27) وفتح للجمهور العراقي من كلا الجنسين باب الدخول، فأقبل ربما من باب الفضول البحت على مشاهدتها إقبالا شديدا. ويفهم من تعبير " تشخيص بالإشارات" انه يعني " التمثيل الصامت" وكما يبدو أن " التشخيص " اتخذ عنوانا واحدا وربما حول موضوع واحد أيضا ، واقترن بالحركات والمشاهد الهزلية من غير كلمات. كما يفهم من الخبر- وان كان ذلك خارج الموضوع- إن المسرحيات الأخرى عرضت بمناظر "مجسمة" مما لا عهد لمسرحنا بها وقتذاك. كما استخدمت فيها المصابيح الكهربائية في الإضاءة المسرحية مما لم يعرفه مسرحنا كذلك !- فكانت هذه وتلك مثار دهشة وانبهار المتفرجين والصحيفة التي أوردت الخبر بإعجاب مقصود!.

       وعرف مسرحنا عام 1929 تجربة محلية هذه المرة وذلك حينما عرضت "جمعية التمثيل العربي" مسرحية "عائدة" الأوبرا الشهيرة لفيردي بعد قيام رئيس الجمعية و مخرج أعمالها محمد خالص الملا حمادي بإعدادها للمسرح. وقام عناية الله الخيالي ( 1911-1990)، احد شهود الحادثة وبطلها وراويها، بتقديم ارتجالية صامتة وساخرة تمثل شخصية ضابط إنجليزي على هامش قصيدة لمحمد مهدي البصير ( 1895-1974) كان يغنيها الطالب ادهم اسماعيل، مطلعها:

قل لمن يخطب ليلى               بزواج يزدريهـا

رمت أمراً مستحيلا               والسما من ترتقيها

 

       فأحست سلطات الاحتلال – ولا نعلم كيف؟ - بالمغزى السياسي المعادي الذي انطوت عليه اللوحة المرتجلة، فقامت بتطويق المسرح بغية القبض (28) على الممثلين الذين افلحوا في الإفلات عدا حمادي! ولا يعرف ما إذا كان الخيالي مجرد مقلد أو مبتكر للتشخيص؟ غير انه يستنتج أن تلك التجربة الإيمائية الساخرة والمرتجلة والفردية، كانت تنطوي على مغزى نبه الى خطورة فني التمثيل الصامت والصائت!

       ولم تنفرد العاصمة بمثل تلك التشخيصات! أو اللوحات الصامتة، فان "ثانوية الموصل للبنات". في محاولة لافتة للنظر، أقامت في 29 ك 2 ( يناير) عام 1939 حفلة تنكرية نظمتها " جمعية بنات الفن" التي يعد اسمها دليلا على بواكير الوعي القومي النسوي في الموصل الحدباء. وبعد كلمة الافتتاح " أعقبتها مسرحية صامتة كانت غاية في الإبداع بموضوعها وتمثيلها" ! ومن المؤسف ألا تكلف المجلة التي نشرت الخبر نفسها مشقة الإفصاح عن مكمن " الإبداع" أو محتوى " الموضوع" ! فأضاعت علينا فرصة ثمينة للإطلاع على تفصيلات تلك المسرحية الصامتة!

       وفي سنة 1957م اشترك لفيف من العراقيين المناهضين للحكم الملكي في مهرجان دولي للشباب في عمل ألفه لهم يوسف العاني بعنوان "جحا والحمامة" (29) عبارة عن عمل صامت قدمه مع زملائه على احد مسارح موسكو. وبذلك وجدوا حلا ناجعا للتعبير عن قضية سياسية تخطوا به حاجز اللغة!

 

المرحلة الثانية : 58-67

       شهدت مدينة الديوانية عام 1958 أول عمل للميم قدمه – كما روى لي ذلك منعم سعيد – لأحد الهواة كان يعرف باسم الجابي لأنه يعمل قاطع تذاكر لإحدى دور السينما وقتذاك. لعله خاض تجربته تقليدا لأفلام السينما الصامتة! وبعد عشرة أعوام تشهد المدينة تجربة أخرى على يدي المدرس رياض الشبلي.. استغرق عرضها عشر دقائق. وفي عام 1962 دعت عمادة معهد الفنون الجميلة بعضا من طلابها كسالم الزيدي وكاظم فارس وسامي السراج وآخرين غيرهم للاشتراك في مسرحية يحتفى بها بإحدى المناسبات. والمسرحية صامتة هي " قصة شعب" (30) على شكل لوحات تجمعها وحدة الموضوع. قام بتأليها وإخراجها احد أساتذة المعهد الفنان الراحل جعفر علي ( 1930-1998) كانت تجربة مثيرة حقا ورائدة تماما وجديدة على المعهد. ولما كانت التجربة غريبة على مناهجه وطلابه، فقد عمد جعفر علي الى وضع برنامج نظري وعملي استعدادا لخوض أول تجربة في التمثيل الصامت، اشتمل على تمارين في الرياضة المسرحية وفي التمثيل الإيمائي.

       والمسرحية سياسية تندد بطغيان العهد الملكي ضد شعب كان يكافح من اجل حريته واستقلاله وكرامته، وتم بثها تلفزيونيا بصورة حية ووقتها لم يكن قد عرف التلفزيون التسجيل المسبق وهكذا شاهد المتفرجون هذا الضرب من الفن.. ويكون جعفر على قد سجل لنفسه فضل الريادة في تقديم عمل فريد في محتواه وأسلوبه ولم يتعرف الطلاب قبل ذلك إلا على درس في الابتكار والصامت بذرة فن التمثيل الصامت.

       وفي عام 1963 اطلعت بغداد على عمل جديد لفرقة شكلت حديثا هي "فرقة الحرس القومي" يتألف من مشاهد صامتة سياسية المحتوى كانت تعبر عما كان يتلقاه السجناء السياسيون على أيدي الجلادين من صنوف التعذيب. وقام بتجسيدها وتأليفها كامل القيسي (1929-1985) واشترك معه سامي السراج وجودت العزاوي وموسى الخالصي وعز الدين طابو ومحمد وهيب البصري وكامل جبوري وآخرون غيرهم. وقام عبد المرسل الزيدي بإخراجها يوم كان طالبا في المعهد. (31)

       لعل اشتراك السراج في هذا العمل وفي عمل جعفر علي قد أوحيا له وشجعها لخوض تجربة تقديم مسرحية " حلاق اشبيلية" لبومارشيه كأطروحة تخرج عام 1965. بطريقة التمثيل الصامت لم يسبق إليها طالب آخر. قام السراج بتقديم أطروحته على مسرح دائري نصبه في حديقة المعهد، وحدد للوصول اليه أربعة ممرات اجلس المشاهدين حولها. وقام بتحريك الممثلين كحركة عقارب الساعة ليتيح مجالا لرؤية ملائمة. واستخدم في إضاءة منصة التمثيل مصباحا كبير غمر المنصة وكشف عن حدودها. وقد اختار السراج الموسيقى والمؤثرات بنفسه واستغرق العرض الذي قدم في 14 مايس (مايو) ثلاثة أرباع الساعة. (32) وهي مدة طويلة.

 

ملامح التجربة في بواكيرها:

       لا ريب أن أسماء العروض التي سلف ذكرها لا تمثل كل حيثيات التجربة للسنوات 1919-1967، فمن غير المعقول أن تتقدم إحدى ثانويات البنات عام 1939 وفي مدينة مثل الموصل، بأول عرض صامت في حين تشير أقدم الوثائق والمعلومات أن محافظة نينوى عرفت فن المسرح منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر فكان يفترض فيها أن تكون سباقة في الريادة. كما انه من غير المنطقي أن تختفي التجربة عن الظهور ما بين عامي 1939 و 1957 لتظهر عام 1958 في الديوانية وليس في أي من مراكز المحافظات وخصوصا مدينة البصرة إحدى الحواضر التي عرفت المسرح بعد الموصل وبغداد كما تشير المعلومات المتوافرة.. ولا تفسر هذه الظاهرة إلا بنقص المعلومات، فحتى الآن لم تمسح المصادر كافة ولم توثق أو تفهرس وهي وظيفة كان ينبغي أن يضطلع بها فن (المعلومات) وفن (المكتبات) ! ولا يقع في الحسبان أن إثارة أمثال هذه الشكوك يراد بها تثبيط العزائم، وإنما تحفيز الباحثين لتقصي جذور حركتنا المسرحية ومنها فن الميم، وإثارة الفنانين الرواد وبعضهم لم تتطرق الدراسة الى إسهاماتهم ولا انتبهت إليها الدوريات في حينه!

       ومما يلاحظ أن الكثير من المحاولات التي عرفت خلال هذه الفترة ذات موضوعات سياسية قدمت في المناسبات لأيام قليلة وفي أماكن محدودة جريا على السنة التي اختطها المسرح وقتذاك. وهي تتوزع بين المسرحية المقدمة على شكل لوحات او ذات موضوع واحد. وتغلب عليها سمة التقليد ومحاكاة الواقع وبمصاحبة الموسيقى والمؤثرات الصوتية.. وهي في احد أوجهها مقلدة او متأثرة بالسينما الصامتة. كما يلاحظ انتقاد المتخصص بهذا الفن.. فكان للاجتهاد الشخصي الكأس المعلى وان غالبية العروض ولدت في رحاب معهد الفنون الجميلة وعلى أيدي طلابه.. وقد كان اتصال مسرحنا ومسرحيينا بالعالم الخارجي و المسرح العالمي باهتا. ولم يحدث الانفتاح إلا بعد عام 1958!

 

التجربة في طورها الجديد للسنوات 68-98

       يبدو لي أن تحت السطح الظاهر للحركة المسرحية تمور حركة رديفة ينهض بجزء منها الشباب الطامح وعدتهم طاقات جياشة ومواهب لامعة. وغالبيتهم من خريجي المعاهد الفنية الأكاديمية او من طلبتها . تملؤهم الحماسة وتستبد بهم الرغبة وتحركهم الجرأة على الاقتحام وروح المبادرة لانتزاع فرصة العمر. وتنهض بجزء آخر المنظمات الجماهيرية والشعبية والمؤسسات الرسمية في سعيها لاجتذاب الشباب الى برامجها والانخراط في صفوفها. ورغم المصاعب التي تعترض الشباب وليس اقلها الافتقار الى مثال يركن الى مصداقيته او دراسات شاملة وعلمية تضع العلامات على الطريق لئلا تتكرر الأخطاء ويمتد زمن المصاعب، بل تتعقد المشكلات مما يخلف آثارا سلبية يتيه في خضمها الشبان. ومن ناحية أخرى تنامت معاناتهم لقلة الثقافة الميمية وغياب المصادر النظرية والعملية(التقنية،التدريب).والادهى من ذلك يحيط بجهودهم سوء الفهم وعدم الجدية.. فلا غرو أن يظهر من يستسهل أمر هذا الفن الصعب او يستصغر شأنه او يسترخص ثمنه بالرغم مما قطعه المجتمع والفن في بلدنا من تقدم! أما القلة التي اطلعت على نماذجه الأجنبية فيخشى على بعضهم  خطورة الفن الوافد، خصوصا أولئك الذين لم يتحصنوا بالوعي ويتسلحوا بالإدراك فتعشى اصارهم وتتشوش بصيرتهم فلا يصدرون في أعمالهم من منطلق نقدي ومنظور وطني او قومي.. وليس في هذه المخاوف وصاية او وعظ.. فان بعض اعمال الشباب اصطبغت بروح التقليد والمحاكاة.. في حين يفترض فيها الفرادة والاصالة واستقلال الشخصية!

       و بالرغم من كل شيء فان لهؤلاء الشباب شرف المحاولة وشرف المبادرة فحري بالنقد والنقاد النظر الى جهودهم وإنجازاتهم نظرة غير متشددة والا أصيبوا بالإحباط واليأس وهم يرون خطر التقويم ولقد قرعوا باب الفن بقوة قرع مكدف لبوابة مكبث فعلى النقاد ألا يصفقوا الباب بوجوه الفنانين كما صفقت نورا الباب.. وأفضل ما ينبغي ان ينتهجه ان يقف موقفا متسامحا بين القرعتين والبابين!..

       وحري بنا كذلك ان نذكر بالتقدير جهود فنانين أغفلت ولا يقلل من اهميتها او ينقص قيمتها، فنكتفي بايراد سريع لأسمائهم. من هؤلاء فوزية الشندي وناصر الناصر وأكرم كامل وسعد عريبي وخالد أيما وسهيل نجم وجمعة زغير وآخرين غيرهم ظلوا جنودا مجهولين او تحت ظلال فن صعب.. قدموا أعمالهم بصورة منفردة او من آخرين، ومرتكزين على سيناريو معد سلفا أصيل التأليف او مقتبس من مصادر أدبية.. او قدموها ارتجالا حيث ينحت الجسد الصورة ويرسمها الخيال و يصقلها التطوير..ومستثمرين عناصر التجسيد المسرحي المادية منها والمجردة.. من مناظر او ملابس عادية او لاصقة.. بالماكياج او بدونه .. مع موسيقى منتخبة وإضاءة غامرة او معبرة.. وغيرها من الوسائل التي لا تخطر على بال . مقدمين اياها على خشبة مسرح مقفل او في الهواء الطلق.. في أماكن تقليدية او غير مألوفة.. وما برحوا يفاجئون الوسط المثقف والمسرحي بمزيد من المغامرات! ولا يثنيهم تجاهل او لا مبالاة يبديهما هذا او ذاك ! فهم لا يجيدون لعبة الاعلام ولا يحسنون فن العلاقات! أتراهم واهمين او متعففين؟ لعلهم- وهذا رجم بالغيب- يفضلون ان يكونوا مجهولين من ان تسلط عليهم الأضواء فتبين نواقصهم.. وبعضهم يؤثر ان يكون ضحية او مغبونا من ان يتوسل بالغير لتقديم نفسه. أليسوا هم شباب؟

       ورغم كل ما يقال او يتردد عن حجم وتأثير المثبطات والاحباطات والسوءات فان التجربة في طورها الجديد قطعت دروبا سوية تارة و متعثرة تارة أخرى.. وهي تشجعنا على ان نجد فيها ملامح خاصة وسمتها بميسمها وأكسبتها صفات متميزة استقرت او في طريقها للاستقرار والنضج.. ومهما يكن وسواء اتفقنا او لم نتفق فلا يسعنا إلا الفخر بانجازات الشباب وشد ازرهم بل ونغبطهم على ما فعلوه واجترحوه!

 

الملامح:

1-   إحجام الفرق الأهلية:

لم تجرؤ  أي فرقة أهلية على كثرتها وامتداد عمرها، قبل "فرقة مسرح الرسالة" على السباحة في بحر الميم ليستكمل مسرحنا ركائز تجربته الفنية وليحق له ان يزعم بأنه يمر بمرحلة الحداثة! وقد كان لسعدون العبيدي رئيس الفرقة واحد مؤسسيها قصب السبق في الدخول الى العالم الجديد.. فعل ذلك بكثير من الثقة التي أكسبته إياها دراستة للمسرح في انجلترا ومشاهدته لعروض مارسو مرتين في لندن. ولاشك انه تأثر به في تجربته الوطنية كما سنبين!

أقدمت الفرقة عام 1972، ولم تكن قد مضت سوى فترة على تأسيسها ، على تقديم عرض جديد بكل معايير ذلك الزمن، هو " الرسالة" ! من تأليف العبيدي وعباس شلاه.. والراجح انه لشلاه هو أيضا له إطلاع ومعرفة بفن الميم أثناء تخصصه الأكاديمي لفن السينما خارج القطر!

   وعرض الرسالة عن لوحات ذات مضامين سياسية وطنية وقومية استهوت الفرقة مثلما كانت تستهوي الفنانين الآخرين.. وفي وقت كان العراق يتهيأ لمنازلة الإمبريالية وكارتيلاتها في اخطر معاقلها، ويمد السير نحو التغييرات الاجتماعية الجذرية. وقدم في أماكن متفرقة من العاصمة حيثما كان الجمهور محتشدا يتسابق الفنانون لكسب وده! وبذلك شهدت العاصمة وبعض المدن القريبة تجربة مثيرة وفريدة. وعولجت المسرحية بتقسيمها الى لوحات أداها الممثلون بالملابس العادية وأخرجها العبيدي وقاد فريقه بعد إعداده وتدريبه على كيفية أداء فن التمثيل الصامت، وكان يتألف من : نزار السامرائي، قائد النعماني، رياض النعماني، غازي ميخائيل، اسعد راشد وعلي عبد العزيز ناصر.

 

نموذج آخر : " صور من الحياة"

   بعد مضي أربعة عشر عاما، وبالتحديد عام 1986، أقدمت الفرقة – على يدي العبيدي أيضا على تجربة جديدة انضج وارصن هي مسرحية " صور من الحياة" في ظروف مغايرة من النواحي الثقافية و الاجتماعية والسياسية وابرز ما فيها ان الفرقة ضمت بين صفوفها شبانا لهم بعض اطلاع على فن الميم.. وقد عرضت المسرحية في آذار ، واتيحت لي فرصة مشاهدتها في الثالث والعشرين منه.

   وجدت الفرقة في محسن الشيخ، المولع بفنه حد الوله، موهبة شابة وحريصة على النجاح، فعقدت له لواء البطولة رغم انه ما زال طالبا في المعهد وأحاطه بالرعاية فنان جاد هو عدنان نعمة بعد ان اكتشف لديه الاستعداد والتطلع، وأراد مخرج المسرحية ومؤلفها ان يعرض صورا من الحكاية كما يراها. وان ينقل لنا بعضا من أوجهها، لكنه لم يمزق أقنعتها او يغص في أعماقها فظل مجرد ناقل لها في مظهرها الخارجي.. في حين كان ينتظر منه ان يكون مفسرا – ان لم يكن مفلسفا- او ناقدا للحياة فلا يسير في ركابها او يتخلف عنها. ومهما اختلفنا بشأن القيمة الفكرية للوحات ألاثنتي عشرة للمسرحية.. فان محسن الشيخ وجد فيها فرصة سانحة لاستعراض براعته الشخصية في الأداء وتقليد غيره! وبغية التعرف على مضامين اللوحات لا بد من مراجعة كيفية معالجة المخرج لها. لقد عرض اللوحات في إطار منظر ثابت عبارة عن قطعة قماش ازرق بديلا عن ( السايك) في مسرح أزيحت ستارته الأمامية قبل بدء العرض.. وبلا دروع فاستعيض عنها بلوحات خشبية فقيرة.. اختفى خلف أحداها منفذ الموسيقى .. لذا يصح لنا ان نقول ان العرض بلا ديكور حقيقي. وسواء أراد ذلك المخرج لاعتبارات فنية او اضطر اليه اضطرارا لاعتبارات إنتاجية، فقد بقي الإطار العام فقيرا لا يملأ العين ولا يثير مخيلة المتفرج.. وبذلك وجد محسن الشيخ نفسه وحيدا أمام مأزق فني هو كيف يملأ هذا الفراغ الشاسع من فضاء المسرح خاصة وان الموسيقى والمؤثرات الصوتية وهي من اختيار زميله رحمن عبد المحسن وإضاءة عبد الأمير مهوس لا تسعفانه كثيرا.

   داخل اللوحات: اللوحة الأولى التي ظهر اسمها مكتوبا على قطعة كارتون يسلط عليها الضوء كما في اللوحات الأخرى، تشيع جوا من الترقب والغرابة تعدان بداية حسنة. وتتدحرج بضع كرات.. ربما لهذا السبب سميت اللوحة باسم " لعبة الكرات" من جانب الى جانب. وتتدلى من السقف قطعة صابون يعقبها ظهور لاعب ببذلة سوداء لاصقة ووجه مطلي بالأبيض الكثيف ويتعامد على العينين خطان أسودان كماكياج الفنانة الاسترالية نولاري. يترك اللاعب الكرات ليلعب بقطعة الصابون حتى ليحسن ان تسمى اللوحة بـ " لعبة الكرات والصابونة" !

   وينتقل العرض الى لوحة أوضح ذات حبكة بسيطة.. يكاد يتطابق اسمها وفعلها، كان اسمها: "رقصة وانتظار" ينتظر البطل حبيبته انتظارا ملؤه القلق ونفاد الصبر ورغم ذلك – وهذا شيء لا يصدق- يخلد الى النوم ثم يحلم بحبيبته وقد التقى بها، رقص معها رقصة تفتقر الى الإتقان والرومانسية ثم يدير ظهره لتظهر يداه وهما تداعبان شعره وتتلمسان ظهره وجسمه في حركة تقليد لا بأس به لإحدى استعراضات المهارة المشهورة. وفي لوحة "لاعب السيرك" يدخل الممثل برشاقة وحيوية افتقدناهما في اللوحات الأخرى. يحيي الجمهور ثم يبدأ بالصعود الى أعلى السرادق ويأخذ بالسير المترنح على حبل وهمي جيئة وذهابا وعلى وجهه- خلافا لما يفترض- علامات الخوف من السقوط! أما في لوحة "المتسول الهادئ" فيبدو الممثل قد درس مادته دراسة جيدة فبدأ المتسول كأنه محترفا حقيقيا فإذا قارنا هذه اللوحة بغيرها لوجدناها فريدة ومتميزة. وحقق في لوحة "لاصق الإعلانات" ضربة فنية فيها مفارقة وطرافة.

   وتعد لوحة "الشهيد" أكثر اللوحات حياة وأشدها أثرا. يظهر فيها محسن الشيخ مؤديا بعض حركات القتال المعروفة من قصف وإطلاق نار ورمي قنابل وترصد ثم صولة تتوج برفع العلم واستشهاد المقاتل. بعدها ينتقل العرض الى "لوحة بائع التحفيات الزجاجية"، فيقوم الممثل بالحركات المتوقعة. من ترتيب التحفيات في أماكن ومن تنظيف للبضاعة والدواليب ثم يستقبل احد الزبائن ويبذل معه محاولات مستميتة لإغرائه بالشراء ولكن دون جدوى. وفي لوحة "رقصة الفراشة" لا نرى رقصا لفراشة كما يوحي اسمها وإنما محاولة ملحة لاصطيادها! و في لوحة "حوض السباحة" خيّل لنا أن الممثل يسبح في ساقية او نهر.. ويتردد السباح خشية برودة الماء ومن ثم أصابته بالتشنج العضلي حتى كاد يفارق الحياة. وفي لوحة " الوجوه" يحاول ان ينقل لنا صورا لوجوده متعددة بطريقة الغالق (الشتر) في آلة التصوير.. ويبدو أنها متأثرة بلوحة مارسو الشهيرة "صانع الأقنعة". وفي لوحة "العيون" وهي الأخيرة، يحاول الممثل ان يرسم على الجدران ولا ندري لماذا لم يجعلها لوحات؟ فلا يرضيه ما يرسمه فيعمد الى إتلافه تعبيرا عن سخطه وعجزه.. لا تكاد اللوحتان الاخيرتان توحيان بأي مغزى واضح. ويخلص المرء وهو يجوس عبر دهاليز لوحات المسرحية.. ان ممثلها يمتلك جسما على درجة طيبة من المرونة والطواعية لم تسعفهما مخيلة حادة ورهيفة بدرجة كافية بما يعين صاحبها على تشذيب الحركات وتخليصها من الترهل. كما لم يتحرك بديناميكية وحيوية كبيرتين تضفيان على العرض متعة بصرية مدعمة بالمعنى الواضح الدقيق الذي لا يقبل التأويل.. ولعل للمخرج سعدون يد في عدم بلوغ ممثله هذه الدرجة، فيخيل لي انه قد أسلس له القياد ففاته الانتباه الى الفتور الذي كسا معظم أفعال اللوحات بسبب التكرار الممل لبعضها وتماثلها في طريقة الأداء المبالغ فيه، فعلى سبيل المثال تكرار حركات صعود سلم او مرتفع في لوحات "الشهيد" و "بائع التحفيات الزجاجية" و "لاعب السيرك" و"في حوض السباحة " وحركات الدوران السريع في لوحتي "رقصة الفراشة" و "حوض السباحة" فضلا عن حركات الوقوف المتأمل بوضع الكفين المضمومتين على الخصرين في "لاصق الإعلانات" و "بائع التحفيات.." و "ملحمة العيون" وفيما عدا ذلك فان المراوحة بين محاولة الابتكار والتقليد قد نزعت من مضامينها التلميح المركز لصالح الشكلية.. وغير ذلك فان من الإنصاف القول أن ثمة بونا ملموسا بين الموسيقى المتوزعة بين الحديثة والكلاسيكية والاداء التمثيلي .. اضعف جهد الممثل.. مما يدفعنا الى الاستنتاج ان الثقل الأكبر قد حمله محسن الشيخ ولسعدون العبيدي فضل تقديم حمله محسن الشيخ ولسعدون العبيدي فضل تقديم تجربة تحفها المخاطر ولكنه ظل امينا لنهجه وفنه!

   ولم يقتصر عمل فرقة مسرح الرسالة على مسرحيتي : "الرسالة" و "صور من الحياة" اللتين تأثرتا على نحو ما بمارسو. فقد اندفع للانخراط في الفرقة بعض الشباب ممن سيحين دورهم لتولي مسؤولية اكبر في حياتها. وقد قنعوا في هذا الدور بالوقوف في الصف الثاني. فقد اعد لها الفنان الشاب حنين مانع الذي نشط في الآونة الأخيرة، بالاشتراك مع محسن الشيخ المعروف بنشاطه وعدم تفويت فرص العمل في حقل الميم.. اعد الاثنان عرضا مبتكرا هو " قصة الإنسان" عبارة عن لوحات تستعرض التطور البيولوجي للإنسان على الأرض خلال الحقب التاريخية المتعاقبة. وقدم عام 1992 على هامش المهرجان الثامن لمنتدى المسرح. وفي العام ذاته اشتركت الفرقة رسميا بالمهرجان وقدمت فيه مسرحية " أنت-أنا-أنا أنت" التي كتبها وأخرجها محسن الشيخ.

 

2-   هامشية دور المؤسسات:

ان الطابع الخطير والصعب لفن الميم-بل والمكلف أيضا. يحتم أن تؤدي المؤسسات دورها المسؤول والقائد.. بيد ان الواقع خلاف ذلك، فهو لا يبعث على زهو وفخر كبيرين.

أ‌-       لقد كان ينتظر من "الفرقة القومية للتمثيل" بصفتها فرقة الدولة المركزية نيطت بها مسؤولية التعبير عن الصورة المثلى للثقافة الوطنية وعن المستوى الذي بلغه المسرح، فكان ينتظر منها الاضطلاع بدور اكبر مما فعلته، كان تكون مثلا محفزا تحتذيه الفرق الأخرى، لا ان تكتفي باستقبال مبادرات الشباب التواقين الى الظهور والباحثين عن فرص عمل من ثم تبنيها وتنسيبها اليها.. وما ان ينتهي الدور حتى تدير لهم ظهرها في انتظار عمل جاهز.. ومن ذلك اشتراك منعم سعيد في مهرجان بابل لعام 1992 على قاعة معبد ننماخ بمسرحية " العزف على اوتار الجسد" وهو ليس من منتسبيها!

 

ب‌-  وطلعت "فرقة المسرح الريفي لمديرية التثقيف والإرشاد الفلاحي لمحافظة بغداد" بمسرحية " 17 تموز " كالنبتة الغريبة، فالفرقة كانت احدى الفرق الفلاحية التابعة لوزارة الزراعة والاصلاح الزراعي يوم كانت تتخذ المسرح وسيلة لتثقيف الفلاحين واجتذابهم الى برامجها وسياستها العامة وقد عرضت المسرحية وأطلق عليها اسم اللوحة في المهرجان القطري الثاني للمسرح الريفي الذي اقيم ما بين 17-19 حزيران عام 1978. وفكرتها وهي لجواد الشكرجي وسمير العبيدي والسيناريو لكاظم الوس، تدور عن قصة الصراع على الأرض في العهود البائدة حتى قيام ثورة 17-30 تموز 1968. ولم يكن من مهام الفرقة تقديم مثل هذا النوع من المسرح على أهميته. وكان مقدرا لها ان تمثل العراق في المهرجان العالمي للشباب الذي استضافته هافانا عاصمة كوبا وقامت بترشيحها لجنة فنية مؤلفة من سامي عبد الحميد وفاروق هلال ومحمد دبدب وعوني كرومي غير ان عوني قام بتبديلها بمسرحية أخرى من نوع البانتوميم. يجتمع فيها الحوار وترجح كفة التمثيل الصامت هي مسرحية " الصمت والذئاب" لأثير عبد الوهاب ومن اخراج كرومي، لاجتياز حاجز اللغة.. وسبق للوحة ان عرضت مرتين في المهرجان الفلاحي وفي مركز شباب الكاظمية وادى ادوارها مخرجها اضافة الى سمير ياس وطه درويش و قصي عبد وسعد كامل وغازي راشد ونوري محسن وحميدة حمد وباهرة رفعت ورجاء حسن.

ج- لمنتدى المسرح التابع لدائرة السينما والمسرح دور ايجابي في احتضان تجربة فناني الميم. فقد وجدوا بين جدرانه نافذة أوسع من غيرها ليطلوا عبرها.. وجدوا عند ادارته تعاملا مرنا وتفهما معقولا ومناخا فنيا ملائما قلما يجدوه عند غيرها ما يماثلها من ظروف.. وعرف عن المنتدى المسير على متوالين، اولهما توليه عملية الإنتاج غير المكلف. وثانيهما استضافة عروض الجهات الأخرى. فمن اعماله واعمال الضيوف: "ابيض واسود" لمنعم سعيد وقدمتها (جماعة الديوانية للتمثيل الصامت) في شباط 1981 و "سمفونية الضحكة" من اعداد رحمن عبد الحسين ومن اخراجه، عرضت عام 1985. وقبل ذلك بعام عرضت" مجموعة العمل التابعة لمدرسة ضباط صف مشاة الموصل مسرحية "تساؤلات وقضية" من اعداد المجموعة واخراجها. وشهد عام 1987 أكثر العروض عددا وتنوعا. فقد استضاف المنتدى فيه مسرحية "الصمت ايضا" لمحسن الشيخ وتقديم معهد الفنون الجميلة (بغداد) في شهري نيسان وتشرين الأول، ومسرحية "النهر" لمحمد فريق حسن واخراج عصمان فارس عرضها معهد الفنون الجميلة "السليمانية" في نيسان. كما عرضت "الفيلسوفة في المخدع" لرعد شوهي المعد والمخرج وذلك في حزيران وأيلول. اما مسرحية " النحات يراقب ساعته " لمنعم سعيد فقد عرضت في تشرين الأول. وكذلك "محاولات" لجماعة الديوانية فقد عرضت في آب. وفي عام 1988 قدمت "اليد الخفية" وهي لأكرم كامل. وفي عام 1990 عرض المنتدى مسرحيته "اختلاط الذاكرة" وهي من تأليف خالد أيما واخراجه وشارك بها في مهرجان المسرح العربي ببغداد.. وبها يكون المنتدى قد خرج بإحدى المسرحيات الميمية ليقرأها الفنانون العرب بعد ان كانت اسيرة المحيط المحلي.

 

دور متعاظم للهواة:

من الخصال الحميدة التي يتصف بها المسرح العراقي روحه الاقتحامية حينما يجد أمامه ما يتحداه او يستثيره.. وأكثر ما يتصف بهذه الخصلة الشباب من خريجي المعاهد والكليات الفنية الذين يجدون ضالتهم في الانخراط بصفوف المنظمات الجماهيرية.. متوسلين بالمناسبات والمهرجانات ليقدموا أنفسهم.. من تلك الاعمال مسرحية "ايها الطائر لا يكفي ان تقول لا " وهي لمحسن الشيخ واخراج رحمن عبد الحسين وانتاج نقابة الفنانين- المركز العام التي عرضتها على المسرح الوطني في ايلول عام 1987. وقد كتب المخرج في منهاج العرض ما يلي : "لا شيء .. لا شيء سوى العراء، انه الصمت يزف مدارات الحزن الى كوكب خفي.. ايها لاطائر المتجه نحوي تغلغل في بكل ما تمتلك . هناك شرخ في جسدي وانا في انتظار الالم لعل سحابة تأتي وتحملني من هنا" وهي كلمات غامضة ومهمومة لا تضفى على العمل الا التجريد الكثيف نقيض فن الميم. وقام بادوارها احمد الشرقي وعلي درويش فضلا عن مؤلفها ومخرجها.

   وشهد عام 1980 حدثا مهما وضخما وجديدا بكثير من الاعتبارات، ذلكم هو " القبعات والواحد" يستأهل الوقوف عنده بالدراسة والتحليل بصفته نموذجا حيا لحسن العلاقة بين الهواة و المنظمات الشبابية.

 

نموذج " القبعات والواحد"

     بهذه المسرحية التي أداها طلبة معهد الفنون الجميلة (بغداد) يكون عدنان نعمة قد القى بنفسه في بحر من "يلغي الكلمة المنطوقة" ويجعل حركة الممثل" موسيقى للعينين حيث يمتلك جسده "الكلام كما تمتلك الشجرة ازهارها" على حد تعبير العبقري مارسو. رمى عدنان بنفسه في بحث بعد ان خاض بنجاح بحرا اخر هو الفن الدرامي.. حين اخرج " ايدي يوريدس " لبدرو بلوك سنة تخرجه في المعهد عام 1975. فكانت من الاعمال الممتعة والجميلة.

   وتولت مهمة انتاج " القبعات والواحد " منظمة الاتحاد العام لشباب العراق" و قدمته من خلال فرقة نادي المسرح للشباب.. التي شكلت من طلبة المعهد. وشارك معها عبد الله جواد احد اساتذة المعهد. وقدمت في تموز فخاضت الفرقة التجربة قبلما يعد افرادها لهذا الفن الذي يتطلب ممثلين خاصين ذوي استعداد عال و تدريب شاق.

   طرقت المسرحية التي كتب السيناريو لها عدنان نعمة، موضوعا سبق ان طرقه مؤلفون دراميون هو مأثرة تأميم النفط. ولم تكن المعالجات السابقة على اختلاف اساليبها الوثائقية والرمزية والتقليدية في مستوى فني وفكري بالغ النضج والتميز. ويكمن القول ان للموضوع –القضية جاذبية ومهابة فهو احدى القضايا الكبرى لنضال شعبنا ضد المصالح الاستعمارية، شكلت شطرا كبيرا من وجداننا الوطني ووعينا القومي.

   وان الطابع الذي طبع موضوع"القبعات والواحد" يتصف بالوثائقية ويكاد يكون معروفا من قبل غالبية الجمهور لذا فهو يحمل مخاطر نجاحه واخفاقه معا. فقد يفشل اذا حاد مؤلفه عن "الحقائق التاريخية السياسية العامة" او اذا كانت معالجة المخرج له شاحبة. لكنه قد ينجح ويتألق اذا كانت رؤياه الفكرية وصياغته الدرامية اضافة نوعية وكشفا جديدا لابعاده.. فهذه المعادلة تصح على الاعمال التاريخية والسياسية كافة.

   تبدأ المسرحية بكتلة مؤلفة من ستة ممثلين تتشكل بغموض في مقدمة المسرح لكنها توحي بالمعاناة والالم، وتحيط بشخص ممدد تدلى رأسه باتجاه الجمهور، يهيمن فوقه آخر، فبدت الاذرع كأنها لاخطبوط خرافي. ترتدي هذه المجموعة التي يؤدي افرادها عدة ادوار، ملابس موحدة الزي واللون قميص فانيلة ازرق وسروال خفيف ملتصق كالذي يلبسه راقص الباليه.

   وتتدلى وسط فضاء المسرح قبعة بريطانية شدت بحبل تظل مطلة على معظم المشاهد وتتلوها قبعة اخرى ضخمة رسم عليها العالم الامريكي ترافقها موسيقى الجاز الصاخبة. وهي تستقر في اعلى يمين المسرح ساكنة سكونا ثقيلا. وللقبعة باب يجتمع حولها الممثلون بدهشة وذعر. وفوقها رجل شره وجشع وان اوحى مكياجه الذي يشبه مكياج مهرج السيرك بالطيبة والبساطة. ويخرج من باب القبعة رجل امريكي يغري الواقفين بالدخول ويقوم الممثلون باللعب بالقبعة بحركة الرقص الاستعراضي وهم يجلسون على ركب بعضهم في صف مستقيم يواجه الجمهور.

   ويبدو ان المؤلف قد استعجل في الانتقال من مرحلة الاحتلال العثماني التي لم نر ما يوميء اليها، الى دخول امريكا ميدان المنافسة في الاستثمار.. وقصر موقف الشعب على الدهشة والاستغراب.. كما مر بمرحلة الاستعمار البريطاني الذي كانت له السيادة على العالم مرورا سريعا متجاهلا الصراع الاستعماري الذي نشب بين فرنسا والمانيا. وبدأ نجم امريكا بالسطوع بعد الحرب العالمية الثانية لتأخذ مكان الصدارة. ومن المعروف ان شعبنا كافح كفاحا مريرا من اجل الاستقلال الاقتصادي وتحرير النفط من الاستغلال الاجنبي ولم يكن مجرد متفرج!

       وبدت حركات ومشاهد أخرى غامضة ومشوشة ومرتبكة. ومرد ذلك تداخل الحدود بين الشخصيات والأحداث. فقد كان صعبا ادراك مغزى دخول الممثلين الى القبعة منتفخي البطون وخروجهم منها ضامرين وهم يحملون صحفا ملفوفة. وما يبعث على الاستغراب ان يصور المخرج اصدار ثورة 14 تموز لقانون 80 بتلك الطريقة الخالية من الاحترام مما ينتقص من محتواه التقدمي. فقد انطرح احد الممثلين رافعا قدميه وقد علق في احداها قبعة امريكية وفي الاخرى قطعة قماش كتب عليها رقم القانون واسم شركة نفط العراق مع اشارة تحقير يرسلها الرجل الامريكي!

       وفي مشهد اخر يخرج من فتحة في الجدار المواجه للجمهور شريط طويل يلتف حول عنق احد الممثلين ويكاد يخنقه ثم تخرج مجموعة اخرى على شكل قوس تفتح لفائف الصحف مشكلة جدارا. وينفرد احدهم بصحيفته يطالعها غير مبال بحركات الاغراء التي يعمد اليها الرجل الامريكي. ويحاول الرجل البريطاني هو ايضا اغراء الشاب المنفرد. وتتوالى مشاهد اخرى غامضة.. وينفرد منها المشهد الذي يقلب فيه البرج اشارة الى تصحيح وضع خاطئ.. ثم ابعاده عن الرجل الامريكي ونصب العلم العراقي فوقه وتغطية القبعة الامريكية برسم نصب الحرية.. ويهرع بعد ذلك الممثلون الى الجمهور فرحين وهم يلوحون بالاشرطة الملونة. وهكذا فان المسرحية لم تغص في اعماق الصراع بين العراق واعدائه بل لامست سطحه ملامسة باهتة. ويلاحظ ان المخرج حاول الانفراد باسلوب المعالجة باعتماده على حركات الباليه الراقصة في بعض الحركات واسلوب مهرج السيرك في المكياج(عمل محمد سيف) كأنه أراد ان يصوغ العرض صيغة كاريكاتيرية كما في تحريك الممثلين بما يشبه الدمى ذات النابض.. ويحسب للتجربة انها التقت بالجمهور العريض بغية توصيل رسالة سياسية لموضوع له قدسيته وجاذبيته!

 

جماعة الديوانية للتمثيل الصامت

إن احد الأحداث الفنية في حياة تجربة الميم هو تشكيل " جماعة الديوانية للتمثيل الصامت" في مدينة الديوانية مركز محافظة القادسية عام 1979 اثر تخرج منعم سعيد من معهد الفنون الجميلة ولدت نواة هذه الجماعة التي جمعت بين أعضائها رابطة الزمالة وروح الصداقة، في المعهد حيث التقى أفراد المجموعة حول منعم سعيد وشكلت باديء الأمر بشكل طوعي قبل عام من ذلك التاريخ وضمت خمسة من الشباب بالتعاون مع زميلات لهم هن أثمار عباس وميسون خليل وغيرهما، ثم اتسعت لتضم منعم سعيد، هادي صالح ، مازن مرزوق، كاظم حاتم، بعد الله سعيد ، خالد عبد الهادي، شاكر عبد العظيم فائز امجد ومياسة كاظم. ويلاحظ ان أسماء المشاركين في بعض أعمال الجماعة تختلف عن الأسماء المؤسسة.. مما قد يعني هشاشة التشكيل وظرفيته وعدم ثباته. ففي مسرحية "النحات يراقب ساعته" لمنعم سعيد ومن اخراجه والمقتبسة عن اسطورة بيجماليون تألف الفريق عند تقديمها في الاكاديمية عام 1980، من خالد عبد الهادي، عبد الله سعيد ، فائز امجد ، منعم سعيد. وعندما أعيد تقديمها عام 1986 ظهر اسم محمود خضير فضلا عن الاسماء الأخرى. وفي مسرحية "ابيض واسود" التي كتب السيناريو لها وقام منعم سعيد باخراجها وتقديمها في المنتدى في 16 شباط 1983 قد شاركت في تأدية ادوارها اسماء جديدة تضم: كاظم حاتم وصادق مرزوق وهادي صالح وكاظم ثابت. وعند تقديم "العزف على اوتار الجسد" أدتها عهود وميسون خليل ومحسن الشيخ. أما "محاولات" وهي من اخراج منعم سعيد ومن تأليفه، فقد عرضتها الجماعة في الأول من آب عام 1987 في منتدى المسرح واشترك في تمثيلها : خالد عبد الهادي ، شاكر عبد العظيم, منعم سعيد، فائز امجد ومشكور ناصر.

       ولوحظ ان بعض الأسماء شاركت في أعمال لم تقدم باسم الجماعة بالرغم من كونها تعود الى منعم سعيد مؤلفا ومخرجا كما في " العزف على اوتار الجسد" التي قدمت باسم الفرقة القومية للتمثيل – فرع القادسية وذلك يوم 2/12/1986 مثل في لوحتها الثلاث خالد إبراهيم وعبد الله سعيد وشاكر عبد العظيم سبق لهم الظهور مع "جماعة الديوانية" فهذه الظواهر لا تدل على تماسكها ككيان منضبط كان يؤمل من ان يتطور ليصبح فرقة أهلية ذات كيان ونظام وخبرة متراكمة!

       واتسعت دائرة الهواية ليدخلها فنانون معروفون منهم شفاء العمري الذي اشترك عام 1995 بمسرحية " الثرثرة" في المهرجان الثالث للمسرح العراقي وهي من تأليفه واخراجه وقام بالاداء نذير العزاوي وقدمت على قاعة الشعب.

 

ت‌-                          ضآلة دور المؤسسات الأكاديمية:

أ  أدى " معهد الفنون الجميلة" بعض الدور في ممارسة هذا النوع من الفن. وان ما قدمه طلابه من اطاريح تخرج وعروض خاصة، قد تم بمبادرة شخصية للطلاب وليس بتخطيط من المعهد ذاته، وبروح متحمسة ورغبة شابة للخروج على السائد والمألوف من الأعمال رغم افتقاد مناهج المعهد الى المستلزمات العلمية والمادية! وقد وجد الطلاب ان لا مناص لهم وقد ورطوا أنفسهم بأنفسهم، إلا الاعتماد على ذواتهم وإمكانياتهم الخاصة. لنر الآن ما فعله أصحاب تلك المغامرات اللذيذة والصعبة؟

حين شرع حسين علي هاشم(الدراسات المسائية) بالاستعداد لتقديم اطروحته "فصل بلا كلمات" لبيكيت اضطر الى دراسة فنون أخرى تتصل بفن الميم مثل سينما الرسوم المتحركة والباليه ومسرح الدمى تمهيدا لدراسة فنون أخرى تتصل بفن الميم مثل سينما الرسوم المتحركة والباليه ومسرح الدمى تمهيدا لدراسة الحركات والإيحاءات التعبيرية التي ينبغي ان يتصف بها المؤدي ليكتسب مرونة جسمية وجودة في التمثيل. ووجد عند تحليله للمسرحية انها حكاية رجل يقذف به في الصحراء حيث يعثر هناك على بعض أسباب الحياة ومقاومة الموت جوعا وعطشا.. مثل الشجرة الظليلة والمقص والقارورة والمكعبات. وان بيكيت "يحمل مسؤولية فشل الانسان على المجتمع، بينما يرى حسين علي هاشم أنها تقع على عاتق المجتمع الرأسمالي بالتحديد باعتباره مصدر تعاسة الانسان واخفاقاته ولانه يستنزف قوى الانسان الجسمية والعقلية، فما على الانسان إلا أن يحدد موقفه من هذا الاستنزاف بان يستجمع قواه ويرفض حتى وان كانت العاقبة وخيمة "وبهذا الفهم اختلف المخرج عن المؤلف وللتعبير عن ذلك عمد الى تنحية القارورة جانبا. وزود الرجل بادوات أخرى لم يحسن استثمارها لغباوته وسوء تدبيره. فأدان الانسان البليد على عكس ما فعله بيكيت ومؤكدا على مسؤولية كل من المجتمع والانسان ليخلص الى هذه النتيجة "الإنسان اثمن رأسمال واثمن ما فيه عقله" قدمت المسرحية في 29 نيسان عام 1979 حتى أقدم منعم سعيد من الدراسة الصباحية على تقديم المسرحية نفسها بالرغم من ان المعهد يشترط ألا تقدم نفس المسرحية كأطروحة إلا بعد مضي خمس سنوات في الاقل وقد اضطر الى اتباع نفس طريقة حسين علي هاشم في الاستعداد. والفرق بين الاثنين ان حسين قد انقطع بينما واصل المسيرة منعم سعيد ولف حوله مجموعة من المعجبين به وبفن الميم وشكل جماعته مبرزا في التمثيل والتأليف والاخراج.. ويتصف شأنه شأن عدنان نعمة بادراك خصائص الفن الذي يمارسه وسعى لاكتشافه واكتشاف نفسه خلال تجربة الخطأ والصواب. ومن مصادره في التأليف : النصوص الأدبية والإفادة من قراءاته والاقتراب من الواقع اليومي مستلهما..

وقد أنجب المعهد أكثر من موهبة اثبتت حضورها على صعد التأليف والاخراج والتمثيل مثل منعم سعيد واكرم كامل ورحمن عبد الحسين الذي شكل مع محسن الشيخ ثنائيا مرموقا. ومن اعمال محسن الشيخ، المعروف بالغزارة انه كتب واخرج ما بين سنتي 81، 97 ما يزد عن عشر مسرحيات،منها : "مهرج الملك الحزين" ، " الموسيقار الضاحك" ، "احمد الزعتر" ، "بائع الضحك" ، " سمفونية الضحكة"، " محاولة القبض على الصدفة"، " الصمت أيضا"، " أنت-أنا-أنا-أنت"، " سمفونية الصمت"، " أيها الطائر مكانك الفضاء" و "أيها الطائر لا يكفي ان تقول لا" ويتميز عن الآخرين باستثمار الفرص المتاحة للانغمار في العمل، فقد عمل باسمه وتحت يافطات الآخرين أعمالا كثيرة وبحب غريب. ومعظم هذه الأعمال شهدتها قاعات المعهد وساحته وحديقته.. كما شاهدتها أماكن عرض خارج المعهد.

ب - مثل أكاديمية الفنون الجميلة او كلية الفنون الجميلة كما تسمى الآن، كمثل المعهد فقد عرضت الاطاريح وأعمال الطلبة، غير انها تميزت بانخراط بعض أساتذتها في التجربة كشفيق المهدي. وغالبا ما ولدت أعمالها ولادة قيصرية وتمت في ظل غياب المستلزمات الضرورية والطبيعية.. وإذا كان الباعث الأساس لطلابها هو التعبير عن الذات فلا يستبعد وجود بواعث أخرى كالحرص على اثبات الحضور في المناسبات او الرغبة لتأكيد الذات او اصطياد جائزة في مسابقة وحتى مجاراة الجديد وتقليد المودات والصراعات. ويحسن بنا تسليط الضوء على تجربة متميزة نهض بها الفنان شفيق المهدي طالبا ومدرسا مؤلفا ومخرجا وممثلا.

 

شفيق المهدي:

تصدر شفيق المهدي أثناء دراسته في الكلية صفوف زملائه منذ اعماله الباكرة التي افتتحها بمسرحية "الدائرة المثلثة" عام 1980 وهي عن رجل يقبع في مكان غير محدد ويتعرض للتعذيب فيضرب ويوخز تهدده انشوطة حبل يتدلى من السقف. يتمكن بعد لأي الامساك به محاولا شنق نفسه يأسا او لسبب آخر او يتناهى اليه وسط العذاب والآلام صفير وتصفيق وموسيقى راقصة وفي مشهد آخر ينزل حبل من فضاء المسرح وليمتد الى مقاعد المتفرجين في تعبير واضح بان الموت يشمل الجميع. بعدها يسمع عزفا على الكمان وسط الصفير والتصفيق. ويتحامل الرجل المهدد على نفسه ويأخذ بالرقص العارم تتداخل معها حركات التعذيب.. وتسمع الموسيقى في ارجاء المسرح والصالة.. بعدها تهدأ حركة الرجل ويسقط جثة هامدة ويسود الصمت كأن الخراب الشامل قد حل المدينة!

       وخطا شفيق المهدي في العام التالي خطوة أكثر جدية تعبر عن ثقته بنفسه وشعوره بالمسؤولية ازاء فنه حين تقدم بمسرحية "فصل بلا كلمات" لبيكيت كاطروحة لنيل شهادة الدبلوم العالي واعقبها بمسرحية " الموت بلا كلمات" وكتب مسرحية " كلات متقاطعة" التي أخرجها عباس علي ومثل شفيق احد ادوارها وعرضتها الاكاديمية ثم أعادت عرضها على قاعة المركز الثقافي والاجتماعي في كركوك والحدث الأكثر أهمية في حياة شفيق وسيرته الفنية قيامه باعداد " المعطف " لغوفول عام 1981.

 

نموذج المعطف:

       "المعطف" قصة غوغول التي أثنى عليها ديستويفكي ثناء عطرا، حين وصف أثرها العميق على كتاب روسيا قائلا: "نحن جميعا خرجنا من معطف غوغول" هذه القصة استهوت العديد من فناني الميم والبانتوميم. اذ وجدوا فيها سحرا خاصا. غير انهم لم يتقيدوا بأحداثها كما فعل مارسو و توماشيفسكي وغيرهما. فلا غرو ان نجد شفيق المهدي واقعا تحت تأثيرهما. فان بشما تشكين بطل معطف غوغول انسان اعتيادي وفقير يحلم بالحصول على معطف جديد يشعره بالتفوق وعلو الشأن في السلم الاجتماعي كما يحقق له انسانيته. ومن وجهة نظر الناقد السوفيتي خرابتشينكو ان مأساة البطل تكمن في فقدانه لحقه في الحياة الانسانية. فالمجتمع يحطم ذاته وغوغول كما يرى الناقد "يجبرنا ان نتحسس وبعمق انسحاق البطل ومذلته حتى عندما لا يجري الحديث عن علاقات بشما تشكين بالظروف الاجتماعية المحيطة به (33)، وقد أفاد الفنان العراقي من هذه الفكرة ليضفي عليها قيمة انسانية ذات مسحة محلية وان اكتنفها جو أجنبي من حيث المظهر الخارجي، ويتجه بمنحاها النقدي المنسجم مع واقعية غوغول النقدية وجهة أكثر رحابة. لذلك وجدت في مأخذ الفنان سامي عبد الحميد على شفيق  المهدي لخروجه على "التفاصيل" مأخذا غير دقيق ويكاد يشكل قيدا يحد من انطلاقه وإبداع المهدي. ( 34)

       وفي اعتقادي ان واضع السيناريو ومخرجه كان واعيا لجوهر القصة الإنساني ومنحاها النقدي، الذي نشرته جريدة الثورة في الخامس من آذار عام 1984 حين قال ان غرضه "يلتقي مع القصة ويبتعد عنه بما يخدم روح المعاصرة وبعمق فكرة الصراع والاستلاب" كما برهن العرض ذاته على ذلك وان اختلفنا بشأن مستوى نجاحه في ايصال الفكرة.

       واعتمد شفيق في الإخراج على سيناريو اعد خطوطه ذهنيا ثم نضج لاحقا أثناء  محاولة تجسيده على المسرح المدرج في أكاديمية الفنون وفي خضم النقاش مع فريق العرض المؤلف من الطلبة.. بعدها اتخذت الفكرة شكلا مكتوبا تم انجازه في الثاني والعشرين من شباط . وادخلت عليه بفعل التغييرات وليست في هذا أي مثلبة. ولم يشترك شفيق في العرض ممثلا كما اعتاد معظم فناني الميم، ففضل ان يضع فريق التمثيل وسط الكادر مسلطا عليه نظراته ليصوغ منهم التشكيلات الأثيرة لديه. وقد ارتكز العرض على عنصر تجريدي هو الموسيقى (تصميم خالد علي) وعنصر بصري هو الإضاءة (تصميم رعد مكي) ونهض المخرج بعبء تصميم الديكور بشكله المبتكر النبيه فبدأ للوهلة الأولى شبيها بسرادق ابيض تتدلى على جانبيه ذراعان. ولكن عند امعان النظر فيه تجده يتخذ شكل معطف. كأني بالمخرج أراد ان يقول ان المسرحية التي تعالج قصة صاحب معطف، انما تدور احداثها في طيات معطف.. بمقدورنا ان نلف به اجسامنا المقرورة او ان نظل خارجه ليخضنا البرد. وما هذا المعطف سوى المجتمع! وقد ودت ان بياض المعطف وقماشه الخفيف يناقضان جو البرد الشديد ، فكان ينبغي ان يكون ذا لون مختلف بما يشعرنا بنقل البرد! وهو بالتاكيد ليس برد الطبيعة وحدها، وانما هو برد المجتمع الذي لم يشعر ( اكاكي) بطل ( المعطف) بالدفء والحنو الانساني بل سحقه واذله بقوة بالغة!

       ان الفكرة الفانطازية التي يوحي بها تصميم الديكور كونه معطفا داخله. أي معطف اكاكي والمجتمع- المعطف تتوضح بخروج إحدى الشخصيات ( الرجل – الكم) واختفاء أخرى. توحي في الوقت نفسه ان الفضاء الممتد بين الكمين هو ستارة وهمية يمكن فتحها واغلاقها.

       يبتديء العرض شبيها بعرض فرجة نتطلع اليها وبيننا – كمشاهدين – والعرض مساحة معينة توحي بالحياة او المراقبة من خارج العرض. فقد بدأ المشهد الأول وصاحب المعطف جالس وسط المتفرجين وهي حركة تنطوي على أكثر من معنى، فهي توحي بجو الفرجة-كما اوضحت- او ان اكاكي هو واحد منا. او ان أيا من المشاهدين يمكن ان يكون مرشحا للعب دور اكاكي (مثل الشخصية كريم عبود) نراه يجلس جلسة طبيعية مسترخية، ولولا ملابسه المسرحية والضوء المسلط عليه لما انتبهنا الى وجوده. ويحدق في الفتحة الوهمية كأي مشاهد آخر. وخيل لي ان طابعها مرحا يحيط بالمشهد الأول كأننا على وشك التفرج على لعبة سيرك مسلية لكنها لا تخلو من رصانة، ثم يتلاشى المشهد لتأخذ مكانه مشاهد أخرى جدية تتحول تدريجيا الى مشاهد قاتمة هي الحوادث التي تعرض لها اكاكي داخل المعطف المجتمع .. في سلسلة من الآلام والعذابات.

       وقد ألبس المخرج ممثليه، بعضهم مثّل أكثر من دور، زيا موحد التصميم للفنانة امتثال خليل، مؤلفا من سروال اعتيادي وقميص ابيض فكانت الألوان. إذا ربطناها بالإضاءة التي غلبت عليها الألوان الطبيعية وبياض الديكور، تبدو باهتة وفقيرة. كما ان الزي لا يبرز لعدم ضغطه على الجسم الحركات العضلية التي لا غنى عنها.. اعتقادا بان ممثلنا لم يدرب او يعد ليكون ممثل ميم!

       تقوم بتقديم العرض امرأتان تتوجهان الى الجمهور بالإشارة بان يكون احدهم بطلا للعرض، فيستقر – كما هو متوقع- الرأي على اكاكي فتجري له عملية اصطياد كأي سمكة. وتمتليء المرأتان فرحا لنجاح مسعاهما المفتعل واثناء التقديم يكون الرجل الكم(جورج جميل) داخل عالمه السري.. حيث تمسك الصنارة بحنجرة اكاكي وللحركة هذه مغزى بان الحنجرة ليست مجرد صندوق صوتي وانما هي وسيلة الرفض والصراخ والاحتجاج وشتى مشاعر الانسان الحي. وخيل اليّ ان لوحة الاصطياد شبيهة بمشهد استهلالي يلجأ اليه بعض المخرجين لتمهيد او إيضاح العرض.

       وتبدأ في اللوحة الثانية عملية تصنيع اكاكي، أي ان المجتمع هو الذي يخلق انسانه او نماذجه. وعندها يظهر رخوا بذراعين متدليتين ورقبة ممدودة وانحناءة ظهر رازحة تحت ثقل الذل والشقاء، مسلوب الارادة. وحالما يصب بهذا القالب تبدأ رحلته مع الحياة وبخطواته الأولى وهي دخول عالم الوظيفة. ويظهر باديء الأمر الفراش (عبد الزهرة ضهد) ينظف المكان والوقت شتاء، ثم يدخل احد الموظفين (صادق فرزدق) تليه موظفة متعجرفة (إقبال نعيم) تعزف على البيانو، يصدر الصوت عن شريط مسجل، بهذه الحركة يحدث بعض اللبس ويكتنفه الغموض ان لم نقل الارتباك .. إذ ليس هناك دائرة او شركة تضع بأيدي موظفيها آلة بيانو يزجون الوت بالعزف عليها!! حتى لو افترضناها ليست محلية فانه مناقض لطبيعة العمل في مكتب المعاملات التجارية ومما زاد الوضع ارتباكا الايحاء بوجود مدفأة في عمق المكتب!

       وعند دخول الموظف المتعالي يهرع اليه الفراش ليساعده في خلع المعطف عنه ويفعل الشيء نفسه مع الموظفة المتعجرفة التي تقوم بشكل سافر بتعديل زينتها أمام المرآة بينما يهرع اليها الفراش متملقا فيساعدها في خلع معطفها. أما كاكي فيدخل هادئا وعلى محياه سيماء الخجل والترقب في قيام الفراش بمساعدته على غرار ما فعله مع زميليه كأنه لم يسبق له التعرف على خلق الفراش! عندها يجد اكاكي نفسه مضطرا الى خلع معطفه وتعليقه بنفسه ولكن باحتراز واعتناء فائقين. ثم تحاصره نظرات الموظف والموظفة. وينسحب الى طاولته المغطاة بالأوساخ فيضطر إلى تنظيفها بنفسه أيضا. ثم يشرع في عمله ويزاول زميلاه لعبة الاشمئزاز من رائحته. ولا يتورع الفراش من اذلال اكاكي ومعاملته معاملة فظة، فيقوم بعزل معطفه الرث عن معطفي الموظفين تعبيرا عن الفصل والتمييز الاجتماعي الذي قد يتسع ليشمل اضافة الى الانسان اشياءه، ويمارسه اناس ليست لهم، كما يبدو ، مصلحة في الاضطهاد. اذ ما هي البواعث التي تغري او تستثير فراشا لاضطهاد موظف هو – في حقيقته- مضطهد.. هذا إذا افترضنا جدلا صحة وجود فراش يجرؤ على ذلك. وهذا الافتراض ينتصب أمام العين لان المخرج لم يكشف لنا عن سر قوة الفراش. وعلى الرغم من هذه الملاحظة فان لهذه الفكرة امتيازها، إذ ان شفيق لم يقع اسير الفهم التبسيطي للصراع الاجتماعي الذي يقدم في الغالب على انه صراع بين شخصيتين من منشأين اجتماعيين متناقضين أصلا.

       ولا غرو ان ترتسم على وجه اكاكي ملامح إنسان أبله ذليل ثم تصدر عنه نأمة احتجاج واحدة، غير ان المشاهد لا يملك سوى التعاطف معه والشعور بالأسى نحوه، ذلك ان المخرج قدمه لنا رقيقا حزينا حزنا شفيفا على طرفي نقيض تماما من عجرفة زميليه وخاصة زميلته التي لم تتورع عن بصق قشور البذور على اكاكي والاستغراق في تجميل نفسها والارتياح لغزل زميلها.. وتزيد الطين بلة حين قذفت في وجه اكاكي بعملها غير المنجز ورغم كل ذلك يظل صاغرا مستسلما فيمكث في المكتب بعد انقضاء الدوام!!

       وفي اللوحة الثالثة لمعطف شفيق يخرج اكاكي الى عالم المدينة لتطالعنا مظاهر أخرى من مظاهر القهر الاجتماعي بشكل فانطازي خلال كم المعطف. فيقطع اكاكي شوارع المدينة على قدميه، فيستثمر المخرج مساحة المسرح استثمارا جيدا مستعينا بطريقة (الخطو الثابت).. يصادفه شحاذ أعمى (يؤدي الدور صادق مرزوق) حين يراه بهيئة شبيهة بما هو عليه يطعنه بعصاه. وتصادفه مومس(تؤدي الدور ثورة يوسف) تحاول عبثا لفت نظره، فكان الاضطهاد الاجتماعي قد أخصاه عاطفيا! ويذهب اكاكي الى خياط سكير بغية رتوق معطفه، فيفاجئه بتميزق المعطف ليبرهن له على عدم صلاحيته، فيرتبك اكاكي ارتباكا شديدا. وبعد لحظات واثر خروج الخياط يتأمل بإعجاب المعاطف المعلقة.وعندما يعود الخياط ينجح في اقناعه بشراء واحد جديد. يوافق وبعد تردد ويبدو عندها جليا التغيير الجديد في نفسيته، فقد اشترى معطفا جديدا. يعود اكاكي الى المدينة ليتجول في شوارعها وليستعرض معطفه... فتصادفه المومس كرة أخرى في قناع آخر فيصطحبها الى الرقص لا لترقص معه حسب، وإنما مع مظهره الجديد بعدما أسبغ عليه المعطف مظهره هذا. وعلى حين غرة تختفي المرأة التي لم تكن في نظر اكاكي غير فكرة.. او رمز او في غفلة ترجع المومس بقناع آخر لتمارس اضطهادا مباشرة فيقع اكاكي اثر ذلك منهارا ويتبخر زهوه. وتتحول المرأة الى رجل بوليس يحدق في جثة اكاكي المرمية على الرصيف.. عندها وحين يحس بوقوف الشرطي ينهض مرتعبا مغادرا المكان. ويظهر الخياط ظهورا غامضا، فينزل اكاكي الى الصالة محييا الجمهور.. ورويدا رويدا.. وهو يصفق تصفيقا ثائرا، وينزل المعطف بهدوء علامة انتهاء العرض.

       من هذا السرد لأحداث قصة المعطف يتبين لنا ان العلاقة بينها وبين أحداث قصة غوغول بعيدة بعض الشيء مما يبرهن على قوة خيال المؤلف والمخرج شفيق المهدي. ان تجربة العرض هذه تجربة شجاعة وممتعة وناجحة نجاحا طيبا وحملت المعاجلة دفئا إنسانيا شاعريا.. واشترك في تجسيد العرض فريق التمثيل بمحبة واخلاص وجدية باعثة على الاعتزاز.

 

صباح الانباري وأدب الميم

انفرد صباح الانباري عن باقي زملائه بتوجهه نحو كتابة النصوص الصامتة أكثر من اخراجها بنفسه او التمثيل فيها، وان قيامه بإخراج إحدى مسرحياته وهي " الالتحام في فضاءات صماء" ليس سوى الاستثناء الذي كسر القاعدة. ويظهر ان ثمة تهيبا يسود فناني بعقوبة، حيث يقيم الانباري ويعمل بمنعهم من المغامرة في اقتحام التجربة عامة فيما عدا سالم الزيدي الذي قدم بعض أعماله الصامتة. ومن اللافت للنظر ان الزيدي لم يلتفت الى أعمال الانباري رغم جودتها وتميزها!

       نشر الانباري بين عام 94ـ 98 أربع مسرحيات ثلاثا منها في جريدة الثورة هي : 1- "طقوس صامتة" يوم 28/1/94 ، 2- "حدث منذ الأزل" يوم 13 مايس 94، 3- "متوالية الدم الصماء" يوم 27/8/95. ونشر واحدة منها في مجلة ألف باء ( 15504 في 10/6/98) هي "محاولة لاغتيال الصمت" وخط حتى كتابة هذه الدراسة أربع مسرحيات أهداني نسخا منها مشكورا، هي: "الالتحام في فضاءات الصمت" عام 1995، و "الهديل الذي اغتال صمت اليمامة" و "ابتهالات الصمت الخرس" عام 1997، و "سلاميات في نار صماء" 1998. ويلاحظ على عنوانات المسرحيات تكرار كلمات الصمت، الصماء، الخرساء والاغتيال" لعلنا نجد تفسيرا لمعناها في داخل المسرحيات.

 

1-   طقوس صامتة.

تتألف المسرحية من مشهدين، جاء تقسيمهما وفق طريقة المشهد الحديث. يبدأ الأول منهما بخروج الناس مرعوبين لسبب مجهول. وعندما يستوقف الرجل ذو الملابس البيضاء احدهم لا يعيره التفاتا. ثم تظهر على دكة امرأة وهي تتخفف من بعض ملابسها راقصة. ويظهر خلفها رجل ضخم بسيف وهو يؤدي الحركات نفسها وقد سلط عليهما ضوء احمر رمز الشهوة القاتلة. ثم تضع المرأة رقبتها على النطع ويطيح السيّاف برأسها.. ويتكرر الحدث مع امرأة أخرى فيما يشبه الطقس الوثني.. لعل ذلك سبب تسميتها بالطقوس!. وتنسل من الحشد امرأة ثالثة تتجه نحو الجسر فيتبعها الرجل ذو الملابس البيض بعض الطريق ثم يعود ليمسك بيد السياف ليمنعه من توقيع العقاب بإحدى النساء.. والغريب أنها ترفض العون وتسلم رقبتها للقطع وتتقدم امرأة غيرها من الرجل برقة لتقدم له اضمامة ورد وهي تبدو كالطيف او الحلم الشفاف عندما يحاول الإمساك بها تختفي عن ناظريه فلا يقبض إلا على الفراغ! ويدخل الى المسرح رجلان مسلحان بمسدسين يجبرانه على الركوع والاستسلام.. ويقبل السياف ليقطع رقبته فتجمد حركته في الهواء فينسل بعيدا بعدما انتزع السيف الذي يرتفع بحركة غامضة فوق الرؤوس. ويحلم الرجل بان هناك رجلا آخر بملابس سود شبيها به.

      يحاول الإمساك به دون دوى.. فكأنه الوجه الآخر له او ظله وربما الحقيقة المقنعة.. سرعان ما يختفي حالما يرفع عليه فأسا .. فيبدو الجانب الشرير من الإنسان الذي لا يقهر إلا بالقوة.. ويظل كامنا في الأعماق او تعكسه المرآة.. وكلما اقترب من الآخرين اشتد الصراع بينه وبين شبيهه!

      وفي المشهد الثاني، وقد مضى زمن ما، يظهر الرجل بمعية امرأته وطفله متجهين نحو الجسر للعبور. نحو عالم آخر، فيعثرون على جثة المراة الهاربة. ويطلع عليه مسلحون يقودهم رجل دميم رمز الشر والقبح يقترب من المراة متشهيا. وينقضون على الرجل ويوثقونه ثم يغتصب الدميم الزوجة قسرا.. بعدها يظهر ثلاثة رجال يمثلون السلوك الانتهازي ليسخروا من محاولة الزوجين عبور الجسر. ثم يظهر رجل قصير ملتح وملامح قاسية ليقترب من الزوج فيشيح عنه مزدريا فيطعنه حتى الموت. وعندما يحاول آخرون العبور تعترضهم النيران وتلوح فوقهم صورة الطفل وينبلج الصباح بعد ليل طويل.

     المسرحية ذات موضوع واحد غير ذي مكان محدد، أداره الكاتب وسط صراع عنيف، وحداته (القتل، الاغتصاب) وصيغت في حبكتين لا تترجح احداهما على الأخرى مما أربك بناءها وتزدحم المسرحية بالشخصيات، منها ما هو أساس ومنها ثانوي او هامشي وحتى فائض ومتكرر(الرجل الوسيم، الرجل القبيح، الرجل القصير)، كما تزدحم بأفعال تبدو ضعيفة الصلة بالهيكل العام كهرب الفتاة من السياف خلسة.. وغموض صلة قتل النساء بمشهد التعري.. ورغم هذه الملاحظات السلبية فلا تحجب قوة الرموز الأخرى وان انتهت المسرحية نهاية متفائلة لكنها مفتعلة جاءت من غر مقاومة.. وان الرجل ذا الملابس البيض رمز النقاء لابد له منذ بدء الأحداث ان يفعل شيئا..

 

2-                الالتحام في فضاءات الصمت

اخرج الانباري هذه المسرحية عام 1995  وقدمها على قاعة التربية في بعقوبة، مستفيدا من قصة" الالتحام" لعبد الحليم المدني في مقاربة عامدة بين فني القصة والمسرح، مثل فيها خالد جدّوع ولميعة الناشيء وعبد الستار الربيعي وغفوري محمد ومهند زيدان واباء صباح ونبيل ابراهيم وصباح الانباري. وكان المخرج يأمل ان يعاونه مؤلف موسيقي فلم يتم له ذلك فاختار موسيقاه من مكتبته الخاصة وحرص على ان تكون المقطوعات ملتحمة مع الاداء وليست طارئة عليه. واكتشف المخرج في خالد جدوع موهبة متألقة تمتلك مؤهلات ممثل الميم! جسم مرن، حساسية واذن موسيقية واداء تمثيلي بارع فاستثمرها الانباري ببراعة وذكاء فأدى خالد الشخصية أداء عذبا مثيرا أثار دهشة المتفرجين وشدهم الى العرض خلال العشرين دقيقة التي استغرقها.

  تبدأ الحركة الأولى من المسرحية بظهور ثلاثة كهول تسلط عليهم بالتناوب أضواء حمراء وزرقاء وصفراء. يقفون على مدرج. ويقوم احدهم بحركات كاهن أو ساحر ويدخل من الصالة بملابس بيضاء يحمل مصباحا ويصعد على المسرح يتبعه رجل بملابس سوداء كظله .. يطلق النار على الرجل الأول فلا يسقط، بل يطلق صرخة صماء ثم يستدير اليه باسما ويأخذان بالرقص رقصة(القدر يطرق الأبواب) بحركات موحدة!

  وتبدأ الحركة الثانية وقد سلطت الإضاءة الزرقاء على (السايك) .. ويدخل الكهول وحملة (تابوت) وحالما يفتحون غطاءه تخرج فتاة وهي ترقص الرقصة ذاتها. وتحاول الالتحام بالرجل القتيل الواقف جانبا، لكن يبتعد عنها. فتعاود المحاولة بحركات نزقة لا يستجيب لها القتيل. وعندها تتدلى من فضاء المسرح انشوطة توضع تحت ابطيه ويرفع عن الأرض قليلا.. وتعود الفتاة الى التابوت ويخرج الكهول فتسري الحياة في جسم القتيل ويقوم بحركات محلقة. ويعود القاتل فيصوب النار الى رأس القتيل ثانية فيصرخ الاثنان صرخة صماء.. يتألمان ويتداخلان ببعضهما في حركة ملتحمة ويسقطان ميتين ويسدل الستار على همهمات كورالية.

  وفي مشهد آخر يهبط القتيل من فضاء المسرح وتمر به الراقصة في زي عصري.. كما يمر به كذلك الكهول بملابس عصرية إشارة الى تبديل العصر. ويتبعهم الرجل، وتصدر من خلف الكواليس صرخات متألم. يعود الكهول يحملون الهراوات فيحيطون بالرجل وشبيهه و يسحبونهما خارجا.. ويعاودون الظهور.. وتظهر مرآة كبيرة وتأخذ بمطاردته.. وتنعكس صورة الكهول عليها ثم تختفي. ويحدق القاتل بالقتيل وتصدمهما الأصوات وتؤلمهما فيطلق الواحد منهما النار على الآخر فيسقطان ويجهز عليهما الكهول بصولجاتهم!

  وبالقدر الذي تبدو حبكة المسرحية متماسكة بناء وهيكلا فانها تبدو غامضة المعنى.. فالكهول في مظهر كهنوتي ويظهرون في المشهد الثاني في ملابس عصرية لكنهم يحملون الهراوات والصولجانات. وهم يقومون باضطهاد رجل فيقتله شبيهه ويقتل هو الآخر الشبيه.. لعل المسرحية أرادت ان تقول عبر رموز مسرفة في الرمزية ان قوى الاضطهاد واحدة وان اختلفت مظاهرها ووسائلها وأدواتها. وان الضحية وان انطوت على الطهر والنقاء تحمل في داخلها وسائل تدمير ذاتها.. وبهذه الفكرة يكون المؤلف قد نظر الى الشر الدفين من زاوية مغايرة مما يسهل على قوى التدمير الخارجي ان تحقق هدفها!!

 

3-   حدث منذ الأزل

تعالج المسرحية "الخطيئة" كما حدثت في الأزل. يرمز الكاتب لها بتفاحة كبيرة، يطرد منها رجل وامرأة بالقوة.. عندها يكتشفان نفسيهما ويصغيان الى موسيقاهما الداخلية. يختفيان خلف التفاحة فيرتعش الضوء بايقاع مصحوب بتأوهات وتنهدات. ثم تظهر شابة جميلة مع شابة قبيحة وتتخذان مجلسيهما على تفاحتين اصغر حجما.. وهكذا تتكرر الخطيئة عبر الأجيال وينشب الصراع.. حيث يتغلب شاب على منافسه ويستحوذ على الشابتين.. يتمدد الشاب المهزوم على الأخص وسط الازهار.. وتتجه نحوه الشجرة/ المرأة.. فيرقصان رقصة الحب. وتطرح الشاب قوة غامضة مهيمنة على شكل ستارة/جدار. ويظهر الشاب المنتصر وهو يحاول ان يفرض سلطانه مستعينا بفصيل من المحاربين فينشب بين الشابين صراع غير متكافئ فيهزم الشاب ثانية ويؤخذ أسيرا.

       ويتحول زمن المشهد الى حقبة تاريخية أخرى يكون فيها الشاب المنتصر قد اتخذ التفاحة الكبيرة خلفية واتخذ أجساد البشر عرشا وبسط نفوذه بتجنيد آخرين. ويظهر ببزة عسكرية معاودا عزمه على ترويض الرجل المهزوم..عندها يخرج من التفاحة الجيدية ويغرز في عينيها السيخ.. وعبثا يحاول المهزوم الانتقام..

       وبالغرم من ان الكاتب لا يمر الا بثلاث مراحل من التاريخ فانه يشير الى المراحل التي قطعها الصراع من اجل المرأة والسلطة محاولا ان يؤكد بأزليتهما فيبدو الكاتب ذا موقف ووجهه نظر خاصة!

 

4-   متوالية الدم الصماء.

ثمة رأي معروف يقول بان بعض الصروح الحضارية في الشرق القديم كالأهرام مثلا. قد بنتها أيدي أناس من حضارات أرقى قدمت من الفضاء الخارجي. قد يكون صباح الانباري قد اطلع عليه فاستثمره بنباهة أكيدة في تأليف المسرحية، فقد تخيل ان مركبة فضائية تحط فوق معبد سومري وينزل منها ثلاثة رواد يطلقون على الشباب أشعة تجمدهم.. فيهرب الباقون ومعهم الكاهن الى الداخل. وينزل من فضاء المسرح عملاق يشدونه الى عمود جوار ستة شبان آخرين، ويأخذ رجال الفضاء بسحب الدماء منهم بعد ربطهم معا.. ثم تغادر المركبة حال ان ينتهي الرواد من عملهم.

       ويطل الكاهن ويتشجع الفارون.. ويحدث هذا خلال طقس ديني خاشع.. ويصير الشاب الأول كالعملاق ويتوج حاكما وعندها يظهر رجل متوج يحاول بمؤازرة الجنود الحفاظ على سلطانه لكنه سرعان ما يهزم ويحل مكانه الشاب-العملاق.. وأول ما يفعله إقامة حفلة ويأخذ عنوة العروس من عريسها ويجند أقوى الشباب وبذلك يكتسب مظاهر القوة والنفوذ مكونا هرما بشريا يرمز الى سلطته.

       وتعود المركبة مرة أخرى ويتكرر المشهد ذاته، ولكن ليستبدل الحاكم بآخر دون ان تفيده المقاومة.. وكما هو واضح ان فكرة المسرحية تؤكد ان السلطة تتبدل عندما تشيخ بسلطة أقوى وأكثر شبابا عبر عملية نقل الدم إكسير الحياة.

 

5-   محاولة لاغتيال الصمت.

تكشف المسرحية عن براعة في وصف الصورة المسرحية وصفا مشخصا وواضحا، وفي استمثار الرموز اللونية والبصرية والسمعية استثمارا حاذقا.. فاللون الأبيض لملابس الرجل.. كما هو معروف وكما ظهر في المسرحيات السابقة- يرمز الى النقاء والطهر.. وكذلك الأسود يرمز الى الشر.. الى الحقد .. والعداء .. والعسف. والجمع بين اللونين يعطي معنى جديدا يشير الى السلوك الانتهازي والمتقلب. وتوحي رقعة الشطرنج الى إدارة الصراع الذي يجري كما في لعبة تحرك بيادقها قوى شريرة تجبر الرجل رغما عنه على الدخول في شراكها. وان محاولته للتحرر منها تعني دفع ثمن باهظ نتيجته القهر والاستلاب. وقد استثمر المؤثرات الصوتية عن ادراك لقيمتها واثرها التعبيري – الجمالي.. تبدأ بالعيارات وتمر بفرقعة السلاح والانفجار وتنتهي بصرخة الاحتجاج على الصمت الذبيح. واستثمر الضوء ليدل على الحلم.. وبالرغم من وفرة الرموز فان النص لم يكن رمزيا بل واقعيا لصيقا بأرض الواقع ومكرسا لمعالجة الصراع بين الخير والشر نازعا عن سمعته الميتافزيقي متجها به وجهة عنيفة صارمة. اما المرأة فتظهر كأنها الوجه الآخر لنقاء الرجل.. وكأنها مثال الرقة والشفافية، وفي الوقت نفسه تظهر ضحية وقربانا.. وحين تدخل فهي تدلف الى الواقع والحلم مخذولة محطمة شاحبة مدماة راحت ضحية الوحشية والظلم. وراح طفلها البريء رمز الولادة الجديدة، ضحية طاهرة لا يكتفي الأشرار بقطع رأسه بل يجرون أمه خلف الكواليس لاغتصابها. وعبثا يحاول رجلها ان ينقذها يقاوم شباك اللعبة ويقاتل لكنه يقذف سلاحه نافرا مشمئزا وهذه نقطة ضعف في البنية الفكرية للرجل فهو يملك غير صرخة يطلقها ويتردد صداها بعد ان حاول ان يدفع الجدران بعيدا. ومن وجهة نظر شخصية ان "لفظة الاغتيال" في عنوان المسرحية لا تنسجم مع (الفعل) الانساني للرجل فهي توحي بالغدر فضلا عن ان الرجل لم يلجأ اليه أصلا ! ومهما يكن فان النص ينطوي على أكثر من مستوى فني وتلك فضيلة كبيرة.. فهي تنتج تعددا في المعالجات الإخراجية. صحيح ان الموضوع كما يبدو في الظاهر صراع تقليدي بين الخير والشر، غير انه يثير تساؤلات عديدة عن ماهيته وأي خير هذا ؟ فالشر كما تظهره المسرحية والمسرحيات الأخرى مدجج بالسلاح ومحتم بالسلطة والخير مدجج بإرادة الرفض والخلاص.. يظل التناقض بينهما مفتوحا وعنيفا وصعبا فهو صراع ثنائي القطبين: الحصار-المقاومة، النقاء-الدم، العسف-الحرية.. انه صراع لا هوادة فيه رغم الاختلال في ميازين القوى غير انه لا يبعث على الخنوع أو الهرب بل يستفز القاريء ويهزه ويثير خياله بل ويحفزه!

 

6-   الهديل الذي اغتال صمت اليمامة.

تتملك المرأة الجالسة الى المنضدة الوحشة والوحدة. فتتخيل حبيبها يشغل الكرسي الفارغ والمقابل يشرب معها العصير.. تجلس منصرفة الى قراءة "ذهب مع الريح" لماركريت ميتشل وفي مخيلتها تتماهى مع بطلة الرواية.. ووسط هذا الاستغراق تتوالى انفجارات تعقبها اصوات هديل يمامة.. يا للمفارقة فالحبيب يرسل هديله حين يروم الالتقاء بها.. فيشعرها الجو بالحزن وآلام الفراق.. وتتراءى لها اشباح ذات اشكال هلامية.

       وينزل من فضاء المسرح مشبكان حديديان ومرعبان.. عبثا تحاول التحرر من المشبك فهو يحبسها.. ثم يظهر مشيعو جنازة.. هل مات الحبيب؟ هل تستحضر موته؟ ثم يظهر رجل قصير دميم مع اثنين يشبهانه يعمدان الى شرب ما في الكأسين. ويحاولون اغتصابها بعد ان دنسوا حرمة المكان، فتنطلق من فمها صرخة استغاثة مدوية فلا مغيث، ثم يظهر شبح الحبيب كأن شيئا لم يحدث للحبيبة. ويقتحم الرجال الثلاثة مكانها ويطبقون عليها المشابك.. ويصل اليها هديل اليمامة بينما هي تعود الى القراءة مشعثة الشعر متورمة الوجه.

       ويلاحظ هنا تكرار وحدات لمسرحيات أخرى كالقتل والاغتصاب ويختلط بها الواقع بالخيال، كلاهما قاس.. ولكن الواقع أكثر وحشية، وتنفرد المسرحية بجو شاعري رقيق يناقض ما يجري وتنتهي نهاية باهتة.

 

7-   ابتهالات الصمت الخرساء.

يجلس الرجل الأكبر يحف به اثنان من رجاله جلسة مهيبة. يتطلعون الى إحدى التشكيلات وهي تجلد إحدى الضحايا وقيام تشكيلة ثانية بضرب رجل، وتنفذ الثالثة حكم الإعدام بامرأة. وعندما تصدر من الضحيتين الاستغاثة يأمر باعدامهما عندما يهبط على ظهر نجمة رجل وسيم تطفح على ملامحه علامات القداسة والهيبة والسماحة والنبل.. وعندما تراه المجموعة تتلقاه متفائلة وسرعان ما يتبدد هذا الشعور حالما يطل الرجل الأكبر ويقوم الرجل المقدس بشفاء أعمى واحياء ميت فيعمد الرجل الى قتلهما لينتشر الخوف ويعم الارهاب والانفضاض من حوله. ويجبر الرجل المقدس على الرحيل حزينا متألما وتعود المجموعة الى اخفاء رؤوسها خانعة. فالمسرحية تروي خذلان من يتصدى لإنقاذها وتقبل بالخنوع لجبروت الأرض. وهي الوحيدة من بين باقي المسرحيات التي تنتقد عامة الناس وخذلانها رسالة السماء!

 

8- سلاميات في نار صماء.

              يتهدد الحب بين رجل وامرأة بقوى مكونة من ثلاثة كهول/تماثيل. ثم تفرق بينهما صاعقة حالما يحاولان الاقتراب من بعضهما فكأن لعنة سماوية قد حلت عليهما فتفرقهما. ويحاولان الالتقاء دون جدوى.. وتتوجه نحو الرجل شجرتا ورد تقدما له باقتين.. ويصدر صوت غامض.. وتظهر الشجرتان وتقدما للمرأة باقتين أيضا.. عندها يلتقي الحبيبان ويأخذان بالرقص ويحاولان الالتحام ببعضهما فتقاطعهما أصوات مخيفة.. وقبل ان يعثرا على بعضهما يسقط من فضاء المسرح سيف ضخم ينغرز بينهما مفرقا.. ويحل الظلام.

       ثم يتبدل الزمن الى الوقت الحاضر.. تسمع اصوات السيارات، فيرى الرجل وهو يبحث وسط الزحام امرأته مقبلة من بعيد باحثة عنه.. وتضمهما جلسة عاطفية تنغصها أصوات كلاب بشرية تقوم بمهاجمتها يتم تقييد الزوجين من خلال  جهتين متعاكستين.. و يحاولان الاقتراب من بعضهما و بالكاد تتلامس اصابعهما.. ويعترضهما رجلان مقنعان يمسكان بطرفي حبلين شدّ بهما الاثنان. ويطلقان النار على رأسي الحبيبين. وعند ذلك يظهر الكهول/ التماثيل تحت اقدامها نقالة ويأمر احدهم وهو ذو لحية بيضاء الكهلية الآخرين بأن يرميا بالقتيلين في النعشين فيتراجعان خائفين. وينهض الزوجان من رقدتهما فيتقدم الكهل والاشيب من المرأة فيصده رجلها.. ويجبره الكهول على الانفصال عنها ويأمر بحرقهما احياء.

       في حسباني ان المسرحية تريد ان تقول ان الحبيبين لا يكفي ان يبديا الطاعة الشكلية، بل ينبغي ان يدفعا ثمنا اغلى. وان المقاومة والدفاع عن العرض تقابل بالعقاب الشديد.

       ان عالم صباح الانباري عالم عنيف وقاس.. يجري في ظاهره وفي اعماقه صراع ضار لا هوادة فيه لا تتورع القوى الشريرة الغامضة عن ارتكاب افظع الجرائم من اغتصاب وقتل في سبيل ترويض الأخيار.. فان لم يجد الاغراء تلجأ الى القوة الغاشمة.. وهي ترتكن الى القوة المسلحة تخدع السذج والانتهازيين وتجندهم ليكونوا أدوات مسخرة طيعة لابادة الخصوم وغالبا ما يجري الصراع غير متكافيء، فالشر بدمويته ووحشيته مدجج بالرجال والسلاح وبالرغم من إدراك الخيرين هذه الحقيقة فهم يقامون بيأس أو اندفاع ويهزمون دوما.. ولكن الأمل بانبلاج الصباح يظل حيا في صورة طفل بريء أو امرأة حالمة و الحب تلك الطاقة الجبارة رمز الحياة و الجمال هو المهدد بالانتهاك.. تروح ضحيته الزوجة والحبيبة.

       انه عالم تحتشد فيه الأطياف والأشباح والأحلام والكوابيس.. تجوب الدنيا وهي تزرع الرعب والخوف في النفوس تجد متعتها في الهيمنة والتسلط.. في إلحاق الأذى والعذاب في الرافضين والمعاندين.. فيبدو خالق هذا العالم المرعب حاد البصيرة.. يمزق الأقنعة عن وجه هذا العالم.. حيث نرى فيه الآخرين على حقيقتهم ونرى أنفسنا على حقيقتنا.. نراه وهو يصيح بالضحايا بالقاتل القتيل والقتيل القاتل.. بالنعوش التي تخفى الأحياء.. ولا يداني صباح الانباري أي كاتب ميم آخر.. ينفرد بموقفه من الناس والأرض والأخلاق.. موقفا صارما حادا وقاسيا.. لكن المرء يحس ان المرارة التي تغلف موضوعاته فيها حلاوة الإدراك وعذوبة الحب.. وتلك رسالة لم تبلغ إلا القلة.

 

الهوامش والمصادر

(1)            ديوكس، اشلي، الدراما، ت: محمد خيري ( القاهرة د.ت) ص9.

(2)            المصدر السابق ص18.

(3)            صدقي، عبد الرحمن، المسرح في العصور الوسطى: الديني والهزلي( القاهرة 1969) ص 10-11.

(4)            المصدر السابق، ص13.

(5)            المصدر نفسه، ص 24.

·       الفارس: "تمثيلية تشتط في توضيح المرح، والتهريج ، والتناقضات، والحركات البدينة الهازلة".

** الملهاة المرتجلة" نوع من الأداء التمثيلي الملهوي يقوم نصه الى حد كبير على ارتجال ممثلين محترفين. وتقوم على تخطيطه قصصيه يعرفها اللاعبون قبل الظهور أمام المشاهدين. وعند الأداء يكسى الممثلون الهيكل القصصي بالحوار.

(6)            ديوكي، المصدر نفسه، ص28

(7)            المصدر السابق، ص29.

(8)            المصدر نفسه، ص31.

(9)            جريدة الثورة في 10/10/1972.

(10)      مجلة "المجلة" البرلينية، ع 9 س 1996، ص 42.

(11)      جريدة الجمهورية في 14/11/1984.

(12)      جريدة القادسية في 14/8/84ت: د.محمد عبد الرحمن الجبوري.

(13)      و (14) جريدة القادسية في 12/7/86، ت: د. محمد عبد الرحمن الجبوري.

(14)      مجلة "فنون" البغدادية في ع 11 في 23/10/78 ص12.

(15)      ، (17) مجلة " اليوم السابع" الباريسية ع 138 في 29/10/90 ص 31.

(18)  الجمهورية المصدر ذاته.

(19)  جريدة الجامعة في 1-8/8/1990.

(20)  جريدة القادسية في 16/11/1985.

(21) مجلة " فنون" ع 138 ي 11-17/5/1981، ص 15.

(22) جريدة الجمهورية في 30/11/1984.

(24) ، (25) جريدة الثورة في 25/12/1986.

(26) جريدة العرب في 29/1/1919.

(27) جريدة العراق في 29/9/1982.

(28) المطبعي، حميد، يوسف العاني، موسوعة المفكرين والادباء العراقيون، جـ 21 ( بغداد 1995) ص101.

(29) جريدة العراق في 7/3/1991.

(30) مجلة " فنون" ع 75 في 11/2/1980، ص22-23.

(31) السراج، سامي، صفحات ظاهرة وخفية في الحياة المسرحية والتلفزيونية العراقية( بغداد 1988) ص 184.

(32) يونس، محمد، غوغول، سلسلة أعلام الفكر العالمي( بيروت د.ت) ص 49-50.

(33) جريدة الجمهورية في 24/3/1984.

(34) جريدة العراق في 16/8/1981.