مع بدء الظلام يرتفع صوت الناي تدريجيا.. وتدريجيا تتوهج حزمة الضوء الساقطة على القضبان الحديدية التي تتوسط خشبة المسرح.. تمتزج أصوات الآلات الموسيقية الأخرى بصوت الناي في ملحنة يزداد إيقاعها سرعة كلما توهج الضوء وتحرك السجين تحت غطائه الخفيف.. على مبعدة من سريره في أعلى وسط المسرح، وعلى مكان مرتفع نسبياً نرى ثلاثة أشخاص، لاشتداد الظلام، يصعب رؤيتهم بوضوح.. الأشخاص الثلاثة مع الهرم الذي يقفون عليه يشكلون خلفية للصورة المسرحية طوال العرض..السجين يتلوى تحت الغطاء..يتكور على بعضه.. يرفس الغطاء بقوة فيزيحه من عليه..يتلوى..يسقط على الأرض.. يزحف نحو القضبان الحديدية.. يمسكها..يحاول النهوض مستعينا بها.. يتعاظم شعوره بالألم.. يمسك بطنه.. يعتصرها بيده وهو يتصبب عرقا.. يتلوى..يسقط على الأرض.. يحاول النهوض.. ينهض.. ينظر عبر القضبان.. يمد يده خارجها مستنجدا.. ترتد يده ببطء.. يبتعد عن القضبان.. يتوجه، مترنحا، نحو يسار المسرح.. ينظر إلى ما وراء الكواليس.. يشعر باليأس.. ينتقل، مترنحاً، إلى يمين المسرح ثم إلى أعلى وسط المسرح.. يعود إلى فراشه خائبا، منكسراً، متألماً..يجلس عند حافة سريره منكفئا..ينتبه لحزمة الضوء..ينظر إليها بإمعان وثبات..يحاول الابتسام لكن ابتسامته سرعان ما يتلبسها الألم..يقطب حاجبيه..يبدو كما لو انه يشرع بالبكاء ولكنه يكابر الألم الذي راح يمزقه من الداخل بقوة وهو ما يزال ينظر باتجاه حزمة الضوء..يقف..يصعد على سريره بصعوبة.. يمسك بطنه.. يعتصرها بيده.. يمرر يده الثانية على صدره.. يضغط بها على منطقة القلب كما يفعل مريض القلب عند بدء نوبته.. يمد يده اليسرى باتجاه الضوء.. يفتح فمه في محاولة للصراخ أو النداء لكنه يتوقف، مرغما، عن الحركة..حزمة الضوء تختفي تدريجيا (Fade out)، يظلم المسرح.
*
تفتح الأضواء.. الرجل الذي كان سجينا يرتدي الآن، بزه عسكرية، ويحمل بيده بندقية آلية، وهو يتحرك جيئة وذهابا كما يفعل الخفراء.. الأشخاص الثلاثة ما يزالون في وقفتهم على الهرم.. في وسط المسرح، وعلى المكان الذي نصبت عليه القضبان الحديدية، في المشهد السابق، نرى بوابة ضخمة تشبه، إلى حد ما، نسراً هبط على أرض المسرح توا..يستمر الخفير بالرواح والمجيء.. يتوقف في وسط المسرح..يجلس على صخرة صغيرة.. يخرج علبه سجائر.. يضع بندقيته جانبا ويدخن.. يشعر بحركة في الجوار ينهض.. يركز انتباهه في محاولة لمعرفة مصدر الصوت ومكان الحركة.. ينظر نظرة بانورامية إلى كل الجهات.. تستأثر باهتمامه البوابة النسرية فيتأملها..يلمسها.. يتأكد من انغلاقها ثم يعود إلى الصخرة ليجلس عليها.. يسمع صوتا آخر..قهقهة بعيدة مثل قهقهات فتيات الملاهي الليلية.. يضع يده على أذنه..يستمع.. يتأكد أن الصوت قادم من جهة اليمين..يقف.. يرفع بندقيته..يسحب أقسامها بقوة ويهيئها للإطلاق.. ينظر باتجاه اليمين متحفزا..يفاجأ بامرأة تتقدم نحوه مباشرة..يصوب بندقيته إليها.. تتوقف تتحرك في محلها بغنج.. يستمر في مكانه ماسكا البندقية بقوة، وتأهب.. تفترش المرأة رداءها الخارجي على الأرض..تمسك، بأطراف أصابعها، أزرار قميصها الزهري.. تبدأ بفتح الأزرار واحدةً فواحدة.. تخلع قميصها.. تتمدد على الأرض بوضع مثير.. الرجل الخفير لا يهتم كثيرا لحركاتها المثيرة.. ينظر جهة اليسار.. يتأكد من خلو المكان من أي متسلل..يقف في مكانه لا يبرحه..تأتي امرأة أخرى.. تمشي بطريقة راقصة، ومثيرة..تقف عند قدمي المرأة الأولى..تنظر إليه، وتبتسم..ترسل إليه قبلة هوائية..تتحرك بضع حركات موضعية للفت انتباهه، وإثارته.. الرجل لا يأبه بها..تبدأ بخلع قمصيها بطريقة أكثر إثارة من سابقتها.. يتسلل من يسار المسرح ثلاثة رجال على رؤوسهم نجمات سداسية الرؤوس..يستغلون انشغال الخفير بالنظر إلى المرأتين.. وحالما ترى المرأة الثانية الرجال المتسللين تبدأ جاهدة، لفت انتباه الخفير إليها.. تزداد سرعة الموسيقى..تخلع قميصها، وتظل بالفانيلة، والشورت..تستلقي فوق زميلتها..تداعبها..تقومان معا..ببعض الحركات الماجنة..تشيران إليه أن يشاركهما عبثهما المثير..الخفير يرمي عقب السيجارة، ويسحقها بقدمه بقوة، وحركة توحي بانفعاله وتردده..يغير في وقفته فيبدو أكثر استرخاءًا من السابق..يتسلل الرجال الثلاثة أكثر.. تزداد الموسيقى نزقا..تتحرك المرأتان بوحشية، ومجون، وفجأة يستدير الخفير إلى يسار المسرح..يفتح النار على المتسللين الثلاثة ويرديهم قتلى..تعلوا أصوات الطبول المصحوبة بضربات الصنوج..تتناول المرأتان قطع الثياب بذعر وتهرولان.. تطفأ الأضواء بالتناوب على أجزاء الخشبة بينما يستمر الضوء على الخفير فترة قبل أن يسود الظلام.
*
تفتح الإضاءة، ثانية فنرى الخفير مجردا من سلاحه، ونطاقه، وخوذته، وقد كبلت يداه.. تنطلق أصوات الأبواق معلنة عن مقدم الأشخاص الثلاثة..ينزلون بواسطة ثلاثة سلالم ثبتت على يسار، ويمين، وأمام الهرم.. تفتح البوابة النسريةُ، ويدخل منها الأشخاص الثلاثة إلى خشبة المسرح.. تنزل من فضاء المسرح ثلاثة مكعبات مختلفة الارتفاعات رسم على واجهاتها الأمامية ميزان العدل.. يجلس الأشخاص الثلاثة عليها..يخرج الشخص الذي يجلس في الوسط، من تحت جبته، مطرقة، ويضرب بها الهواء ثلاث مرات.. يقف الثلاثة معا.. وبحركة واحدة منسقة يصعدون كل على مكعبه الخاص.. يرفع كل منهم يده اليمنى إلى جانبه كما لو كان يؤدي يمينا.. ثم يسقطون أيديهم دفعة واحدة..تتصاعد ضربات الطبول، وتهبط القضبان الحديدية من فضاء المسرح.. تتوقف في وسط المسافة بين السقف، والأرض.. يشير الثلاثة، معا، إلى الرجل المجرد من سلاحه فيقف في وسط المسافة خلف القضبان.. يفتح الشخص الأوسط ذراعيه إلى الجانبين.. تدخل من يسار المسرح، ويمينه المرأتان السابقتان.. تقف كل واحدة منهما إلى جانب الشخص الذي يقف في الجهة التي أقبلت منها.. يمسك الشخصان المرأتين ويقودانهما إلى أعلى الهرم كل من السلم الذي نزل منه قبل قليل..تطفأ الأضواء.
*
تفتح الأضواء.. خشبة المسرح خالية تماما.. موسيقى تتلاءم، وحركات قطع الديكور.. تهبط من فضاء المسرح نجمه سداسية كبيرة.. تستقر في الفضاء الخالي للخشبة ثم تهبط بعد ذلك المكعبات الثلاثة نفسها بطريقة درامية لتستقر على نفس أماكنها السابقة على الخشبة.. تطفأ الأضواء..تفتح الأضواء.. نرى ثلاثة عسكريين مجردين من السلاح، وقد ربطت أيديهم خلف ظهورهم، وهم يجلسون على المكعبات الثلاثة،.. ينظرون بخوف، وترقب إلى جهتي المسرح.. ضربة صنج قوية تتبعها موسيقى رقصة الشياطين الثلاثة.. يدخل إلى الخشبة من يسار المسرح، ويمينه، ومن أعلى الوسط ثلاثة أشخاص يرتدون الملابس السود، وعلى وجوههم أقنعة سود تشبه أقنعة رجال الإعدام، وعلى ظهورهم عباءات سود كتلك التي يرتديها الكهنة.. يرقصون بحركات غريبة، وفي يد كل منهم قضيب رفيع مدبب النهاية يشبه إلى حد كبير (شيش المبارزة).. حركاتهم كلما تقدمت الرقصة تبدو أكثر غرابة وهي تعبّر في كثير من الأحيان عن حقدهم الدفين، ورغبتهم في التعذيب، والقتل..يتقدمون في نهاية الرقصة من العسكريين الثلاثة مهددين إياهم بسمل عيونهم.. يتراجعون.. يندفعون نحوهم بسرعة ثم يتوقفون.. يضع كل منهم طرف القضيب المدبب على عين رجل من العسكريين الثلاثة.. يسحبه إلى الخلف ببطء، ثم يدفعه إلى الأمام بقوة، وعنف، وغضب، وحقد.. يصرخ العسكريون الثلاثة صرخة قوية، ومدوية.. يسحبون القضبان من عيونهم..تتكرر الصرخة ثانيه، وتتدلى على الفور رؤوسهم على صدورهم.. الشياطين الثلاثة يقفزون فرحا، وهم يرفعون القضبان إلى الأعلى، ويخفضونها ثم يرفعونها ثلاث مرات كدلالة على الانتصار.. ينتبه الشياطين إلى وجود شخص ما على المسرح.. يظهر رأس الرجل السجين/الخفير، وهو ينظر إليهم من مكان خفي على المسرح.. ينقضون عليه فيفاجئهم بظهوره شاهرا بندقيته الآلية صوبهم.. يفتح النار عليهم ويرديهم قتلى فنطفأ الأضواء.
*
تفتح الأضواء.. أشخاص الهرم الثلاثة أنفسهم يقفون على المكعبات الثلاثة نفسها أمام البوابة النسرية.. يرفعون أيديهم كما لو كانوا يؤدون اليمين.. يخفضونها ثم يشيرون بها إلى الأعلى.. تهبط من فضاء المسرح القضبان الحديدية نفسها.. يقف الرجل السجين.. الخفير/الأعزل خلفها، وظهره إلى جمهور النظارة.. ينزل الثلاثة من على مكعباتهم.. يتقدمون نحو الرجل السجين فيتراجع.. يصطدم بالسرير.. يسقط عليه.. يستمر الثلاثة بالتقدم نحوه بطريقه تشعره بالخوف.. الشخص الأوسط يضع على وجهه قناعاً يشبه قناع الشياطين الثلاثة.. تهبط من فضاء المسرح ثلاث قضبان هي نفس القضبان التي استخدمها الشياطين من قبل.. يتناولونها، ويتقدمون نحو السجين.. يزحف السجين متراجعا.. يضعون إطراف القضبان المدببة على موضع في منتصف بطنه ويدفعونها بقوة فيصرخ السجين صرخة خرساء مكتومة.. تطفأ الأضواء بالتعاقب.. ينسحب الأشخاص الثلاثة إلى أماكنهم في قمة الهرم.. حزمة الضوء تظل، وحدها، متوهجة على خشبة المسرح، ونرى خلال توهجها الرجل السجين ممسكا ببطنه.. يرفع يده.. يراها ملطخة بدمه.. يعتصره الألم.. يبحث عمن ينجده هنا أو هناك.. يرتد خائبا.. يتوجه نحو الأرض..يمسك بالقضبان الحديدية، وهو ينظر إلى جمهور النظارة حتى يتوقف عن الحركة بينما يستمر نزفه بلا توقف، وبلا توقف يسيل الدم في مجرى محدد نحو الجمهور، وبين دهشة الجمهور، وخوفهم من أن تلطخ الدماء ملابسهم تطفأ الأضواء ويسدل الستار على الدم.
بعقوبة 1999
*
* * *
نشرت في مجلة (ألف باء) العراقية العدد 1723 في 3/10/2001.