الفنتازيا والترميز
في نصي (الالتحام) للأنباري والمدني
علي مزاحم عباس
لقد بات معروفا تماما،أن عصرنا يشهد منذ عقود،عملية عميقة الفور ومتزايدة القوة والتأثر والتأثير المتبادل بين أنواع وأجناس وأنماط الفنون والآداب المختلفة،ولم تعد هذه العملية تجري في إطار(الموضوعات)وحدها،وإنما جرفت في دوامتها (الأشكال) و(الأساليب) أيضا؟ فلا غرو في تداخل خصائص فنين أو أدبين يبدوان للوهلة الأولى ألا وشيجة بينهما فإذا بها تحل في بعضها البعض حلول ضيف أو زائر أو التحام.. ولا بأس من ذكر بعض الأمثلة. فثمة كاتب وأكثر أفاد من(الريبورتاج) الصحفي في البنية الروائية أو من (الهارموني) في البنية القصصية أو الشعرية كما أفاد بعض كتاب المسرح من فن (السيناريو) السينمائي والتلفزيوني في معالجته الدرامية..وقس على ذلك ما جرى في الفنون الأخرى.ولم يجد النقاد والباحثون بدا من الاعتراف بهذه الظاهرة إذ وجدوا أنفسهم مضطرين الى التخلي عن صرامتهم المنهجية الرامية الى استقلال كل فن بخصائصه ومقاييسه استقلال كاملا..وقد أدى ذلك الى نشوب معارك نقدية وفكرية طاحنة دارت رحاها حول (التناص) و(السرقة) و(الاقتباس) و(المقارنة) و(المقاربة) وغيرها من المفاهيم التي يجري تداولها في هذه الأوساط ومن هنا،وبهذا المدخل المقتضب،وجدنا مسوغا للولوج الى بنية النص الدرامي الصامت: (الالتحام في فضاءات صماء لصباح الانباري ونص عبد الحليم المدني الموسوم(الالتحام) فالنصان – كما يظهر- لا يشتركان في العنوان حسب،بل في أشياء أخرى سنحاول قدر استطاعتنا تفكيكها لمعرفة درجة (الأصالة) في نص الانباري باعتبارها تاليا لنص المدني، وتحديد نقاط التلاقي أو الافتراق بينهما..وبالتالي تشخيص مستوى الإبداع في الأول..وبعبارة أكثر تحديدا هل هو مجرد مسرحة لنص جاهز أم نص مكتف بنفسه ومتميز بذاته؟ وبدءًا لا بد من التنويه بان فن القصة،إنما يرتكز أساسا على السرد وان فن الدراما يرتكز على(الفعل) وبتحديد أدق أن الدراما الصامتة(كنص) ترتكز أساسا على وصف الفعل الدرامي..ويعد الحوار سمة النص المسرحي الصائت..فضلا عن أن كلا من القصة والمسرحية يشتمل على عناصر مشتركة بينهما كالفعل والصراع والشخصية وعناصر أخرى بهذا الشكل أو ذاك وبهذه الدرجة أو تلك كالحبكة (الهيكل القصصي) و(الجو العام) وفي الوقت نفسه ينفرد كل منهم بلغته الفنية الخاصة..ولكل قاعدة الاستثناء الذي لا يقاس عليه!(2) تبدأ مسرحية الانباري في حركتها الأولى بظهور ثلاثة كهول تسلط عليهم الإضاءة المتناوبة بالأحمر والأزرق والأصفر واقفين على مدرج مرتفع..ويقوم احدهم بحركات كاهن أو ساحر،ثم يدخل من الصالة رجل بملابس بيض وهو يستدل على طريقه بمصباح أو شمعة يتبعه رجل بملابس سود كأنه ظله أو هو الآخر المجهول والغامض ونسخته الثانية.والأبيض يرمز الى الخير والنقاء والطيبة،والأسود يرمز الى الشر والخبث والحقد والرمزان كانهما وجهان لعملة واحدة وعليه فان:
الأول + الثاني = واحد!
هذه هي المعادلة الأولى !
ويطلق الثاني النار على رأس الأول الذي يصرخ صرخة صماء ولا يسقط بل يستدير ويتقدم الى الثاني باسما.لنل في نص (الالتحام) للمدني فان الحركة الأولى تبدأ بدخول القتيل أو (المتهم بالعقل) الى القاعة الفسيحة ذات الأرض المتموجة والتلال الستة،فرحا مبتسما لقاتله. ويمكن الاستنتاج بعد المقارنة بين النصين أن:
الأول = القتيل
الثاني= القاتل
وهذه هي المعادلة الثانية !
اذن القتيل+القاتل= اثنان فان الأول + الثاني لا يساوي القتيل + القاتل
وتلك هي النتيجة!
من هذا يمكننا القول بأن الانباري قد اختلف عن المدني وافترق عنه،مثلما افترق في خلع الصفة الميتافيزيقية عن(الحكماء الخمسة) ومجردا إياهم من صفتهم الكهنوتية مضفيا على الكهول الثلاثة طابعا رمزيا،فهم يمثلون ثلاثة اقانيم أو ثلاثة أسلاف أو أي ثلاثة أخرى يتخيلها المتلقي.وعليه يمكن القول إن الانباري خطا نحو الواقع خطوة أوسع مما خطاه المدني!ويأخذ الأول والثاني بالرقص بحركات موحدة مبعثها وحدتهما العضوية،رقصة(القدر يطرق الأبواب) المستوحاة من الضربة الرابعة الطويلة من الحركة الأولى للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن التي تمجد أوجه النضال والكفاح الإنساني الشامل ضد الظلم والاضطهاد حتى بلوغ النصر ولا احسب أن الانباري يجهل هذا المعنى الذي لم يدخل نسيج نصه،بل ولم يلمح به أصلا!! وفي الواقع،وأرجو ألا أكون قاسيا أو متجنيا فيما لو قلت،إن مشاهدي المسرح عموما قد لا يلتقطون المعنى إذا كان مقصودا لان الموسيقى الكلاسيكية ليس لها دور فاعل في تشكيل ذائقتهم السمعية الجمالية فضلا عن أن النص بجنوجه الشديد الى الترميز لا يسعفهم في قليل أو كثير في الإمساك بالمعنى ولعل الفائدة الوحيدة المرتجاة والتي قد يجنيها العرض هو ملامسة الحس الإيقاعي والهارموني لحظات وجيزة..ولكن هذا الاحتمال سرعان ما تبدده الضربات الرتيبة للطبول..يخيل إلي أن الانباري لم يحسن لدرجة كافية حساب الأثر الكلي للإيقاع الصوتي والحركي..ولتوضيح ذلك نذكر مسار هذه الأصوات.
موسيقى خوف وترقب ــــــ الضربة الرابعة من السيمفونية ـــــــ ضربات طبول رتيبة ـــــ إيقاع مارش جنائزي ـــــ همهمة كورالية ـــــ مارش جنائزي او همهمة كورالية متصاعدة ـــــ أصوات غير مفهومة ـــــ تتصاعد وتتكرر
ولمزيد من التفاصيل إليكم الصورة كاملة مع الحركة:
1 ـ سكون و ترقب 1 ـ موسيقى خوف
3 ـ سكون ( تتوقف حركة الأول والثاني ) 3 ـ الموسيقى السيمفونية
4 ـ سكون 4 ـ ضربات رتيبة على الطبول
5 ـ سير حملة التابوت 5 ـ مارش جنائزي
6 ـ رقصة القدر يطرق الأبواب 6 ـ صمت
7 ـ سحب القتيل خارج المسرح 7ـ همهمة ترتيلية كورالية
(3)
في نص المدني،ينشق القبر عن امرأة عجوز توزع ابتساماتها على الجميع وتستعرض الحكماء الخمسة الذين يحدقون فيها متفحصين ترهلها وشعرها الأحمر.فنراها وقد أبدلها الانباري بشابة نزقة تخرج من تابوت.وينظر الحكماء الى المتهم بالعقل بلا مبالاة وسخرية فيستسلم لهم رغم تحذير الراوي:" لا تنخذل..إياك..إياك أن تستسلم لهم..طاولهم..رد لهم الصاع صاعات.شن عليهم هجومك المقابل..كلما طال تمردك كلما ارتفع بك الحلم الى سماء أعلى" تلك هي لهجة التحذير الوحيدة في النصين والتي مال بها المدني الى التحريض!
ويخرج القتيل من القاعة بعد أن خلف وراءه التل السادس،وهو يحس بالاختناق والاحتضار.ويتعقبه القاتل ثم يعترضه مرتديا درعا اخضر وفي أذنيه قرطاه المطلسمان ويتوقف النزيف وينغلق الجرح في رأس القتيل وتلتقي عيناه بعينيه فيحس أن جسده ينضغط ويطفو على وسادة وينشطر الى نصفين ويحس أن الغريم يدخل عينيه ويلتحم به فيحس بالموت الحقيقي الذي يتحقق بالتحام القاتل والقتيل في نوع من الحلولية.
إن فكرة الالتحام في نص الانباري تختلف عن فكرة المدني، فالتحام القاتل والقتيل لا يحدث بين اثنين منفصلين عن بعضهما ذلك أن اصلهما واحد.وان الموت يتحقق أخيرا على أيدي الكهول أي على أيدي قوى خارجية.أما عند المدني فالالتحام يتم بعد القتل ثانية على يدي قاتل يلاحقه القتيل منذ اللقاء الأول وحتى النهاية المحتمة.
وعند مقارنة الشخصيات الرئيسة بين النصين،نجد الانباري قد أجرى تحويرا في أبعاد بعضها.فقد تحول الحكماء الخمسة الى كهول ثلاثة مجردين – إلا واحدا – من البعد الكهنوتي وادغم الأول في الثاني بان جعله ظلا له وشبيها به كأنه نسخة ثانية بعد أن كانا شخصين منفصلين جوهريا في بعض مسارات الحدث، لكن الموت تميز عند المدني بجعل القتيل متهما بالفعل أي صاحب رسالة وهذا ما لم يفعله الانباري فبدت الشخصيتان غارقة في الغموض وتميز الانباري فيما عدا ذلك بتغيير المرأة العجوز الى امرأة نزقة في مقتبل العمر فادى ذلك الى تشديد عنصر الصراع كما يفترض.
(4)
يشترك النصان في غلبة الطابع الفنتازي عليهما مما أضفى على الجو العام غموضا مثيرا للخيال.فالفنتازيا كما يقول ت.ي.بتلر ليس تهربا من الواقع بل استغوارا له وهي وان كانت خرقا للقوانين الطبيعية للمنطق لكنها تؤسس منطقها الخاص.وهو قول لا يؤخذ على علاته ذلك أن الفتنازيا توحي بمعان متعددة للرمز الواحد وهو ما لا يتفق مع القصدية الواحدية للكاتب وبالتالي يتيه بالملتقي في مسارب قد لا تكون هي مبتغى الكاتب.وعلى أي حال،فان النصين قد تشابها في الطابع الغرائبي والترميز أيضا وان اختلفا في درجة الكثافة والنتيجة.فالانباري يبدو أكثر اقترابا من الواقع وان وقف نصه على أرضية مهتزة وقلقة،لكنه يمنح قارئه ومشاهده خيطا رفيعا يمسك به بغية اكتشاف المخرج من المتاهة والظلام والعمى.كما أن النصين وان بديا نتاج عملية خلق لا واعية ولا زمنية ففيها نوع من التهشيم والتهويل والتشويه بفعل الأسلوب الفنتازي،فان الانباري يظهر اقل غموضا من المدني وهو فرق في الدرجة وليس في النوع..وعلى أي حال فان الانباري والمدني قد سطرا نصين يتميزيان بالفرادة في الأسلوب والمعالجة وان وجود هذا التقارب المحدود في بعض الشخصيات والجو العام والحبكة لا ينفي أصالة الواحد منهما لكنهما يلتقيان في ملامسة الحداثة ملامسة رقيقة قمينة بالتقدير.