حجر من سجيل
الى سعيد سلامة .. الحجر الفلسطيني الصائت في ملكوت الصمت
الصامتون
1.الرجل ذو الكوفية و العقال.
2.إمرأته.
3.إبنه.
4.الرجل المتوّج بالغار.
5.مجموعة من المسلحين.
6.امرأة عجوز.
7.رجل ذو عين واحدة.
8.مجموعة من الرجال المسنين والأطفال.
تطفأ الأضواء.. نسمع من خلال الظلام عزفاً على الناي.. تظهر على الخلفية (السايك) صورة هلال بحجمه الطبيعي.. تصاحب موسيقى الناي ضربات خفيفة على الطبل الكبير، ومع كلّ ضربة، تكبر صورة الهلال حتى تغطي الخلفية كلّها..تنطلق ضربات الطبول الصغيرة بمارش، كلما اشتّد إيقاعه تراجعت صورة الهلال إلى الخلف حتى تستقر على حجمها الأول.. ضربة صنج..تتوقف الطبول، وتظهر على مسافات قريبة من الهلال ثلاثة نجمات سداسية الرؤوس.. تنفلق النجمات السداسية مولّدة، حولها، عشرات النجوم.. تحيط بالهلال.. تطوّقه.. تتحرك حركات اهتزازية مريبة.. تنقض مهاجمة إياه هجوماً شرساً.. تختفي الأضواء والنجوم تدريجياً ويعلو صوت الناي، مرة أخرى، فيشع الهلال بوجهه المثلوم من خلال الظلام وهو يقطر دماً..تتوهج الإضاءة الفيضية الخافتة تدريجياً فنرى رجلاً، يعتمر كوفية، وعقالا، وامرأته، وطفلهما رابضين تحت هيكل يبدو لجمهور النظارة مثل صليب تدلى منه وشاح على هيئة مدينة مدمّاة..ضربة صنج.. يفزّ الرجل، وامرأته.. يلتفتان إلى الخطفلل.. يستديران.. يبصران صفاً من النجوم السداسية يتقدم نحوهما.. يتبعه صف آخر، وآخر.. يتناولان الوشاح الذي على هيئة مدينة مدمّاة.. يلثّمان به رأس صغيرهما فلا يظهر من رأسه غير عينيه.. صفوف النجوم تتكاثر وهي تتقدم نحوهم على هدي طبول الحرب والصنوج..تزدحم الخلفية بالنجوم..تتوقف حركة الزحف فترة وجيزة قبل أن تطلق عيارات نارية من كل حدب، وصوب نحو الرجل، وامرأته وكأن النجوم هي التي تطلق النار عليهما.. يحميان طفلهما بجسديهما.. يصابان بعدد من العيارات لكنهما يظلاّن على وقفتهما حتى يتمكن منهما الرصاص فيتشبّثان بعمود الهيكل فترة قبل أن تطفأ الأضواء، ويسود الظلام.
*
يضاء المسرح.. يعلو صوت الناي.. نرى غرفة مؤثثة على الطراز العربي الفلسطيني.. دلال للقهوة موضوعة على منضدة مستديرة في وسط الغرفة.. على الجدار الخلفي علّقت صورة كبيرة لبيت المقدس.. في أعلى يسار الخشبة علقت على حاملة الملابس بعض الأزياء الشعبية.. مقاعد تراثية مستديرة رصفت على جانبي الغرفة.. وفي أعلى الوسط، تحت اللوحة مباشرة، وضع مقعد مستدير، أيضاً، ولكنه أضخم قليلاً من بقية المقاعد.. تقطع صوت الناي ضربات سريعة للطبول الصغيرة.. يقتحم الغرفة مسلحون على ظهورهم وصدورهم يحملون شعار النجمة السداسية.. ينتشرون بسرعة في أركانها.. يطلقون النار، من رشاشاتهم الأوتوماتيكية، على كل شيء داخل الغرفة.. يمّزق وابل الرصاص الأزياء الشعبية كلها.. تسقط دلال القهوة متدحرجة على الأرض، وكذلك المقاعد.. يطلقون صوب اللوحة باستهتار كبير.. يثقبها الرصاص فتسقط أرضاً..يستمرون بإطلاق النار فترة وجيزة نحو كل الأشياء ثم يتوقفون.. ينظرون إلى الأجزاء المخرّبة بزهو.. يفززهم صوت بكاء طفل رضيع من خلف الكواليس..يستديرون جهة الصوت.. يوجهون بنادقهم نحوه ويطلقون بكثافة نارية شديدة..يتوقفون.. يتسمّعون مرتابين..ينطلق صوت الطفل مرة أخرى، ومرة أخرى يفتحون نيران بنادقهم صوبه..يتوقف صوت البكاء..يعلّقون بنادقهم على أكتافهم ويتقدمون بحذر نحو الطفل..يفززهم صوت بكائه أيضاً فيتراجعون خطوة إلى الوراء..يتقدم أحدهم إلى ما وراء الكواليس..يختفي لحظة ثم يظهر وعلى يديه الطفل الرضيع..يقف على وسط الخشبة.. يحيط به الآخرون..يضع كل منهم بندقية على الأرض أمام قدميه..يرفع الأول الطفل إلى الأعلى بحركة استعراضية فيبدأون بالتصفيق البطئ الموقّع.. يخفض ذراعيه فيتوقفون عن التصفيق.. تتصاعد تدريجياً أصوات ولولة وانين.. وإذ تبلغ اشدّها يقذف الأول الطفل إلى الثاني فيتلقفه بفرح شيطاني غامر ثم يقذف به إلى الثالث والثالث إلى الرابع، والطفل يصرخ، ويصرخ وهم يقهقهون، ويقهقهون.. وإذ تخفت صرخاته تدريجياً يتقاذفونه بسرعة جنونية من واحد إلى آخر حتى يموت بين يدي أحدهم..تتجه الأنظار نحو الذي مات الطفل بين يديه..يقتربون منه..يركعون له..ينهض اثنان منهم.. الأول يجلب من وراء الكواليس إكليل غار على طبق ذهبي.. الثاني يرفع إكليل الغار ويضعه على رأس الرجل الذي مازال محتفظاً بالطفل.. يجلب اثنان منهم وبسرعة قدراً كبيرة يضعانها على ركيزة، ويوقدان تحتها ناراً.. آخران يجلبان عقب شجرة مقطوعة كتلك التي يستخدمها الجزارون لتقطيع اللحم.. يقف الجميع على جانبي الغرفة.. يضع الرجل المتوّج بالغار الطفل على عقب الشجرة.. ومع ارتفاع الموسيقى، وهمهمة المسلحين يرفع ساطوره إلى الأعلى، ويهوي به على جثة الطفل بجنون هستيري.. تتدفق الدماء من الطفل.. يضيّقون دائرتهم حوله ليتسنى لهم تلطيخ أيديهم بالدم.. يجمعون أشلاء الطفل، وبحركة موحدة يضعونها في القدر.. تستمر الهمهمات ويستمر المتوّج بالغار بتحريك يديه حركات طقوسية تشبه إلى حد ما حركات السحرة، والمشعوذين الأشرار فترة وجيزة.. ثم يتناول قدحاً يغرف بوساطتها حساءً من القدر، ويرتشف قليلاً منه.. يناوله للمسلّح الذي يقف إلى جواره فيرتشف منه وبدوره يسلمه إلى الآخر، والآخر إلى الآخر حتى يشرب الكل من حساء الطفل المقطع الأوصال.. يرفعون بنادقهم من على الأرض.. يقتربون من الرجل المتوّج بالغار.. يرفعونه على أكتافهم، ويطلقون النار من بنادقهم وهم يغادرون المسرح باستهتار.. يخرج الولد الملثم من وراء ستار وسطي خفي.. تتركز الإضاءة على وجهه بينما تخفت على أرجاء المسرح شيئاً فشيئاً.. يطلّ وجهه مشعاً في الظلام فترة ما قبل أن تطفأ الأضواء.
*
تفتح الأضواء.. الرجل المتوّج بالغار جالس على عرشه تحيط به الحاشية.. عدد من الرجال تتوسطهم امرأة عجوز ورجل بعين واحدة.. يصفق الرجل المتوج فيدخل اثنان من اتباعه، أو خدمه أحدهما يحمل قدراً هي القدر نفسها التي شرب منها المسلحون، ويحمل الآخر أقداحاً يوزعها على أفراد الحاشية.. يمرر الأول القدرَ عليهم فيغرفون منها، وينتظرون إشارة الرجل المتوّج.. ينسحب الرجلان إلى خارج المسرح.. يرفع الرجل المتوّج نخبه إلى الأعلى فتفعل الحاشية مثله تماماً.. يشرب المتوّج.. فيشربون.. يمتعضون.. يتجشأون، وبالرغم من هذا كله يشربون.. يبتسم الرجل المتوّج.. يبتسمون.. يرفع الرجل كأسه ثانية فيرفعون كؤوسهم أيضاً..تُضرب الكأس التي بيد الرجل المتوّج بحجارة صغيرة فتنكسر وينسكب ما بداخلها على ملابسه.. يقف غاضباً..تقف الحاشية أيضاً.. يجلس.. يجلسون.. يبتسم.. يتصنع اللامبالاة.. يصفق ثلاثاً فتعزف الموسيقى، وتدخل الراقصات إلى الخشبة ليرقصن رقصة (الموت والاحتلال).. يسقط حجر صغير آخر أمام الرجل المتوّج.. فتتوقف الحركة.. يتلفّت المتوّج يساراً، ويميناً باستغراب.. يقف.. تقف إلى جانبه المرأة العجوز، والرجل ذو العين الواحدة..تهمُّ الحاشية بالوقوف أيضاً لكنه يمنعها بإشارة منه.. تنهال عليهم الحجارة من كل حدب وصوب.. يصابون بالذعر.. تحاول الراقصات حماية أنفسهن وكذلك أفراد الحاشية.. يتناول الرجل المتوّج، والرجل ذو العين الواحدة، والعجوز بنادق آلية، ويطلقون النار على كل الجهات حتى يتوقف الحجر عن السقوط.. يعودون إلى جلستهم، وتعاود الراقصات هزّ الأرداف والبطون، وقبل أن يكملن رقصتهن يسقط حجر آخر كبير الحجم فتتوقف الراقصات.. وابل من الحجارة تسقط عليهن فيهرعن إلى خارج المسرح..يتناول الرجل المتوّج، والرجل ذو العين الواحدة، والمرأة العجوز بنادق يرمون منها ناراً نحو الجهة التي قدم منها الحجر..يتوقفون.. يقتربون من بعضهم.. يصوبون بنادقهم نحو السماء، ويطلقون في آن.. فترة سكون.. يفززهم صوت ارتطام حجر كبير بأرضية البلاط.. ينظرون إلى الحجر.. يقتربون منه.. يلتقطه الرجل المتوّج.. يدقق النظر فيه..يفكر.. تظهر على السايك صورة ضوئية للطفل، وهو ما يزال مرتدياً اللثام نفسه الذي كان معلقاً على الهيكل الذي يشبه الصليب في المشهد الأول..يصرخ الثلاثة في آن واحد، وبحركة موحدة يستديرون نحو الصورة، و يطلقون النار عليها بجنون.. يستمرون في الإطلاق بينما تختفي الأضواء تدريجياً ويظلم المسرح.
*
يستمر إطلاق الرصاص، الذي يختلط بأصوات العجلات المسرّفة، والجرّافات.. تفتح الأضواء فنرى مجموعة من المسلحين الحاملين على ظهورهم وصدورهم نجمات سداسية وهم يسوقون مجموعة من الرجال، والنساء، والأطفال بالركل، والضرب بأعقاب البنادق.. تطرح بعض النساء أرضاً.. يدمى بعض الرجال.. يبكي الأطفال.. المسلحون وحدهم يقهقهون..أو يضغطون على أسنانهم..يختار أحد المسلحين رجلاً كبيراً من المجموعة.. يبعده عن أقرانه..يأمره بالركوع لكنه لا يمتثل..يصوب بندقيته إلى رأس الرجل الكبير ويطلق النار عليه باستهتار فيرديه قتيلاً..يختار رجلاً آخر..يبعده عن المجموعة.. يأمره بالركوع فلا يمتثل.. يمسكه من شعره.. يجبره على الركوع، وهو يقاوم.. يطرحه أرضاً.. يركله عدة ركلات فيتدحرج على الأرض متألماً..يساعده على الوقوف.. يقف.. يأمره بالركوع فلا يمتثل.. يصوب بندقيته إلى رأسه.. وقبل أن يطلق النار عليه تطيح به رصاصة موجهة إليه من خارج الكواليس.. يتفشى الذعر بين بقية المسلحين.. يتحركون إلى كل الجهات باضطراب.. يباغتهم الطفل الملثم الذي صار الآن صبياً يافعاً.. يفتح النار عليهم بسرعة، ومرونة، و إتقان غير متوقع فيرديهم قتلى في الحال..يحرر المجموعة من قيودهم بخفة، وسرعة، وينطلق باتجاه معاكس لاتجاه خروجهم من المسرح.. يحملون رجلهم القتيل على الأكتاف وهم يسيرون سيراً جنائزياً على هدى إيقاع المارش الجنائزي بينما تختفي الأضواء باختفائهم من على الخشبة تدريجياً.
*
نسمع من خلال الظلام صوت العجلات المسرفة، وناقلات الأشخاص، والجرافات.. ونرى على (السايك) فيلماً وثائقياً تظهر فيه الدبابات، وهي تطوق المدينة، وتفتح نيران مدفعيّتها على البيوت مثيرة الذعر..تتقدم الجرافات لإكمال ما بدأت به الدبابات من خراب.. ثم يخرج المسلحون من ناقلاتهم للانقضاض على كل هدف متحرك..يظهر على خشبة المسرح واحد من المسلحين الذين يحملون النجوم السداسية..يتبعه آخر، و آخر، و آخر، وهم جميعاً في وضع تأهب للانقضاض على أهدافهم..يظهر من الجهة الأخرى الصبي الملثم وقد صار شاباً سريع الحركة قوي البدن يتبعه عدد من الشبان الملثمين وهم يحملون الحجارة.. المسلحون يهددون الشبان ببنادقهم..يتقدمون نحوهم فيتراجعون قليلاً ثم يهددون بدورهم المسلحين فيتراجعون أمامهم في حركات إيقاعية تؤدّى بطريقة (الرقص الدرامي).. تتكرر العملية عدة مرات قبل أن يفتح المسلحون النار على الشبان الذين انبطحوا أرضاً في محاولة لتفادي الرصاص.. تدخل مجموعة أخرى من الشبان..ترجم بوابل من الحجارة المسلحين فيتراجعون خطوة خطوة.. ينهض الشاب الملثم..يلاحق المسلحين حتى يختفي وراء الكواليس.. يحمل الشبان جرحاهم ويخرجون فتختفي الأضواء تدريجياً.
*
تدريجياً تفتح الأضواء على الخشبة فنرى هيكلاً ضخماً يمثل بناية على هيئة نجمة سداسية كبيرة جداً.. في أعلى الهيكل ترتفع نجمة سداسية صغيرة.. يحيط بالبناية سياج حديدي مشبك.. عدد من المسلحين يحرسون المبنى.. حراس يتجولون في مناوبة، فوق البناية.. آخرون أسفل البناية..حراس في كل مكان.. داخل الهيكل، وخارجه.. الرجل المتوّج بالغار يظهر جالساً، ومن حوله أتباعه.. بعضهم بالزي العسكري، وبعضهم الآخر بالزي الكهنوتي.. الإضاءة داخل البناية السداسية ما تزال خافتة إلى حد عدم قدرة المشاهد على تحديد معنى للحركات، والإيماءات التي يقومون بها داخل المبنى.. يدخل إلى المسرح من أسفل اليسار الشاب الملثم بكامل عدته الحربية.. يراقب حركة المسلحين.. راصداً بنظرة بانورامية حركة كل واحد منهم..يتقدم بضع خطوات.. يجلس باركاً..ينبطح على الأرض إذ يحس بوقع أقدام تقترب منه.. يزحف قليلاً.. يبتعد الصوت..ينزع الحقيبة التي على ظهره.. يخرج منها زمزمية ماء.. يشرب ثم يعيدها إلى الحقيبة.. يقف حال سماعه صوت أقدام تقترب.. يختفي خلف شجرة زيتون.. تمرّ بالقرب منه مجموعة من المسلحين يسيرون بآلية، ورتابة نحو المبنى السداسي.. يخرج عدته بسرعة يضم بعضها إلى بعض.. تصدر عن عمله بعض الأصوات التي ينتبه لها المسلحون فيستديرون بسرعة نحو جهة الصوت، ويتأهبون للانقضاض عليه، وإذ يقتربون يبتعد عنهم متوارياً خلف الأشجار، والحشائش.. يخطو خطوة صوب المبنى ثم يهرول نحوه باندفاع كبير.. يجتاز بمرونة القط، وخفته سوره الحديدي المشبك.. يدور حول المبنى، ويظهر من الجهة الثانية، وقد تخلص من عدته كلها.. يطارده الحراس خارج السور.. يسدّون عليه منافذ الهرب.. يقف.. يلقون القبض عليه.. يوجهون بنادقهم إلى رأسه، وقبل أن يطلقوا النار عليه يدوي صوت انفجار هائل نرى من خلال وميضه أضلاع الهيكل السداسي متناثرة في فضاء المسرح.. ينبطح المسلحون على الأرض، وبشجاعة القط، ودهائه يبتعد الملثم إلى الخارج حتى يتوارى خلف الكواليس، وإذ تخمد الحركة، والنار، ويتلاشى الدوي تظهر على (السايك) صورة الهلال تحيط به مئات النجوم السداسية.. ومع ضربات الطبول الصغيرة (مارش) يتقدم الهلال إلى الأمام..تكبر صورته مزيحة النجوم السداسية..مالئة مساحة (السايك) كلها.. تثبت صورة الهلال الكبير قبل أن تفتح الأضواء في الصالة، ويخرج جمهور النظارة، ويستمر الضرب على الطبول الصغيرة حتى النهاية.
* * *
نشرت في صحيفة العرب العالمية في لندن العدد الصادر في 23/7/2002.