لغة الجسد

ألكسندر لوِون

 

قلب الحياة: لبُّ المسألة

تملك لغة الجسد جزئين: واحد يتعامَل مع إشارات وتعبيرات الجسد التي تنقل معلومات عن الفرد، والثاني يتعامل مع التعبيرات الشفهية، والتي هي في حقيقتها تعبير عن وظيفة من وظائف الجسد. سنتطرَّق في هذا الفصل إلى كلا الجزأين لما يُدعَى بلغة الجسد، وفي بدايتنا بالجزء الثاني، على سبيل المثال: يشكِّل تعبير "الوقوف على قدميه الخاصتين" جزءًا من لغة الجسد. ويعني أن يكون مستقلاً، ويصدر عن تجربتنا العامة. فعندما كنا أطفالاً، وفي حالةٍ من الاعتماد على أبوينا، كان الأخيران يحملاننا ويحضناننا، وعندما نمَوْنا، تعلَّمنا الاستقلال فبدأنا نقِف على أقدامنا الخاصة. تشكِّل الكثير من هذه التجارب جزءًا من لغتنا اليومية. يمكننا أن ندعوَ أحدَهم بـ"رأس يابس" معبِّرين بذلك عن عدم مرونته، أو حين نقول "يدٌ مغلَقَة" فنعبِّر بذلك عن بخل شخص ما، أو حين نقول "فم ضيِّق" فهو دلالة على عدم القدرة على التعبير. وللتعبير عن مواقفنا النفسية، نستخدم مصطلحات مثل "نحمل مسؤولياتنا على أكتافنا"، أو "أبقِ رأسَك مرفوعًا"، و"إبقَ قويًا".

ألمَحَ ساندرو رادو Sandro Rado أن أصْلَ اللغة يكمن في الإحساس الخاص بالجسد، إيه نعم، إن قاعدة كل اللغات هي لغة الجسد. أعتقد أن هذا الاقتراح له دلالة لأن التواصل هو تبادل للتجارب قبل كل شيء، الأمر الذي هو بدوره ردود فعل للجسم على مواقف وأحداث. في عالَم حيث توجد نماذج هامة أخرى للتنويه، فستجد لغة الجسد رغم ذلك مصطلحات لهذه النماذِج. على سبيل المثال، فالتعبير "يتحرَّك في أقصى سرعته" يكمن أصله من تجربتنا مع الآلات المتحرِّكَة، ولها معنى فقط لأشخاص متآلفين مع أنماط كهذه. مثال آخر عندما نقول "بكل قوة البخار" فهو يشير إلى عَمَل المحركات البخارية[1]. تشكِّل هذه التعبيرات جزءًا من المدعو بلغة الماكِنه. لا نعلم كم من هذه التعابير قد صار جزءًا من طريقتنا في التعبير، وبالتالي، في التفكير. فبوسعنا الاستباق بأن تقدمنا التكنولوجي سيُدخِل في مفرداتنا المزيج من المصطلحات الجديدة البعيدة عن لغة الجسد.

كل الماكِنات هي بشكل أو بآخَر امتداد للجسم الإنساني، وتعمل وفقًا للمبادئ التي تحكمه. من السهل إثبات إذا أخَذْنا على سبيل المثال أدوات مثل المذراة التي هي امتداد لليدين والأصابع، والرفش (المجرفة) وهي يدٌ كبرى مقوَّسَة، والمطرقة وهي استطالة للقبضة. لكن الماكِنات الأكثر تعقيدًا تملك علاقة مع الجسد، فالتلِّسكوب هو استطالة للعين، كما هو الحال مع الكمبيوتر الذي هو امتداد للدماغ. ورغم ذلك، فإننا دائمًا ما نستخفُّ بهذا الواقِع، ونميل للتفكير في الجسد كما لو أنه يعمل وفقًا لمبادئ الماكِنات، وليس العكس. وهكذا نطابِق أنفسنا مع الماكِنات التي في عملِها المحدود هي أدوات أكثر اقتدارًا من الجسم. وننتهي لنرى الجسم كماكِنه، وبالتالي نفقد الاتصال بمظاهره الحيوية والحسِّية.

لا ينظر المنهج الحيوي الطاقي للجسد على أنه ماكِنه، ولا حتى على أنه الأكثر تعقيدًا وجمالاً من كل الماكِنات المبتكَرَة. الحقيقة أنه بوسعنا المقارَنَة بين بعض جَوَانب عَمَل الجسم مع تلك التي للماكنه. فالقلب، على سبيل المثال، يمكن النظر إليه كمضخَّة، منعزلاً عن الجسم، فالقلب مضخَّة أو، بعبارة أخرى، إذا لم يكن القلب منغمِسًا في الحياة الكلية للجسم، فسيمكن اعتبارُه ماكِنه فقط. ولكنه منغمس، وهذا بالذات الذي يجعل منه قلبًا، وليس ماكِنه. فالاختلاف بين الماكِنه والقلب، هو أن الأولى تملك وظيفة محدودة. مضخَّة تضخُّ لا أكثر ولا أقل. في حين أن القلب يضخُّ أيضًا، ويعمل وفقًا لهذه العملية كماكِنه. ولكن القلب هو أيضًا جزء مكمِّل للجسم، وفي هذا الجانب، فإن عملَه يشكِّل ما هو أكثر من ضخٍّ للدم، فهو يشكل جزءًا يساهِم في حياة الجسم. تدرك لغة الجسد هذا الاختلاف، وتُعتبَر لهذا السبب هامَّة جدًا.

إن غِنَى التعبير الذي يشمل كلمة قلب يُظهِر كم هي هامة بالنسبة للأشخاص مظاهرها الميكانيكية الزائدة. وهنا أقدِّم بعضًا منها: ففي تعبير "إذهَب إلى قلب المسألة"، فإننا نساوي القلب مع مفهوم الجوهر. وأيضًا في التعبير "إنك لامسْتَ عُمْقَ قلبي"، إذ أن للمصطلَح معنى ضمني للمركَز أو النواة، لأنه يعني بالنسبة لنا مظهَرَ الفرد الأكثر مركزية وعمقًا. "من كل القلب" تشير إلى التزام كلي، بما أنه يشمل ما هو الأكثَر عمقًا لدى الشخص.

نعلم جميعنا أن الشعور بالحب متَّصِلٌ بالقلب. "أضاع قلبَه" أو "ضائع بالحب" تعني أنه متيَّم. "فتحَ قلبَه" هو نفسه استقبال الحب من قِبَل شخص آخر. و"في السعي إلى قلب" تعني البحث عن حب. المصطلَح مُستخدَم كثيرًا بشكل رمزي أيضًا. لكن القلب ليس متَّصِلاً فقط بالشعور، فبناءً على لغتنا هو عضو الحواس، فعندما نقول "انكمشَ قلبي في صدري"، فإننا ننقل الإحساس الخاص بالجَسَد بأن المستمِع يستطيع أيضًا الشعورُ بالشيءِ نفسِه، دلالةً لأقصى حدود القلق وخيبة الأمل. ويتمدَّد القلب مع الفرَح، وهذا ليس فقط تصريحًا تصويريًا، وإنما أدبي أيضًا. وإذا كانت هذه هي الحال، فهل التعبير "جعلتَني أفقد قلبي" يعني صدمةً جسمانية واقعية؟ أميل للاعتقاد بالإيجاب أكثَر، وأفكِّر بأن القلوب المحطَّمَة تُلاحَظ بأنها وحيدة. إن كلمة "تحطِّم" لا يعني بالضرورة "التحطُّم في قطعتين أو أكثر"، فمن الممكن أن تعني انشطارًا بمعنى فقدان الاتصال الموجود بين القلب ومحيط الجسد. بينما يسمح الشعور بالحب بالسيَلان بشكل حر من القلب إلى العالَم.

يهتمُّ المنهَج الحيوي الطاقي بالطريقة التي يتحكَّم فيها الفرد في الشعور بالحب. فهل للشخص قلب منفتِح أو منغلِق؟ يستطيع موقفه أن يكون محددًا بدءًا من تعبير جسدِه، ولكن لكي نستطيع القيام بالتحديد فمن الضرورة بمكان أن نفهَم لغةَ الجسد.

القلب مُحتوَى في قفص الأضلاع، والقَفَص الصدري هو الذي يمكنه أن يكون صلبًا أو لينًا، ثابتًا أو مَرِنًا. يمكن تقييم نوعيته من خلال اللمس، ومن خلال الجسِّ، لأننا نستطيع أن نحسَّ بأن العضلات قاسية، وبأن جدار الصدر لا يخضع للضغط المطبَّق عليه. من الممكن رؤية حركة الصدر من خلال التنفس. لا يتحرَّك جدارُ الصدر مع التنفُّس لدى عدد كبير من الناس. نستطيع الإحساسَ بالحرَكات التنفُّسية لدى أشخاص كهؤلاء بشكل رئيسي على مستوى الحجاب الحاجز، مع مشاركة خفيفة للبطن. فالصدر ممتلئ بالهواء ويُبقي على نفسِه في وضعيةٍ شهيقية. تشكِّل عَظْمَةَ الصدر نتوءًا لدى بعض الأفراد كما لو كي تُبْقِيَ الأشخاصَ الآخَرين بعيدين عن قلوبهم. إن إبراز الصدر لهو شكل من أشكال التحدِّي. فإذا قُمْتَ أنت بذلك بتصميم فسوف يكون بإمكانك الشعور بهذا التحدِّي كما لو أنك تقول "لن أسمح لك بالاقتراب مني".

تكمن قناة اتصال القلب الأولية عَبْرَ الفم والحنجرة. إنها قناة الرضيع الأولى التي تصله من خلال شفتيه وفمه إلى ثدي الأم. إلا أنه يقوم بذلك فقط من خلال الشفتين والفم، ولكن مع القلب أيضًا. نعي جيدًا أن القبلة هي حركة تعبِّر عن الحب. ولكن يمكن لقبلةٍ أن تكون حركة حب قهرية أو تعبير حب حقيقي ويكمن الاختلاف في واقع مشاركة أو عدم مشاركة القلب. وبدوره، تتعلَّق هذه المشاركة بكون قناة الاتصال بين الفم والقلب مفتوحة أو مغلَقَة. بوسع حنجرة مغلقَة ورقبة منقبضة أن يحتجزا فعليًا عبور أي شعور. وفي أحوال كهذه، يكون القلب منعزلاً نسبيًا ومغلقًا عليه.

قناة اتصال القلب الثانية هي الذراعان واليَدان، فبقدر ما تسعى هذه الأعضاء للاتصال، وفي هذه الحال تكمن صورة الحب في اللمسة الحلوة، والناعِمَة، والملاطِفَة كلَمْسَةِ يَدَي الأم لطفلها. وهنا أيضًا، على المصدَر أن يكونَ القلب لكي يتأسَّس العمل فعليًا في تعبير للحب والشعور، وأن ينسابَ عبرَ اليَدَيْن. وفي الحقيقة، إن اليدين اللتين تقودان الحب محمَّلتان بالطاقة على درجة عالية. تحملان قدرة ما على الشفاء في لمستهما. يمكن لسيَلان الشعور أو الطاقة لليدين أن يتم احتجازه من خلال توترات في منطقة الكتفين أو من خلال تشنُّجات في عضلات اليدين. تنمو التوترات في الكتفين عندما توجد طريقة للاستسلام أو الانطِلاق في الحياة. تنجم التوترات في عضَلات اليدين الصغيرة عن كبت دوافع الأخذ أو الإمساك، والتمزيق أو الجرح. أعتقد أن توترات كهذه هي المسؤولة عن التهاب مفاصل اليدين. وأدركتُ في بعض الحالات أن ممارسة التمرين الموصوف في الفصل الأول (عندما تضغط اليَدَان في وضعية امتداد زائد) ساعد أشخاصًا على التغلُّب على هجَمَات التهاب المفاصِل.

القناة الثالثة لاتصال القلب مع العالَم هي تلك التي تنزل من الخصر والحوض إلى الأعضاء التناسلية. فالجنس هو فعل حب، ولكن إذا كان على وجه الحصر إظهارًا أو تعبيرًا عن شعور مخلِص، فغير مرة هي مسألة فيما إذا كان القلب متضمَّنًا أم لا. عندما يكون شعور الحب للرفيق قويًا، فالتجربة الجنسية تملك شدَّةً، وتحصل على مستوى الاستثارة الذي يجعل الذروة أو هزَّة الجماع لحظة نشوة حقيقية. أظهرتُ سابقًا[2] أن هزَّةَ الجَمَاع الكلِّية والمشبِعَة ممكنة فقط عندما يكون الفرد مستسلِمًا على نحوٍ كلي. ونستطيع في هذه الحال بالفعل أن نشعر بالقلب يقفز (يقفز من الفرح) في لحظة الذروة. ولكن من الممكِن لهذه القناة أيضًا أن تُقطَع أو تُغلَق في عدة مستويات من خلال توترات في النصف السفلي من الجسم.

إن الجنس دون شعور كمثل تناول وجبة دون شهية. ومن الواضح أنه لدى معظم الأشخاص نوع ما من الشعور، فالمسألة تكمن في الكمِّ الموجود من الشعور، وفي نوعية انفتاح قناة الاتصال. إحدى الاضطرابات الأكثر شيوعًا بين الناس تكمن في فصل النصف الأعلى عن النصف السفلي للجسم. كما لو أن النصفين يظهران أحيانًا أنهما لا ينتميان إلى الشخص نفسه. فلدى البعض نصف أعلى أكثر نموًا، في حين أن الحوض والساقين صغيران، وفي مظهرٍ غير ناضج، وكما لو أنهما ينتميان لطفل. ولدى آخرين، الحوض ممتلئ ومستدير، ولكن النصف الأعلى صغير، وضيِّق، وبمظهر طفولي. لا تتكامل مشاعر أحد النصفين مع مشاعر النصف الآخَر في كلا الحالَتيْن. وفي بعض الأحيان، يكون نصف الجسم الأعلى قويًا، وصلبًا، وعدائيًا في حين أن النصف الأسفل يبدو طريًا، ومطاوِعًا، ومازوخيًا. وحيث تتواجد درجة من الفصل، لا تنساب الحركات التنفسية الطبيعية عبر الجسم بشكل حر. فالتنفس إما هو صدري (يشمل البطن بشكل خفيف)، أو أنه حجاب حاجزي (مع حركات قليلة للصدر). فإذا طُلِبَ من الفرد أن يقوِّس ظهره لكي يقوم بانحناء حسب نموذج التاي شي شوان الموصوف سابقًا، فلن يشكِّل خط الجسم قوسًا حقيقيًا. وسيكون الحوض إلى الأمام أكثر أو إلى الوراء أكثر، مسبِّبًا انقطاعًا في الخط، وفي وحدة الجسم. يشير نقصان الوحدة إلى أن الرأس، والقلب، والأعضاء التناسلية ليست متكامِلَة.

تحتجز التوترات العضلية المزمِنة السيَلان الحر للاستثارة والمشاعر، والتي تتواجد غالبًا في الحجاب الحاجز، وفي العضلات التي تحيط بالحوض والفخذين. إن استرخاء هذه العضلات بطرق جسمانية ونفسانية يساعِد الأشخاص على أن يبدأوا الشعور بـ"اتصالهم". وهذه هي الكلمة التي يستعملونها أكثر. واعتبارًا من هنا فالرأس، والقلب، والأعضاء التناسلية؛ أو الفكر، والمشاعر، والجنس ليسوا بعد أجزاءً أو وظائف منعزِلَة. فالجنس يصير تعبيرًا عن الحب أكثر في كل مرة، مع ازدياد موافق للذة. وهكذا ينقطِع بشكل ثابت أي تصرف ملتبِس كان موجودًا سابقًا.

للقلب عند النساء اتصالٌ مباشرٌ وفوري مع الثديين اللذين يستجيبان شبقيًا، وعلى نحوٍ غِدَدي للدوافع الصادِرَة من القلب. ومع التحريض الجنسي تنتصِب حَلَمَتا الثديَيْن وتمتلئان بالدمِّ، وفي الإرضاع تفرز الغدد الحليب. وعلى هذا النحو، بشكل طبيعي فإن فعل الإرضاع هو واحد من أكثر التعبيرات الواضحة للحب الأمومي. وللسبب نفسه، من الصعوبة بمكان أن نتخيَّل بأن حليب الأم ليس لائقًا لابنها. فقد حُمِلَ الطفل ونما في الوَسَط نفسِه الذي أُنتِجَ فيه الحليب. وبالرغم من ذلك، فلقد أكَّد بعض المرضى أنهم قد اختبروا شيئًا من المذاق المرِّ في حليب الأم. وعلى الرغم من اتخاذ تأكيداتٍ كهذه على مُحْمَل الجدِّ، فلا أعتقد أن الحليب في ذاته ليس كاملاً. ويبدو لي الأكثر احتمالاً أن الأم كانت مغتاظَة ومشمئزَّة إزاء المسؤولية التي كان الطفل يمثِّلها بالنسبة لها، ويدرك الطفل هذا الاستياء كموضوع لردِّ فعلها تجاهه. الإرضاع كالجنس هو أكثر من رد فعل فيزيولوجي. إنه رد فعل انفعالي، ولكونه هكذا، فهو عرضة لنشاط وحالات الأم. كما أن سيَلان المشاعر الذي يذهب من القلب إلى الثدي يمكن له أن يزداد أو يتضاءل.

درستُ قليلاً النقاش حول القلب باعتباره أساسيًا لكل علاج. يأتي الأشخاص للعلاج مع شكاوى مختلِفَة: اكتئاب، قلق، شعور بعدم اللياقة، الفشل،... إلخ. ولكن يوجد مع كل شكوى نقصان في اللذة، وفي الإشباع في الحياة. من شائع في أيامنا هذه أن نسمَعَ الكلام عن تحقيق الذات والطاقة الإنسانية. لكن مصطلحات كهذه تفتقد المعنى ما لم نتساءل: طاقة لأي شيء؟ إذا رغب أحدهم أن يعيش أكثر امتلاءً وغنىً، فعليه أن يفتح قلبَه للحياة وللحب. وبدون أن يحب ذاته نفسها، والآخرين، والطبيعة، والكون، فالفرد يكون باردًا ومهلوسًا ويائسًا. تنساب من قلوبنا الحرارة التي توحِّدنا مع العالَم الذي نحيا فيه. وهذه الحرارة هي الشعور بالحب. إن غاية كل علاج هي مساعدة الشخص على زيادة قدرته على عطاء واستقبال الحب، وعلى توسيع وتنمية قلبه وليس فقط عقله.

تبادل مع الحياة

كلما انتقلنا من القلب إلى محيط الجسم، فإننا نواجه أعضاءً تتفاعل مع الوسَط المحيط. إن لغة الجسد مليئةٌ بتعبيراتٍ صادرة عن الوعي الخاص بوظائف الجسم. تعبيرات كهذه غنية جدًا بصورٍ ومعانٍ لا يمكن لأي دارِس للشخصية الإنسانية أن يسمح لنفسِه بتجاهلِها.

سنبدأ من الوجه، ذلك أن هذا هو الجزء من الجسم الذي يقدِّمُ نفسَه علانيةً للعالَم. وهو أول جزء يُمعَنُ النظرُ فيه عندما ينظر شخصٌ إلى آخَر. وكما أن كلمة قلب تعني "مركز" أو "جوهر" فإن مصطلح وجه امتدَّ على نحوٍ يتضمَّن المظهر الخارجي للأشياء والأوضاع. وعلى هذا النحو، نتحدث عن واجهة بناء أو مشهَد طبيعي. وعندما نعلِّق قائلين بأن "هذه المشاكل قديمة لكنها تبدو بوجه جديد"، فإننا نشير إلى تغير في المظهَر الخارجي للأوضاع دون تغيير موافق في جوهرها.

كلمة وجه موظَّفَة على نحوٍ مشابه لكي تشير إلى صورة شخص يدخل في علاقة مع مفهوم وجه الأنا، حسب ما أن الأنا في واحد من مظاهر عمله مشمول مع صورة منعكِسَة للشخص. "صار وجهه في الأرض" إنها معاناة صدمة على مستوى الأنا، إذًا تجتهِد الغالبية العظمى من الناس "لكي تحافظ على المظاهر". وإذا "أخفَينا وجهَنا" فإننا نكشف عن إحساس بالخجل إذ يشعر الأنا نفسَه مذلولاً. أما الشخص الذي لديْه أنا قوي فهو "يواجه" الأوضاع، لدرجة أن الأكثر ضعفًا "يميل بوجهه عنها" بشكل طبيعي. تشمل التعبيرية الذاتية الوجه، ونمط التعبير الوجهي الذي نتبناه يشير جيدًا إلى نمط الشخص الذي نحن عليه وكيف نشعر. هناك الوجه المتألِّم، والوجه المكتئِب، والوجه المستنير، والمتجهِّم،... إلخ. ولسوء الحظ، فليس لأغلبية الناس وعي بتعبيرهم الوجهي، وعلى هذا النحو، فإنهم بعيدون عن الاتصال مع وجودِهم، ومع كيفية شعورِهم.

تسمح لنا هذه الاعتبارات بتقييم أنا الشخص اعتبارًا من وجهه. فللفصامي عامةً صفة قناع هي بالضبط إحدى العلامات التشخيصية لهذا الاضطراب حسب ما يشير إلى حالة أناه الهشَّة. وبقدر ما يتحسَّن في العِلاج يتَّخذ وجهه طابعًا أكثر تعبيرًا. ويشير وجه كبير وممتلئ إلى أنا قوي (هذه هي لغة الجسد)، لكن ليس نادرًا أن نرى رأسًا ووجهًا كبيرَي الحجم لجسم صغير الأبعاد أو بالعكس جسم كبير مع رأس ووجه صغيرين. يمكننا أن نحدس في هاتين الحالتين درجة ما من الفصل بين الأنا والجسم.

ملاحظة أخرى هامة، وهي ميل الكثير من الفتيان والفتيات إلى أن يخفوا وجوههم بشعرهم الطويل. ويبدو لي أن هذا الأمر هو ظاهرة لانعدام الإرادة على مواجهَة العالَم. ويمكن ترجمته أيضًا على أنه رفض لثقافتنا التي تجعل للصورة قيمةً بشكلٍ مفرِط. يضمُّ كثير من شبَّان اليوم في شخصياتهم ميَلاً ضد الأنا، ذلك أن الوَجَاهَة والأوضاع والمركز وعلامات السلطة المادية والتأثير، هذا كله قبيح بالنسبة لهم. بوسعنا أن نفهم هذا الموقف على أنه رد فعل غير قصدي على الأهمية التي يعطيها ذووهم للمظهَر الخارجي على حساب قيَم أخرى كالحقيقة الداخلية وقيَم أخرى غير مرئية.

لكلٍّ من أعضاء وعلامات الوجه لغتها الجسمانية الخاصة. فالعينان، والحاجبان، والوجنتان، والفم، والذقن، تُستخدَم لإظهار صفات أو سِمَات كثيرة. سنوضِّح بعضًا من هذه التعبيرات التي تشمل هذه الأجزاء التشريحية. فالحاجبان المرتفعان يشيران إلى ثقافة أو حياة فكرية، الضدُّ، بمعنى آخر حاجبان منخفضان، ينتمِيَان إلى أشخاص سُخَفَاء. ويقال عن شخص مذلول (حاجبان ذاويان) أو عندما تكون محبَطًا بقوة التخويف المعبَّر عنها بالكلمات أو النظَرَات المسيطِرة للمتحدِّث. وهكذا فالحاجبان يقعان بالفعل. وعندما يكون قلب الشخص خاليًا من المشاعِر يقال عنه "وجهه قاسٍ" وترتفع الوجنتان حرفيًا نحو الأعلى على قدر ما تمتلئان بالدم والمشاعر العدائية.

كذلك لوظيفة الرؤية أهمية بالنسبة للوعي الذي يتساوى فيه معنَيَا فِعْلَيْ "أرى" مع "أفهم". فالشخص الذي ينظر بعيدًا، لا يبلغ بعينيه النقطة الأكثر بعدًا فحسب، بل يفهَم أيضًا أكثر من الآخرين. وعينان تبرقان هما إشارة ورمز للفيض. تلعب العينان في وظيفة أعضاء التعبير دورًا أساسيًا في لغة الجسد. فيمكن لنظرة أن تنقل سلسلة مشاعر عدَّة وشدَّة معانٍ، وفي مرات كثيرة نقيِّم استجابة الآخَرين من خلال عيونهم. وفيما يتعلَّق بالفم هناك عبارات مثل "طويل اللسان" و"الحكي الناعم" و"لا يتكلم"... إلخ. ووظيفة الأسنان هي غنية في استعاراتها، "أعطى عضَّة حلوة" في شيء ما، هو تعبير أكثر قوة من أن نقول "وصول إلى التقاتُل". من "صوته مخنوق"[3] هو يائس، ونقول عن "مشتهى لذيذ"[4] للإشارة عن شيء يعطي شعورًا باللذة. وأخيرًا هناك تعبير إنكليزي يُقال فيه "ذقن مرتفعة"، وتعني الإبقاء على ضبط النفس أمام أحداث مناوئة. وأن يترك الذقن تقع لهي حركة أولية للشخص الذي يترك نفسه يؤخذ بنشيج في بكاء. يلاحظ هذا بوضوح لدى الأطفال ذوي الذقون التي تقع وتبدأ بالرجفان فورًا قبل أن يشرعوا بالبكاء. أحيانًا في العلاج الحيوي الطاقي، من الضروري أن نجعل المريض يترك ذقنه تقع قبل أن يتوصَّل للاستسلام للبكاء.

الصوت الإنساني هو أعظم وسيلة تعبيرية بمتناول الإنسان. يصف بول ج. موزس Paul J. Moses في كتابه The voice of Neurosis (صوت العصاب) العوامِل الصوتية للصوت ويُظهِر علاقتها بالشخصية. سأناقش في فصل لاحق المفاهيم التحتانية التي تسمح لنا بقراءة الشخصية من خلال الصوت. تتعرف اللغة الجسمانية على معنى الصوت، فإذا شخص ما "ليس لديه صوت" بخصوص موضوع ما، فهذا يعني أنه ليس مهتمًا، "ليس لديه ما يقول". فقدان الصوت بإمكانه، إذًا، أن يعني فقدانَ مقامِه نفسه.

تساهِم وظيفة الكتفين والذراعين واليدين في اللغة الجسمانية. فالشخص الذي يتخذ على عاتقه مسؤولياته "يحملها على الكتف". وذلك الذي يفتح الطريق "بقبضته" هو شخص عدواني، وعندما "يحضِّر عضلاته" فهو يواجه مشاجرة. وإذا أحدهم "يدير حياته الخاصة بشكل جيد"، فلدينا فخر بهذا الشخص. ونَصِف مشاركةَ فردٍ في حَدَث ما قائلين أنه "مد يد المساعدة".

اليد هي وسيلة اللمس الأساسية، إذ تحتوي على مجسَّات لمسية أكثر من أي جزء آخر من الجسم. وبالتالي، فاللمس هو بشكل أساسي وظيفة اتصال يدوية، دون أن تكون مع ذلك آلية. وبمصطلحات إنسانية، اللمس هو اتصالٌ لرقَّة المشاعر بين الناس. التعبير "أنت لامستَني"، هذا المعنى هو طريقة أخرى للقول بأن أحدَهم أثار داخل الشخص استجابةً عاطفية، وهذه طريقة جميلة للتعبير عن ذلك، في حين أنه يتضمَّن أيضًا فكرة التقرُّب والحميمية. "أن تكون على اتصال" هو أن تكون مدرِكًا وواعيًا. يشير هذا التعبير إلى ترابط قريب بين اللمس والمعرفة. فالرُّضَّع يتعلَّمون صفات الأشياء من خلال وضعها داخل فمهم، المكان حيث المذاق هو الكيفية الحسِّية المسيطِرَة. في حين أن الأطفال يبدأون تعلُّمَ اللمس.

يضع الترابط الموجود بين اللمس والمعرفة تساؤلاً هامًا فيما يتعلَّق بالعلاج: فهل يتوصَّل أحدهم فعلاً أن يعرِف شخصًا آخَر دون أن يلمسَه؟ بعبارات أخرى: كيف يمكنك أن تشعر بشخص آخَر دون أن تلمسَه؟ إن التحليل النفسي التقليدي وتجنُّبه لكلِّ وأيِّ اتصال جسماني بين المريض والمحلِّل ليس إلاَّ ثمرة خوف من أن يثير اتصال كهذا مشاعر وأحاسيس جنسية. وفي رأيي، يضع هذا عقبة بين شخصين يمكنهما أن يكونا بحاجة لأن يكونا على اتصال الواحد مع الآخر على نحوٍ أكثَر مباشَرة من أن يكون من خلال العبارات فقط. فعند لمس جسم المريض، يتوصَّل العلاج للشعور بأشياء كثيرة تتعلَّق بهذا الشخص: النعومة أو صلابَة جهازه العضلي، جفاف جلده، وحيوية أنسجته. فمن خلال اللمسة تتوفَّر للمعالِج الفرصَة في أن تُنقَل للمريض المعرفة التي يشعر بها ويقبَلها باعتباره كائن جسماني، بالإضافة للفكرة بأن اللمس هو الطريقة الطبيعية للاتصال بالآخَر.

ومن وجهة نظر المريض، فإنه يشعر باهتمام المعالِج له حينما يلمسه. إنه فعل ذو جذور يعود عهدها إلى الفترة التي حُمِلَ فيها على الحضن، وقامَت أمه بلمسه. أظهرَت هذه الأفعال الطبيعة الحنونَة والودودة لاهتمامات أمه به. ففي ثقافتنا يتألَّم معظم الأشخاص بسبب افتقاد الاتصالات الجسمانية منذ طفولتهم الأولى. وينجم عن هذا الحرمان رغبة في أن يُلمَس، ويُحمَل على الحضن، الأمر الذي يخشى التعبير عنه في طلَب أو مسعَى يقوم فيه هو بنفسِه. وهكذا يُشيَّد تابو ضد الاتصال الجسماني لكونه مشترِك بالقرب جدًا من الجنسانية في عقولهم وأجسامِهِم. وبما أن تابو من هذه الطبيعَة يجعَل الأمرَ صعبًا بالنسبة للأشخاص أن يكونوا بشكل فعلي على اتصال فيما بينهم، فهو أمر من الأهمية بمكان أن يتمَّ إلغاءه علاجيًا. وهو بالتالي، تعهُّد علاجي أن يظهر بأنه لا يوجد سبب للخوف من أن يكون ثمة اتصال مع المريض والقيام بلمسه.

عند وضع المعالِج يديه على المريض، إذَّاك تظهر مشكلة نوعية اللمسة. يمكن لمس شخص بشكل رئيسي إذا كان من الجنس الآخَر، بطريقة ما أن اللمسة تتخذ طابَعًا جنسيًا، ويصير الاتصال الجمساني شهوانيًا. إذا حصل أمرٌ كهذا، فلسوف يصير مثبَتًا قلق المريض الأكثر عمقًا إزاء الاتصال الجسماني، معزِّزًا تابواته في المستوى الأكثر عمقًا، بالرغم من طمأنَة المعالِج له بأن كل شيء على ما يرام. كلا، ليس صحيحًا. فإن أي تورُّط جنسي للمعالِج هو خيانة للثقة المودَعَة في الصلة العلاجية التي تعرِّض المريض للصدمة نفسها التي اختبرَها في علاقتِه مع أبويه حينما كان صغيرًا. إذا تم قبول هذه الخيانة على أنها طبيعية، فسينجم معيارٌ لعَرَض جنسي يُخفي عَدَمَ استطاعة الدخول فعلاً في اتصال من خلال اللمس.

يجب على اللمسة العلاجية أن تكون حارَّة، وودِّية، وموثوقًا بها، ومجرَّدَة من أية غاية شخصية، وذلك لكي يتم الإيحاء للمريض بالثقة بالمعالِج، وعلى قدر ما أن المعالِج هو أيضًا كائن إنساني، فمن الممكن لمشاعره أن تتدخَّل عرضيًا. وعندما يحصل ذلك فعلى المعالِج ألا يلمس المريض. وبالتالي، على المعالِج أن يعرِفَ نفسَه، وأن يكونَ على اتصال مع نفسه قبل أن يقومَ بلمس مريضه. إن القيام بالعلاج الذاتي هو الشرط الأساسي لكي يصير معالِجًا لأفراد آخرين. يُنتظَر من المعالِج أن يعرف ما هي طبيعة اللمسة، وأن يتعرَّف على الاختلاف بين اللمسة الحسِّية، والأخرى التي تقدِّم دعمًا، وبين اللمسة القوية والأخرى العنيفة، بين اللمسة الآلية والأخرى النابعة من القلب.

للمريض حاجةٌ هائلة لكي يَلمِسَ المعالِج، ذلك أن التابو هو بالضبط ضد اللمس الأمر الذي يجعله يشعر بنفسه معزولاً. ولكي أتخطَّى ذلك، غالبًا ما أطلب من المريض أن يلمس وجهي بينما هو مستلقٍ. ألجأ إلى طريقة العمل هذه بعد نجاحي في تعرية البعض من مخاوفهم. عند انحنائي نحو المريض، أتخذ وضعية أم أو أب ينظر إليه كما لو أنه طفل صغير. في البداية يفاجئني التردد، والحركة التي يحاول من خلالها، والقلق الذي يساوره. كثيرون يلمسونني فقط برؤوس أصابعهم، كما لو أنهم خائفون من استعمالهم لليد كلها للدخول في اتصال. كان البعض يقولون بشعورهم بالخوف من أن يُرفَضوا، وآخرون بأنه لم يكن لديهم الحق في لمسي. وكان القليلون فقط وبدون تشجيعات خاصة يشعرون بإمكانية تقريب رأسي منهم على الرغم من أن هذا ما كانوا يرغبون القيام به. وفي كل الأحوال فإن طريقة العمل هذه بلَغَت المستوى الأكثر عمقًا لمشكلة لا تستطيع الكلمات وحدها أن تجد لها حلاً. وكان بعض المرضى يلمسون على سبيل الاستكشاف. كانوا يتركون أصابعَهم تتجول حول وجهي كما لو كانوا أطفالاً يتفحَّصون مظاهِرَ وجه أحَدِ أبويهم. وكان آخَرون يدفعون وجهي بعيدًا، مستعيدين الرفض الذي عانوه منذ سنين طويلة. غير أنه عندما يذعن المريض لرغبته في الاتصال الجسماني فإنه يعتاد على اجتذابي نحوه، ويتمسك بي بقوة ويحسُّ جسمي بين يديه. أشعر برغبته هذه، بقدر ما يدرك قبولي لها. إن واقعَ الدخول في اتصال معي، يمكِّنه في كل مرة الدخول أكثر في اتصال مع نفسه، الأمر الذي هو بالضبط الغاية من كل مشروع علاجي.

يكمن مجال رئيسي ثالث للتبادل في علاقة الشخص مع الأرض. فكل وضعية نتخذها، وكل خطوة نقوم بها، تتضمن هذه العلاقة. وعلى نحوٍ مختلِف عن العصافير والأسماك، فنحن أكثر التحامًا بالأرض، وعلى عكس ثدييات أخرى، فإنَّنا ننتصِب على أقدامِنا ونتحرَّك مستندين على سيقاننا. وهذه الوضعية تُحَرِّر الذراعَيْن على قدر ما أن وظيفة حمل الوزن تنتقِل إلى العمود الفقري وإلى الساقَيْن. والتغيُّر للوضعية المنتصِبَة تجعلُ التوَتُّر في عَضَلات الظهر، وبشكل خاص في المنطقة العجزية القطنية. سوف أناقش في فصل لاحق طبيعة هذا التوتُّر وعلاقته مع مشاكل المنطقة السفلى من الظهر. الآن، يعود الاهتمام أكثر إلى علاقة وظائف الأطراف السفلى مع الشخصية على قدر ما تنعكِس في لغة الجسد.

على سبيل المثال، نستطيع وصف شخص قائلين فيما إذا كان لديه أم لا "مركز" في داخل المجتمع. وفي حال أنه لم يملك "مركز" ما فإنه لا يُحتسَب كشخص. وبوسعنا أن نسأل أيضًا: "ما هي وقفتُه؟" وذلك بخصوص حَدَثٍ ما. كما أن طريقة جلوسه تُظهِر هذه الوقفة. فيمكنه مثلاً "الوقوف إلى جانب" اقتراح ما أو ضده. فإذا "لم يتخذ الشخص موقفًا" فإنه "يظل خارجًا". وإذا اتخذ فبوسعنا الكلام عن "موقف صلب" لدرجة أن الشخص "لا يُبعِد قَدَمَه". هنالك تصوُّر عن القوة في الحفاظ على وقفتِه، ومن الواضح بأن تصريحات مثل "فَتَحَ جبهة" مما يعني الهجوم والتدمير أو الخسائر، و"تحمُّل الانتقادات".

الكلمة المضادَّة "للوقوف على القدمين" باعتبارِه فعل ليس هو فعل الـ"جلوس"، لكون هذا الفعل يتناول صيغةً مختلِفَة، وإنما باستعمال شكل آخر من الفعل أي "أن تكون واقفًا بشكل متهاون"، فالتهاوي هو الانتقال من وضعية إلى أخرى. إن شخصًا "غير مستقر" لا يثبِّت قَدَمَه على شيء، والشخص الذي "ينزلِق" لا يتوصَّل إلى الحفاظ على مركزه، والذي هو مُهمِل، فالتعبير عن ذلك هو أنه فتَحَ يدَه عن مركزه أي تخلَّى عنه. هذه المصطلحات مجازية عندما نوَظِّفها لوصف السلوك، وذلك بتطبيقها على الشخصية، وتتخذ دلالة أدبية. هناك أشخاص ذوو أجسامٍ تُظهِر موقِفًا مُتَهَاوِنًا عاديًا، وآخرون لهم أجسام متهاوية، أو تظهِر نوعًا ما من السقوط. وليس لبعض الأفراد الشروط الكافية للوقوف على القدمين دون أن ينقلوا وزنَهم بشكل متواصل من قدم إلى أخرى. عندما تصف مصطلحات كهذه الوضعية النموذجية للجسم فهي تصِف الشخص.

الأسلوبُ الذي يواجِه فيه الشخص الحياة، أو بعبارة أخرى، ينعكس موقفُه الأساسي ككائن إنساني على نحوٍ درامي في جسده. نأخذ مثالاً شائعًا، الميل الكبير لبعض الأشخاص في إسناد ساق أحد القدمين على الركبة الأخرى. إن تأثير هذه الوضعية هو تحويل الساق إلى دعامة صلبة على حساب مرونتها (فعل الركبة). ليسَت هذه الوضعية طبيعية، وعندما تحصَل، نعلم اعتبارًا منها أن الشخص بحاجة إلى نقاط دعم إضافية. تُعلِمُنا هذه الوضعية بالنتيجة، بحضور إحساس ما من شعور باللاأمان في الشخصية. (وإلا لِمَ الحاجة إلى دعم إضافي) وذلك بغض النظر أن يكون واعيًا أم لا بهذا الإحساس من اللاأمان. إذا طَلَبنا لشخص كهذا أن يبقى على قَدَم مع ركبتين مثنيِّتين بخفَّة لهو شائع أن نستنتِج بأن الاهتزاز في الساقين قادر على إثارة إحساس بأن "ساقيَّ لا تحتمِلان وزني".

لكي نحصَلَ على وضعية جيدة عندما نقف على أقدامنا، يجب أن تكون أقدامُنا كما لو أنها مغروسةٌ في الأرض grounded. فيجب أن تكون أقدامُنا مسنودةً كليًا على الأرض ومع ذلك يكون أخمص القدمين غير متقلِّص، ولا يجب أن يكون هابطًا. وذلك الذي ندعوه بشكل طبيعي أنه ذو قَدَم مسطَّحَة هي مشكلة هبوط أخمص القَدَمين، وبالنتيجة ينتقِل الثِّقَل إلى وجه القَدَم الداخلية. ومن جهة أخرى، فإن أخمَص قَدَم مرتفِعَة هي إشارة إلى تشنُّج أو تقلُّص في عضلات القَدَم. فالأخمص المرتفع يقلِّص من الاتصال بين القَدَم والأرض، ويظهر بالتالي إلى أن قدمَي هذا الشخص ليستا مغروستين جيدًا في الأرض. ومن الأهمية بمكان أن نلاحِظ بأن الأخمص العالي يُعتبَر تقليديًا على أنه شيء أكثر صحَّة وأفضل نوعية. كثيرون يتذكَّرون عندما كان الشرطي يُدعَى بـ"قَدَم مسطَّحَة" لأن قَدَميْه تصيران افتراضًا مسطَّحتيْن على قدر ما كان "يهدِّئ الجموع المهتاجة برَكَلات قدمَيْه" كما قلنا حتى الآن "قدَمٌ مسطَّحَة" كانت تعبيرًا مِهَنيًا يُظهِر وضعيَّةً دونيةً في السلَّم الاجتماعي.

ظلَّت والدتي، حين كنت صغيرًا، قلقة بشكل متواصِل بخصوص قَدَميَّ المُسطَّحتيْن. وعارَضَت بأكثر مقاوماتها عنادًا استعمالي لحذاءٍ رياضيٍّ لأنها كانت تخشى أن يشكِّلَ هذا النوع من الأحذية، ميلاً لقدميَّ بأن تظلا مسطَّحتيْن، في حين أنني كنت أرغب بحرارة استعمال أحذية الرياضة لأنها مهَيَّأة للجري وللعب الكرة كما كنا نفعل. كان كل الصبيان الآخَرين يستعملونها، وهكذا دخَلْتُ في شجار مع والدتي إلى أن فزت بحذائي الرياضي في النهاية. ومع ذلك كانت أمي تلحُّ على أن أستعمِل نعلاً طبيًا في الحذاءين، الأمر الذي شكَّلَ لي عذابًا، أمضيت بعض الوقت حتى تحررتُ منه. لقد كان ألمًا لأنني خلال طفولتي عانيتُ من دمامل بسبب الأحذية القاسية والضيِّقَة. ولم تعُد قدماي مسطحتيْن مُطلَقًا، ومع أنه لم يكن لدي أخمصًا عاليًا جدًا فقد امتلأت والدتي سعادةً. في الحقيقة لم تكن قدماي مسطحتين جدًا، وعلى مدار السنين مع ممارستي للمنهَج الحيوي الطاقي على ذاتي لكي أرى فيما إذا كانت قَدَمَايَ تستطيعان الدخول أكثر في اتصال مع الأرض، مسطحًا إياهما أكثر. لدي اليقين بالنتيجة أن عملاً من هذا النوع لم يؤدِّ إلى نشوء دمامل، وتصلُّبات دمَّلية، أو أية مشاكل أخرى للقدم في تلك الفترة.

إن علاقة القدم مع الوضعية الجسمانية في المكان، ومع المركز الاجتماعي، واضحة من خلال العادة الصينية القديمة بشدِّ أقدام البنات لكي تظل صغيرة، وعديمة الفائدة نسبيًا. كانت هذه الممارسة تعود إلى سببين: فالقدمان الصغيرتان كانتا إشارة إلى مركز اجتماعي أكثر رقيًا، ذلك أن نساء الطبقة النبيلة في الصين كنَّ يملُكنَ أقدامًا صغيرة. وكان هذا يعني أن نساءً كاللواتي لم يكنَّ يقُمْنَ بأعمال ثقيلة، أو يمشَيْنَ مسافاتٍ طويلة، لأنهُنَّ كنَّ يُحْمَلْنَ على هودج. في حين أن القرويات، وبدون ظروف تتيح لهن بذخ كهذا فكانت أقدامهن كبيرة، وعريضة ومسطَّحَة. أما السبب الثاني لتثبيت أقدام النساء عن النموِّ، فقد كان تقييدهنَّ في المنزل، وتجريدهنَّ من استقلاليتهن. ولكن، ذات يوم، كانت هذه الممارسة محصورة على طبقات معينة، وعلى هذا النحو يجب رؤيتها أكثر كانعكاس لامتدادات ثقافية واجتماعية للصينيين القُدَماء. إن دراسة كيفية ظهور المواقف الثقافية في التعبيرات الجسمانية، هي ما تُدْعَى بعلم الحركات. ففي المنهَج الحيوي الطاقي ندرس تأثير الثقافة على الجسم نفسه.

كانت لدينا منذ سنين طويلة، قصة هزلية قصيرة في نشرة معهد التحليلات الحيوية الطاقية، حيث تعلَّق الأمر بأستاذ لعلم التشريح وهو واقف أمام خريطة القَدَم البشرية، ماسِكًا بعصا صغيرة، وينظر إلى طلاب قسم الطب. كان تعليقه هو التالي: "لديَّ اليقين من أن أولئك الذين يفكرون بأن يصيروا أطباءَ نفسيين، لن يكون لديهم أدنى اهتمام فيما علي أن أقوله". لربما ما كان يوظِّفه بخصوص القَدَم كان ضئيل الأهمية بالنسبة للطب النفسي. نحن في المنهَج الحيوي الطاقي نعتقد دائمًا بأن قدميّ الفرد تفصحان لنا بالكثير عن شخصيته، مثلما هو الأمر بالنسبة للوجه. فقبل القيام بالتشخيص لمشكلة شخصية، أحب أن أرى كيف يقِف الشخص على قَدَمِه، ولذلك أنظر إلى قدميه.

إن شخصًا متوازنًا يكون متوازنًا بشكل جيد على القدمين، وباعتبار أن الوزن موزَّع بالتساوي بين العَقِبين، والجزء المدوَّر بالقرب من الأصابع. فعندما يتموضع الوزن في العَقِبَيْن، فإن شيئًا ما يحصل إذا تم الحفاظ على الوضعية مع الركبتين مسنودتين على بعضِهما فيكون الشخص خارج التوازن. ودفعة خفيفة على صدره ستكون كافية لجعله يترنَّح إلى الوراء، خصوصًا إذا لم يكن منتبهًا للحركة. أظهرتُ هذا الجانِب عدة مرات في مختبراتنا. ومن الممكن القول بأن شخصًا كهذا ينطبق عليه المثل الشعبي "ماريا تذهب مثل الأخريات"، فالوضعية مطاوِعَة. إن نقل الوزن إلى الجزء المدوَّر من باطن القَدَم تهيئ ابتداء حركة التقدُّم، والتي هي وضعية عدائية. وبما أن التوازن ليس ظاهرة سكونية فالحفاظ عليه يتطلَّب تعديلات متواصِلَة للوضعية المنتصِبَة بالإضافة إلى وعي القدمين نفسهما.

التفسير لعبارة "ذلك الشخص الذي قدماه على الأرض" يمكن اعتبارها، حرفيًا، فقط في دلالة وجود اتصال حساس بين القدمين والأرض. يحصل هذا الاتصال عندما تنساب استثارة أو طاقة إلى القدمين، مؤدية إلى حالة من التوتر الاهتزازي، شبيه بتلك الموصوفة بالنسبة لليدين في اللحظة التي يتركز فيها الانتباه أو يتوجَّه بالطاقة نحوَهما. يعي الشخص قدميه، ويصير قادرًا بالتوازن عليهما بشكل لائق.

إن الكلام شائع عن الفرد في أيامنا هذه على أنه مهلوس أو منعزل. والأكثر ندرةً أن نسمعَ أحَدَهم يقول بأنه يفتقد إلى قاعدة، أو أنه مُقتلَعٌ من جذوره. وصف James Michner في مقطع أدبي له يتحدث فيه عن الشبيبة المعاصِرَة بمصطلح The Drifters (الذين يسيرون على غير هدى). فطالما أنها ظاهرة ثقافية، فالأمر يتناول موضوعًا لبحثٍ اجتماعي، لكنه أيضًا ظاهرة حيوية طاقية: الحرمان من الحس بامتلاك جذور إنما ينجم عن اختلال ما في عمل الجسم، واقع على الساقين، ذلك أن هاتين الأخيرتين هما جذورنا (دعامتان) متحركتان. على مثال جذور شجرة، فإن سيقاننا وأقدامنا تتفاعل على نحوٍ طاقيٍّ مع الأرض وبوسعنا الشعور بأقدامنا وهي محمَّلَة بالطاقة، وعلى استعداد عندما نمشي حفاة على العشب المبتلِّ أو على الرمل الساخن. يمكن للإحساس نفسه أن يُعايَش وذلك بالقيام بالتمرين الحيوي الطاقي للتجربة الجسمانية. وما أستعمله بشكل عام لهذا الغرض هو في جعل الشخص ينحني إلى الأمام، لامسًا الأرض بخفة في أطراف أصابعه. وعلى قدميه أن تكونا على بعد 30 سم، الواحدة عن الأخرى مع أصابع القدم وهي موجَّهَة بشكل خفيف نحو الداخل. تبتدئ الحركة مع الركبتين مثنيتين، ويبدأ بمطمطتهما حتى ينشأ توتر في أوتار عضلات الساقين، ولا يجب على الركبتين أبدًا أن تُشَدَّا بشكل كامل. ويُحافَظ على هذه الوضعية لمدة دقيقة أو أكثر، بينما يتابع الشخص التنفس بسهولة وعمق. وإذا ما نزل الإحساس حتى الساقين، فإن هاتين الأخيرتين تبدآن بالاهتزاز وصولاً حتى القدمين، وهاتان تبدآن أيضًا بالتنميل. إن المرضى الذين يقومون بهذا التمرين، يروون أنهم في بعض الأحيان يشعرون بـ"التجذر" اعتبارًا من هذه المعايشات، ويصلون خصوصًا إلى الإحساس بأن أقدامهم تدخل في الأرض[5].

أن يكون لدينا "جذور"، وأن نكون "مغروسين في الأرض"، وأن يكون لدينا "مركز" أو "نتمركَّز من أجل" شيء ما، فهذا في رأيي نوعية نادرة لأشخاص أيامنا هذه. فالسيارة حرَمَتنا من الاستخدام المتكامل لأرجلنا وأقدامنا. كما حَرَمَنا السفر في الطائرة من الأرض بشكل كامل. إن التأثيرات الرئيسية حول عمل الجسم، رغم ذلك هي غير مباشرة أكثر من أن تكون مباشرة. وإن الصدمة الثقافية الأكثر بروزًا بالنسبة لنا هي التغير في طبيعة العلاقة أم–طفل بشكل أساسي، فيما يقال بخصوص تناقص الاتصال الجسماني الحميم بين الأم وابنها. ناقشتُ هذه المشكلة في كتابي الأخير على نحوٍ أكثر تفصيلاً[6] فالأم هي الأرض الأولى للطفل، أو بعبارة أخرى، يحصل الطفل على جذوره من خلال جسم الأم. فالأرض والتراب يتواحدان رمزيًا مع الأم التي تمثل التربة والبيت. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ عبارة "تجذُّر" فهي تُستعمَل أيضًا لوصف الحركات الغريزية للطفل الصغير في سعيه لحَلَمَة الثدي. لم ينمِّ المرضى الذين مرُّوا معي إحساسًا لائقًا بالتجذر، بأن يكون لديهم قاعدة بسبب معاناتهم لافتقاد اتصال بشكل كافٍ ومرْضٍ مع أجساد أمهاتهم. وبدون أدنى شك فهنَّ أنفسُهنَّ لم يُطَوَّرْنَ بشكل كامل كأشخاص موهوبين بقاعدة. فلا تستطيع الأم دون قاعدة راسخة أن تنقل إحساسًا بالأمان، وانتماءً يحتاج الطفل إليه. وإذا تخلِّيْنا عن اعتبار هذه الوقائع كطاقة حيوية، فلن نكون في ظروف لتلافي التأثيرات الفاجعة على الحياة الإنسانية لثقافة مُمَكْنَنَة وتكنولوجية بأعلى درجاتها.

إشارات وتعابير جسمانية

تُسمَّى لغة الجسد بالتواصل اللاشفهي. يوجد في أيامنا هذه استثمار ذو اعتبار في شأن هذه المسألة بعدما تم إدراك الكمية الهائلة من المعلومات المنقولة أو التي يمكن الحصول عليها من خلال التعبير الجسماني. إن نبرة الصوت أو نظرة شخص لديه بشكل عام وَقْع أعظم من العبارات المتفوَّه بها. كان الأطفال حين كنتُ صغيرًا يعتادون غناء اللازمَة "تحطم العصاوات والحجارة ساقيَّ، ولكن الكلمات لا تطالني"، فيوحون بذلك أنهم منيعون أمام الإهانات الشفهية. ولكن لدينا أيضًا القول التالي: "يمكن للنظَرَات أن تقتل". فإذا توجَّهت الأم نحوَ ابنها بنظرة قاتلة، فمن الصعوبة بمكان أن ينسى ابنها هذه النظرة. فالأطفال هم أكثر وعيًا من الراشدين للغة الجسد، فالأطفال بعد أعوام وأعوام من الذهاب إلى المدرسة تعلَّموا أن يمنحوا انتباهَهم للكلمات أكثر وأن يتجاهلوا تعبيرَ الجسد.

كل باحث ذكي، وكَرَّسَ نفسَه لدراسة السلوك الإنساني، يعرف أنه بالإمكان استخدام الكلمات من أجل رواية كذبة. إنه أمر مألوف عدم وجود وسائل للتمييز اعتبارًا من الكلمات نفسها، فيما إذا كانت المعلومة المقدَّمَة هي حقيقية أم زائفة. وهذا يحدث بشكل رئيسي عندما يتناول الأمر تصريحات شخصية. فعلى سبيل المثال، عندما يقول المريض: "أشعر بنفسي جيدًا" أو "حياتي الجنسية ممتازة، ليس ثمة عيبٍ فيها"، فإنه لا يُعرَف من خلال الكلمات المتفوَّه بها فيما إذا كانت هذه التوظيفات حقيقية أم لا. وأكثر من ذلك، فغالبًا ما نقول الأشياء التي نريد الآخرين أن يعتقدوا بها. وفي دورها، لا تستطيع لغة الجسد أن أن تُستخدَم للتضليل إذا ما عَرَفَ المراقِب قراءتها. وإذا أحسَّ المريض فعلاً أنه جيد، فعلى جسمه أن يعكس حالته، وفي حال كهذه يُنتظَر أن يشرق محيَّاه، وأن تكون عيناه مشعَّتين، وأن يُمنحَ صوته رنينًا وحركاته نشاطًا. ففي غياب هذه الإشارات الجسمانية، اترك تصريحاته تذهب كما أتت. فمن الممكن القيام بالنوع نفسه من الاعتبارات بخصوص التعليقات حول الاستجابة الجنسية. عندما يُظهِر جسم الفرد من خلال مستواه من التوتر العضلي الذي يخفي مشاعره – الردفان متوتران، والرقبة منكمشة – فمن المستحيل أن تكون لديه حياة جنسية "رائعة" ذلك أنه عاجز عن السماح لنفسه بالاستسلام لاستثارة جنسية قوية.

الجسد لا يكذب. حتى ولو أن الشخص يسعى لإغفال مشاعره الحقيقية خلف مواقف أو وضعيات مصطنَعَة، فإن جسمه يفضح النفاق وذلك من خلال حالة من التوتر المختلفة. لا أحد يسيطر على جسمه بشكل كامل ولهذا السبب فإن كواشف الكذب فعَّالة جدًا عندما تُستعمَل لتمييز الحقيقة عن الكذب. فعندما تُروَى كذبة يحصل توتر ينعكس في الضغط الدموي، وفي معدل نبضات القلب، وفي القدرة على النقل الكهربي للجلد. وثمة تقنية أخرى أكثر جدارة تتألف من تحليل الصوت نفسه، وذلك لتمييز الزؤان من الحنطة. فإن نبرته ورنينه يعكسان كل المشاعر التي يأويها الشخص في ذاته. ومن المنطقي إذن أنه يمكن استخدامها في جلسات كشف الكذب.

إننا متآلِفون مع استعمال الخط اليدوي لتحديد سمات الشخصية. كما أن هناك بعض الأشخاص الذين يعلنون أنفسهم بكونِهم قادرين على قراءة طبع الآخرين من خلال الطريقة التي يسيرون فيها. فإذا كان كل مظهر من التعبير الجسماني يكشف عنا من نكون، وبالتالي، وبدون أدنى شك، فإن جسمنا ككل يجب أن يكون أيضًا أكثر تكاملاً ووضوحًا.

في الحقيقة كلنا نستجيب لأشخاص آخرين اعتبارًا من تعابيرهم الجسمانية. نقارن الجميع بشكل متواصل وذلك على مستوى أجسامهم، مقيِّمين بسرعة قوتهم أو ضعفهم، وحيويَّتهم أو وَهَنَهم، وعمرهم، وجاذبيتهم الجنسية، إلخ. فبدءًا من التعبير الجسماني نقرر في مرات كثيرة إذا كان بمقدرونا أن نثق بذلك الفرد أم لا، كما ندرك ما هي الحالة الروحية، وما هي مواقفه الأكثر تميُّزًا إزاء الحياة. يتحدث الشبان في أيامنا هذه عن اهتزازات الشخص إن كانت جيدة أو سيئة، وذلك حسب ما يؤثر جَسَدُ هذا الشخص بالمراقِب. وخصوصًا في الطب النفسي، فإن الانطباعات الذاتية المكوَّنَة اعتبارًا من تعابير جَسَدِ المريض هي المعطيات الأكثر بروزًا بالنسبة للعمل، ويكاد يستخدم جميع المعالجين هذه المعلومات بشكل دائم إلا أن هناك بعض الممانعة في أوساط الطب النفسي، ولدى العامَّة بشكل عام، في اعتبار هذه المعلومات على أنها سليمة وموثوقة، وذلك على قدر ما أنها ليست عرضة لاختبار موضوعي مباشَر. أفكِّر بأن المشكلة هي سؤال إضافي، إلى أي مدى يعتقد الشخص بحساسيته وأعضاء حواسه. فالأطفال لكونهم يملكون أسبابًا قليلة لكي يضعوا حواسَهم في موضع شك، فإنهم يثقون أكثر على نحو أعمى في هذا النوع من المعلومة بالمقارنة مع الراشدين. فهي حالة قصة "ثياب جديدة للإمبراطور". ففي أيامنا هذه إزاء الميل الواضح جدًا في التلاعب بفكر وسلوك الأشخاص من خلال العبارات والصور، فهذا النبع المعلوماتي له أهمية أساسية.

عندما أقدم المفاهيم الحيوية الطاقية إلى مهنيين أُواجَه عامَّةً بطلَبَات إحصائية، ومُنْحَنَيَات، ومع وقائع مسلَّمَة. أستطيع تفهُّمُ الرغبة بامتلاك هذا النوع من المعلومات، ولكن ليس علينا أن نَدَعَ كليًا جانبًا بداهات أحاسيسنا لكونها بغير ذي معنى. إننا موهوبون بيولوجيًا بمستقبِلات عن بُعْد – عينان، وأذنان، وأنف – تمكِّننا من تقييم الحالة قبل أن نُقحِمَ أنفسَنا فيها. وإذا لم نثق بحواسنا فسنَمحِق إمكانيتنا على الشعور والاهتداء. عند شعورنا بأشخاص آخرين، فبوسعنا أن نفهم من خلال ما يتكلمون، ما هي حياتهم، ومجاهداتهم، وجهالاتهم. بوسعنا إذَّاك أن نَفهمَهم ككائنات إنسانية، باعتبار هذا هو الشرط الأساسي لكي نكون قادرين على مساعدتِهم.

الشعور بشخص آخر هو سياق عاطفي. والتعاطف هو وظيفة التطابق مع الآخر، وبعبارة أخرى، عندما نطابِق أنفسَنا مع التجربة الجسمانية لشخص، نستطيع الشعورَ بمعناها، وضبطَ دلالاتِها. بوسعِنا الشعور أيضًا كيف نكون الشخصَ الآخرَ نفسَه، على الرغم من عدم التوصل للشعور بما يشعر هذا الشخص نفسه. فمشاعر كل شخص هي خصوصية وذاتية، فهو يشعر بذلك الذي يحدث في داخل جسده، وأنت تشعر بذلك الذي يجري في داخلك. وبالرغم من أن جميع الأجساد الإنسانية متشابهة فيما يتعلَّق بوظائفها الأساسية، فالأجساد تلقى تجاوبًا متبادَلاً عندما تعمل على طول الموجة نفسها. وعندما يحدث هذا، فمشاعر جسم تكون مماثلة الواحدة للأخرى.

وبمصطلحات عملية، فهذا يعني أننا عندما نتخذ الوضعية الجسمانية لشخص ما، يمكن التقاط الدلالة أو الحصول على معانٍ نسبية لذلك التعبير. فلنفترض أنك رأيتَ أحدًا بصدر منتفخ، وكتفين مرتفعتين، وحاجبين مقوَّسين نحو الأعلى، فإنك تعلم أيضًا ما هي دلالَةُ هذه الوضعية. حاول القيام بها، استنشِق الهواء، وارفع كتفيك، وعلِّق حاجبيك. فإذا كنت متصلاً بجسمك، فلسوف تدرك للحال أنك اتخذت تعبيرًا عن الخوف. يمكنك الشعور بالخوف أم لا، فهذا يعني أن الأمر سوف يتعلَّق بما تثيره الوضعية من خوف أو لا، لكن، وبدون أدنى شك، فإنك ستتحقق بالضبط من التعبير. وسوف تفهم بالتالي أنه في عالَم لغة الجسد معنى قول الشخص للآخر "أحسُّ بالخوف".

ولكن، ربما لا يشعر هذا الشخص بالخوف على الرغم من كونه يعبِّر عنه، وفي هذه الحال، فهذا يعني أنه ليس متصلاً مع تعبير جسمه. هذا يحدث بشكل عام، فعندما تُتَّخَذ هذه الوضعية منذ وقت طويل لدرجةٍ تصير فيها جزءًا من البنية الخاصة للكائن الحي. فالكبت المُزمِن أو مستويات التوتُّر المزمِنَة، تخسران حمولتَهما الفعلية أو الطاقية، باعتبارهما مُبْعَدَان عن الوعي. فلا يُدركَان، أو على الأقل أن يتم معايشتهما. تصير هذه الوضعية الجسمانية "طبيعة ثانية" بالنسبة للشخص في تساؤل، لدرجة نقول فيها أن هذه الطبيعة الثانية قد صارَت جزءًا من طبعِه. يمكن الوصول ضمنًا إلى التعرف عليها من خلال وضعيته على الرغم من أن الانطباع البدئي الذي يشير إلى شيء غريب. فالانطباعات الأولى التي تتولَّد لدينا إزاء الأشخاص هي استجابات جسمانية، سوف يتم تجاهلها شيئًا فشيئًا على قدر ما نعطي اهتمامًا أكبر للكلمات والأفعال.

بقدر ما هي الكلمات، كذلك الأفعال خاضعة بشكلٍ كبير للسيطرة الإرادية. ومن الممكن لكليهما أن يُستعمَلا لنقل انطباعات تناقض تعبير الجسد. وهكذا فإن شخصًا ذا تعبير جسماني ينمُّ عن الخوف، يستطيع الكلام والتفاعل مُظهِرًا جسارةً، ويُعَاشُ هذا الموقف الخارجي من خلال الشخص كشيء من التطابق مع الأنا الأكثر قربًا من خوفه نفسه الذي يعبر عنه جسمُه. نصِف الموقف الواعي له كتعويض، أو أنه، جهد للتغلب على خوفه الكامن. عندما يبلغ الشخص أقاصي المخادعَة لكي يُنكِرَ خوفَه الظاهر من خلال جسمه، فسيكون تصرفه متَّسِمًا على نحو مضاد للفوبيا. ولكن لغة الجسد لا تكذب، وتستعمل خطابًا إلى حد يستطيع فيه فقط جسم آخر فهمه.

إن التشديد على التعبير الجسماني لشخص آخر ضروري في البداية فقط لكي تصير دلالته واضحة، ولكن بعدما يصير معناها ثابتًا، تصبح مشتركة مع التعبير في كل مرة يظهر فيها هذا التعبير. وعلى هذا النحو نعرف أن الشفتين الضيقتين والطويلتين تعبِّران عن الاستنكار، وأن العينين المحملقتين تنمَّان عن الخوف. وللإقناع بصحة تفسيراتنا يكفي أن نتخذ هذه التعبيرات. وإنني أطلب الآن من القارئ أن يتخذ الوضعية التالية، متحققًا إذا كان بوسعه مرافقة التفسير الذي أقترحه. قف على قدميك، ادفع ردفيك إلى الأمام مع العضلات مشدودة. يتوجب علينا الشعور بتأثيرين: 1) سيميل النصف العلوي من الجسم للهبوط في منطقة الحجاب الحاجز. 2) إن مستوى توتر المنطقة الحوضية هي من نوع الكبت أو "الاحتباس". فالهبوط هو فقدان القامة الجسمانية، وبالتالي، فقدان التأكيد على الذات. إذا استطعنا تصور كائن إنساني له ذَنَبٌ، فستكون صورة هذا العضو مُدخَلٌ كذيل بين الساقين. إن الكلب الذي يتعرَّض لصفعة قوية على مؤخرته يتخذ الوضعية نفسها. أعتقد بأنه لدينا أسباب إضافية لتفسير هذه الوضعية الجسمانية مثل تلك التي يُشبَع فيها أحدُهم ضربًا، وانهزامًا، وإهانةً.

يُشعَر بالانحباس كاحمرار وتقلُّص في الأقنية الحوضية للمخرج الشرجي والبولي والتناسلي. أظهرَت دراسات نفسانية نمطية كثيرة لفرد كهذا مع ميول مازوخية لانحلال الأنا، ومع إحساسٍ مرافِق بأنه قد أُهينَ وانهزم، وذلك إلى جانب الميل لحبس المشاعر نفسها. تتطرَّق الخطوة التالية إلى العلاقة المتبادَلَة لهذه الكوكبة من السِّمَات النفسية مع وضعية جسمانية محدَّدَة. وهكذا ما أن تستقر علاقة متبادَلَة من هذا النوع، يتم الانتقال للتحقق منها بشكل متكرر، وذلك من خلال ملاحظة المرضى الآخرين، وأخيرًا تصير بنية الطبع متطابِقَة مع الوضعية الجسمانية المحَّدَدة. عندما أرى أحدهم مع ردفين منكمشين إلى الأمام، وعضلات متوترة في هذه المنطقة، أتعرَّف على حضور عنصر مازوخي في شخصيته.

إن قراءة تعبير الجسم بشكل عام عسيرة بسبب حضور ذلك الذي سمَّيْناه بالوضعيات الجسمانية التعويضية. وعلى سبيل المثال، فبعض الأفراد ذات وضعيات تكشف عن ميول مازوخية (أرداف منكمشة)، يتخذون على نحوٍ تعويضي وضعية تحدٍّ في النصف الأعلى من الجسم (ذقن منعكس إلى الأمام، وصدر كمَوْقِد) وذلك في محاولتهم للتغلب على الخضوع المازوخي الذي يكشف عنه النصف الأسفل من الجسم.

وبالطريقة نفسها، فإنه يمكن لعدوانية مبالغٍ فيها أن تجدي للتغطية على خنوع واستسلام مفرطين وكامنين. فالقسوة تخبِّئ الإحساس بالتعرُّض لضرب شديد، بينما انعدام الحس يشير إلى إنكار الإذلال الذي عانى منه الفرد. نتكلم في أحوال كهذه عن سادية مازوخية، ذلك أن السلوك التعويضي يجذب الانتباه بالضبط إلى نقطة الضعف التي يحاول الفرد إخفاءها.

من الضرورة بمكان، لقراءة لغة الجسد أن نكون على اتصال مع جسمنا ذاته، وأن نكون حساسين لتعبيراته. إن معالجي المنهج الحيوي الطاقي أنفسهم يخضعون إلى برنامج تدريب موجَّه لوضعهم في حالة اتصال مع أجسادهم. قليلون هم في ثقافتنا الأشخاص الذين يَخلَوْنَ من التوترات العضلية المسؤولة عن تكوين بنية الاستجابات وعن تحديد الأدوار التي تقوم بها ضمن الحياة. وتعكس هذه المستويات التوترية الصدمات المعاشة أثناء النمو، وكل رفض، وحرمان، وإغواءات، وإلغاءات، وعذابات. يستطيع كل واحد منا أن يمر بهذه الآلام في شدَّات متفاوتة. فعلى سبيل المثال، عندما يكون الرفض هو تجربة مُهَيْمِنَة في حياة طفل، فسيكون ميله هو تنمية مستوى فصامي من التصرف، والذي سيصير بنيويًا في شخصيته بقدر ما هو على المستوى الجسماني فكذلك هو أيضًا على المستوى النفساني. وسيصير هذا المستوى طبيعة ثانية لهذا الطفل الذي ليس لديه الشروط لكي يتم تغييرها إلا إذا تمَّت استعادة طبيعته الأولى. ويصح الأمر نفسه بالنسبة لكل مستويات السلوك الأخرى.

إن تعبير "طبيعة ثانية" يُطبَّق في مرات كثيرة على وصف الوضعيات الجسمانية والنفسانية مع أنها "ليست طبيعية" فهي تصير على نحوٍ ما مرافِقَة للشخص، وهذا الأخير تبدو له طبيعية. يقتضي هذا المصطلح وجود "طبيعة أولى" مجردة من هذه الوضعيات البنيوية. وبوسعنا تحديد هذه الطبقة الأولى سواءً إيجابًا أو سلبًا، وبوسعنا وصفُها على أنها غيابٌ للتوترات العضلية المزمِنَة على المستوى الجسماني، والتي تقيِّد المشاعر والحركات على المستوى النفساني، والتي تتضمَّن محاولات عقلنة كل شيء، بما في ذلك السلبيات، والإسقاطات. ووفقًا لمنظور إيجابي نصرِّح بكون هذه الطبَقَة الأولى طبيعية تحتفظ بالجمال والنعمة التي يتصرف وفقها كل الحيوانات بشكل طبيعي عند مولدها. ولمن المهم أن نعرف التمييز بين مرحلتي الطبيعة الاثنتين لكل واحد منا، لأن الكثيرين يقبلون التوترات والتشوهات الجسمانية على أنها "طبيعية" تاركين الإدراك بأنها عوامل تنتمي إلى الطبيعة الثانية، وهذه العوامل تُعاش فقط على امتداد السنين بقوة العادة. لدي اليقين الأكثر عمقًا بأنه فقط الحياة السوية والثقافة الصحيحة بوسعهما الارتكاز على الطبيعة الإنسانية الأولى.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***

[1] وهو مصطلح درج في الغرب يقولون فيه "بكل البخار" للإشارة إلى قوة البخار، كتعبير عن نشاط هائل، ودَرَجَ هذا التعبير في الغرب مع بداية اختراع القطارات البخارية.

[2] ألكسندر لووِن، الحب وهزة الجماع، (Love and Orgasm, Nova york, Macmillan 1965)

[3] في الأصل by the skin of his teeth.

[4] في الأصل toothsome morsel.

[5] يروي الفيلسوف الروحاني الروسي فلاديمير جيكارنتسيف أنه في إحدى رحلاته مع عائلته للاستجمام على البحر، عندما نهض باكرًا ذات يوم وذهب إلى الشاطئ، لاحظ عائلة جميلة من زوجين جميلين وطفلة رائعة في الخامسة من العمر، حيث كانت الأم وابنتها تبدوان كالملائكة، وتشع منهما السعادة والجاذبية، عند مرورهم مجددًا أمامه، وقع نظره مصادفة على الأثر الذي تركته المرأة على الرمل. فشعر بالذهول، فالرمل يكون متراصًا وكثيفًا بالقرب من الماء، ولكن أثر قدمي المرأة التي كانت تبدو رقيقة وشابة، كان يغوص حتى 1 سم، ومع العلم بأن وزن الفيلسوف فلاديمير يفوق وزنها مرتين، حاول أن يترك الأثر نفسه، ففشل تمامًا، حتى أنه أخذ يقفز ويحاول بكل قوته غرز قدميه في الرمل ولكن آثار قدميه لم تكن تصل ولو حتى 0.5 سم، لا بل حتى أبسط من التي تركتها الطفلة الصغيرة. وهنا يستشهد الفيلسوف بالحكمة الصينية التي تقول: "إن المعجزة لا تكمن في التحليق في السماء أو السير فوق الماء، إنما المعجزة هي في السير فوق الأرض". عن كتاب البنية الثنوية للكون، تأليف: فلاديمير جيكارنتسيف. (م)

عن موقع معابرMaaber