فن الإيماء.. البانتوميم

إبراهيم محمود الصغير

مقدمة:

 يعتبر الإنسان، منذ ظهوره على سطح الأرض، من المخلوقات المقلدة، فهو يقلد كل المخلوقات الأخرى، سواء بالحركة أو بالصوت، بل إنه يقلّد حتى الجمادات في إصدارها الأصوات، كأصوات الشلالات، وأمواج البحر، وحفيف الأشجار، وخرير المياه وغيرها.

يقول الدكتور "تشارلز باربر" في كتابه "قصة اللغة": إن أحد نظريات تكون اللغة تقول: "إن لغة الإيماء سبقت الكلام" (1) يستشهد أصحاب هذه النظرية بأن كثيراً من القبائل البدائية كانت تستخدم لغة الإيماء، ومنها بعض قبائل الهنود الحمر الأوائل، سكان أميركا الشمالية، الذين كانوا يستخدمون لغة الإشارة، ويقومون برقصات ذات حركات معبرة عن الحرب أو الابتهاج بوفرة الصيد أو الاحتفال بالزواج أو المواليد الجديدة وغيرها، وبدوره يقول الدكتور (جون بيرغس ويلسون) في كتابه المعروف (الأدب الإنكليزي): "إن المسرح هو الأكثر قرباً للطبيعة من بقية الفنون لأنه مبني على إحدى الخواص الأكثر أصالة من بقية الخواص وهي خاصية المحاكاة، وأن خاصية المحاكاة هذه، والتي يمكن أن نسميها خاصية التقليد (الإيماء)، تجعل منّا جميعاً ممثلين منذ الطفولة، ومن المعتقد أن المسرحية الأولى لم تكن نصاً مسرحياً، ولكن نشاطاً جاداً يقدم من قبل أناس واعين، يعبرون عن أعلى غرائز الإنسان، وهي الغريزة الدينية" (2).

وما يزال الإنسان، حتى الآن، يستخدم الإيماء أو الحركات الإيمائية، في كل نشاطاته اليومية وبشكل لا إرادي وغير مقصود حيث تقوده الغريزة إلى ذلك فهو يستخدم دائماً حركات يديه وتعبيرات وجهه أثناء الحديث ليزيد من قوة الإقناع لدى السامع وليوحي إليه بصدقه وجديته فيما يقول: بل ويعمد إلى التمثيل زيادة في الإيضاح والإفهام، وقد يبالغ الكثير من الناس بهذه الحركات والتعابير حتى ليظن الناظر إليهم أنهم خرسان ولا يفهمون إلا بلغة الإشارة والحركة، وليس من الغريب أن يعتبر بعض الدارسين أن الشخص الأخرس ما هو إلا ممثل إيمائي، لأنه لا يتعامل إلا بالحركة والإشارة وتعابير الوجه، فما هو فن الإيماء (البانتوميم)، وما هو تعريفه العلمي الصحيح؟

فن الإيماء (البانتوميم)

يعود أصل كلمة "بانتوميم" إلى اللغة اليونانية القديمة، وهي مشتقة من كلمتين (بانتو- panto) وتعني كل شيء، و(ميمومي- mimeomai) وتعني أقلد ومن مجموع هاتين الكلمتين انبثق مصطلح (البانتوميم) أو فن التمثيل الإيمائي، والذي يعني فن التقليد، أو فن المحاكاة لكل ما تحتويه الحياة (3).

وقد أطلق اليونانيون اسم (البانتوميم) على ذلك النوع من العروض الفنية التي تتم عن طريق الأفعال الجسدية والإشارات والإيماءات التي يقوم بها الممثلون ويعبّرون بها عن شخصية الأبطال، مجسّدين بها فكرة المؤلف، وأما اليوم، فما يضيفه المعاصرون هو أنه علينا أن نفهم ذلك الفعل الصامت الذي يتجسد عن طريق الحركات الرشيقة والذي كان أساساً للفن الدرامي (4).

هذا التعريف صحيح ولكنه ليس كاملاً، حيث إن الحركة والإشارة ليس هما الوسيلتين التعبيريتين الأساسيتين في فن (البانتوميم) فقط، فهما تدخلان أيضاً وبشكل متفاوت، في إطار الفنون الأخرى المعروفة كالباليه والدراما.

إن (البانتوميم) قريب جداً من الدراما، بدلائل أخرى، مثل خضوع كل منهما لقوانين فن التمثيل من ناحية منهج بناء الشخصية، والتأثير على مشاعر وعواطف المشاهدين، إلا أن الفارق بينهما هو أن الفعل الدرامي يؤثر على الجمهور بواسطة الكلمة، بينما فن (البانتوميم) هو فن صامت، والصمت أيضاً يدخل ضمن فن الباليه، كما أن الإشارة والحركة هما وسيلتان تعبيريتان أساسيتان في فن الباليه، ولكن الاختلاف بين فن الباليه و(البانتوميم)، هو أن تصميم الرقص لكل عرض من عروض الباليه يدخل في إطار تأليف موسيقي محدد، فالباليه لا يمكن أن يوجد خارج إطار الموسيقا، وبلا حركات انسيابية تنسجم مع الموسيقا، أما فن (البانتوميم) فغالباً ما تغيب الموسيقى عن العرض وإن استخدمت فلها دور مساعد، كما أن لكل من فن (البانتوميم) وفن الباليه خصائصه ولغته وأسلوبه، وكثيراً ما يظهر التباين في أسلوب كل منهما، وعلى الرغم من أن لكل منهما خصائصه، إلا أن كليهما يجسدان الحركة المستمدة من الحياة الواقعية، ففن (البانتوميم) إذاً يدخل ضمن عروض الباليه والعروض الدرامية ويقوم فيها بدور المساعد ففي عروض الباليه يساعد على فهم الموضوع وتطوره، وعلى ربط مشاهد الرقص والتأكيد على القيم الفكرية، أما في العروض الدرامية، حيث تُفهم أحداث الموضوع من خلال الحوار، فإنه يساهم في التعبير عن مشاعر الأبطال وحالاتهم النفسية مجسداً ذلك شخصية في حيّة.

إن هذه المقارنة لا تعني تقسيماً شكلياً لتلك الفنون، بل لتوضيح حدودها، لأنه عندما يدخل فن من الفنون في دائرة فن آخر، فمن الطبيعي أن تتقلص قدرته الإبداعية، وهكذا نرى أن فن (البانتوميم) هو فن قائم بذاته، أما عندما يستخدم في عروض فنية أخرى، فإنه يقوم بدور المساعد (5).

تاريخ فن الإيماء (البانتوميم)

لو ألقينا نظرة على تاريخ هذا الفن لرأينا أنه يعود بجذوره الأولى، من خلال طقوس الرقص والاحتفالات الدينية، إلى الشعوب القديمة في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر واليونان والهند والصين وغيرها، وأن هذه الرقصات والاحتفالات كانت دينية المنشأ في أول أمرها، ثم أصبحت شعبية ومزدهرة لدى عامة الناس، وتلعب دوراً هاماً في حياتهم، وفي المناسبات والاحتفالات الشعبية، حيث أن الرقص فن مفهوم من قبل جميع الأفراد، دون النظر إلى مستواهم الثقافي أو التعليمي أو الانتماء الطبقي.

وتعد رقصات (الساتير) الطقوسية، التي وجدت في بلاد اليونان، البذرة الأولى لفن التمثيل الصامت، لاعتمادها على الحركات والإشارات والتشكيلات التعبيرية، التي عن طريقها تقدم فرائض الطاعة والحب القداسة لتمثال الإله (ديونيسوس) الذي يوضع عادة في مقدمة المسرح من جهة، ولارتداء الراقصين جلود الماعز أو الأقنعة، التي تجعل أنصاف أجسادهم شبيهة بالآلهة من جهة أخرى، ولم يتطور الرقص (الساتيري) تطوراً ملحوظاً وملموساً باتجاه (البانتوميم)، وذلك لارتباط سمعته بالعبيد، ولأن الفلاسفة والشعراء لا يسمحون لأنفسهم بالنزول إلى مستوى أولئك الأرقّاء ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الكتابة عن أي شيء يخص هذه الفئة الاجتماعية المتدنية في الوقت الذي كتبوا فيه عن تطور العروض الساتيرية والمآسي (التراجيديات) على يد عمالقة المسرح اليوناني (ثيسبيس ويوريبيدس وأسخيلوس وسوفوكليس).

لقد كانت العروض الساتيرية تتمثل في عنصرين: الأول الإشارات والحركات، والثاني التأثير والانفعال (6).

ومثل رقصات (الساتير) أيضاً، عرفت حضارات الشرق القديم، كما ذكرنا سابقاً، التمثيل الصامت كما عرفه اليونان، فهو فن عريق عراقة الحضارة الإنسانية رغم ارتباط سمعته بالعبيد والأرقاء، مما حفر بينه وبين الفلاسفة والشعراء حفرة واسعة لم تردم إلا بصورة محدودة ومتأخرة، ومن المؤكد أنه في تلك المراحل المبكرة بالذات كان يطلق اسم (البانتوميم) على المشاهد الراقصة الصامتة، والحركات والأفعال والإشارات والإيماءات التي كانت كلها تجسد الحياة الروحية لتلك الشعوب القديمة، عندما تريد أن تعبر عن سعادتها بعد انتصارها في معركة، أو عودتها من صيد وفير، أو احتفالها بزفاف أو قيامها بطقوس دينية خاصة.

تراجع المسرح بشكل عام، بما فيه التمثيل الصامت بعد ازدهاره في العصر اليوناني وبداية العصر الروماني، وبدأ بشكل تدريجي يهبط في مرحلة انحطاط الإمبراطورية الرومانية إلى أن تلاشى تماماً.
وعلى الرغم من أن غياب الدراما المكتوبة، والمسارح النظامية، في الفترة التي تعرف باسم (العصور المظلمة) يوحي بعالم لا يُعرف فيه فن التمثيل، فإن وجود أشكال مختلفة شبه مسرحية من التسلية الشعبية، يذكرنا بأن دافع التقليد الإيمائي قد حافظ على وجوده بالرغم من إدانة الكنيسة للنشاط المسرحي. وقد كان الإيمائي الجوال بألاعبيه وتهريجاته، هو الذي حفظ تراث التمثيل الحرفي في عصر خلا من المسارح والمسرحيات.

والإيمائيون المتمتعون بأكبر قدر من الشعبية هم فنانو المسرح الروماني الوحيدون، الذين استطاعوا البقاء خلال القسم الأول من المرحلة المسيحية ثم خلال العصور الوسطى.
فبرفقة المشعوذين والبهلوانيين كانوا يرفّهون عن طبقات الشعب كلها، وكان هؤلاء يعتبرون-كما كان أسلافهم الرومانيون- منبوذين وصعاليك وخارج إطار القانون والدين، ولكن شعبيتهم الكبيرة في أزقة القرى، وفي صالونات النبلاء الكبار معاً هي التي حفظت لهم مكانتهم الدائمة في العالم الوسيط (7).
وبدأ فن الإيماء يعود إلى الظهور والتوهج شيئاً فشيئاً، ومن داخل الكنيسة، من خلال مسرحيات الأسرار، إلى فئات الشعب في عصر النهضة مع ازدهار المسرح في أوروبا، وبعد أن عرفوا مسرحيات (الميراكل) المعجزات، ومسارح العربات، والمسرحيات الأخلاقية (المورالز) ومروراً بمسرحيات (الفارس) و(الكوميدي ديلارتي) وغيرها، ووصولاً إلى المسرحيات التراجيدية والكوميدية والكتاب المسرحيين العظام في فرنسا وإنكلترا وإيطاليا، ولم يكن فن الإيماء مستقلاً بذاته، وإنما كان مرافقاً للتراجيديات والكوميديات، وخاصة لدى عباقرة المسرح (شكسبير ومارلو وبن جونسون وموليير وراسين وكورني) وغيرهم كثيرين، كفن قائم بذاته بالإضافة إلى ظهور مسرحيات الأوبرا وغيرها، إلى أن تبلور فن الإيماء في العصر الحديث إلى الشكل المستقل الذي نراه عليه اليوم.

الممثل الإيمائي المبدع والخلاق

عندما تطور العقل البشري والحس الجمالي في وقت متأخر، أخذ فنانو (البانتوميم) يراقبون ويجسدون السلوك المميز لفئات من الناس، من تجار وجنود وفلاحين وطلبة ورهبان.. الخ، عندئذ تجاوز هذا الفن المفهوم البدائي لهذه الكلمة ووصل إلى درجة أرقى، واكتسبت كلمة (البانتوميم) مفهوماً فكرياً جديداً (8)، وقد أدرك فنانو التمثيل الإيمائي بفطرتهم وتجربتهم أن المشاهدة بالعين أكثر يقينية وأوقع تأثيراً وأدق برهاناً على صحة المعتقد، وأن للعين إمكانية على عقلنة الأحداث أكثر بكثير من الأذن التي تنقل الأحداث إليها على شكل أصوات يفسرها الدماغ، محولاً إياها إلى صورة واضحة ودقيقة، خلافاً للعين التي تتحول صورها مباشرة إلى مضامين يقينية، أي أن "الإنسان يعقل بصرياً أكثر مما يعقل سمعياً!" (9) وقد اعتمد فنانو التمثيل الصامت هذه الحقيقة، منذ القديم، واشتغلوا عليها، وأوجدوا لطريقة عملهم منهجاً يلتزمون به في مسيرة عملهم. ويلخص أحد الشعراء القدماء ما يجب أن يكون عليه ممثل الإيماء قائلاً:

يا ولد.. مثل حيوان البحر هذا،

الذي يتغير لون جلده

مع كل صخرة جديدة

هكذا دع عقلك يفتح الآفاق

في كل أرض جديدة

ليشكل نفسه من جديد

تلك نصيحة ضرورية جداً لممثل الإيماء، الذي عليه أن يتماهى مع موضوعه، ويجعل نفسه جزءاً لا يتجزأ من المشهد الذي يؤديه، إن عمله يتطلب منه أن يقدم الشخصية الإنسانية وعواطفها بكل تنوعاتها، عليه أن يصور الحب والغضب وذوبان الهياج والحزن، كل منها حسب الدرجة الملائمة: فن مدهش! (10).

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتوفر في ممثل الإيماء الذاكرة والحساسية والذكاء وسرعة الإدراك واللباقة والحكمة، وأكثر من ذلك يجب أن يكون ناقداً للشعر والغناء، قادراً على تمييز الموسيقا الجيدة ورفض الرديئة، ويجب أن يكون تناسقه الجسدي كاملاً، دون أن يكون طويلاً بشكل غير مقبول أو قصيراً كالأقزام، ولا يكون بديناً أو نحيلاً حتى الهزال. والصفة الأساسية الأخرى لممثل الإيماء، هي سهولة الحركة، إذ يجب أن يكون قوامه لدناً وشديداً في الوقت نفسه، لتلبية المتطلبات المتناقضة لخفة الحركة والثبات (11).

لقد أثار كثير من ممثلي الإيماء إعجاب الجماهير، وعلى الرغم من أنهم يمثلون بصمت ولا يتكلمون أبداً، فقد كانت الجماهير تتابعهم باهتمام، وتفهم كل ما يقومون به من حركات وإشارات وتعابير وأفعال بل وتتفاعل معهم وتتأثر بكل المشاهد التي يؤدونها. يقول أحدهم في ممثل إيمائي:
"على الرغم من أنه أخرس ولا يحسن النطق

إلا أنه مسموع من قبل مشاهده"

كما يقول آخر في ممثل إيمائي، مثل أمامه من دون موسيقا ومن دون استخدام أي أدوات مساعدة أخرى: "ولكنني لا أري لك إلا جسداً واحداً، ولقد فاتني أن لك أرواحاً عديدة" (12).

البانتوميم في العصر الحديث:

إن أهم تطور حدث في المفهوم الفكري لفن (البانتوميم) هو ما جرى في القرن العشرين، حيث توفرت للفنان مواد جديدة جعلته أكثر تفاعلاً وإبداعاً وتحليلاً ودراسة، وبالتالي أغنت تجربته وأثْرت إبداعه في تجسيد الشخصية التي يمثلها.

وقد مر فن (البانتوميم) خلال تطوره التاريخي، كما ذكرنا سابقاً، بثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة التقليد، والمرحلة الثانية هي مرحلة التعميم، والمرحلة الثالثة هي المرحلة المنهجية التي لها مدارسها ومذاهبها، وفي الحقيقة إن هذا التقسيم التاريخي إلى مراحل إنما هو إجراء شرطي لا يمكن أن يحدث خارج إطار القواعد العامة التي يخضع لها كل فن، وسيساعد هذا التقسيم على فهم فن (البانتوميم) ليس كفن جامد (مقولب) وصل إلينا عبر القرون، بل كفن نستطيع أن ندرك حركته الداخلية من خلال تطوره، ومن خلال الإضافات الجديدة التي طرأت على المفاهيم القديمة في الشكل والمضمون (13).

ومنذ أن تأسست أكبر مدارس التمثيل الصامت (البانتوميم)، في بداية القرن العشرين، في بولندا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، استطاع مبدعون كبار مثل (بارو) و(مارسو) أن يطوروا هذا الفن، وأن يضعوا له القواعد والأصول، واستطاع (مارسو) "بحق أن ينزل الكلمة المنطوقة عن عرشها المسرحي ليأخذ الصمت تلك القوة الآسرة مكانها ولتلتحم عناصر الصمت والحركة بخيال المتفرج في دائرة محكمة" لقد ابتعد "مارسو" بالتمثيل الصامت عن التهريج والبهلوانيات والألاعيب المرتجلة، وجعله فناً قائماً بذاته بالرغم من أنه لم يستطع التخلص من استعراض مهارته التقليدية.

لقد ظلت عروض (البانتوميم) منفردة، لوقت طويل، يؤديها ممثل واحد يقوم بكل الاستعراضات الإيمائية بزمن قصير نسبياً، نظراً للجهد الكبير المضني الذي يبذله الممثل، وبعد تطور الفن الصامت فنياً وفكرياً ازداد عدد الممثلين زيادة غير محدودة إلا بمقتضيات العمل المعروض على الخشبة.
إن الفنانين الأوائل الكبار كانوا ينظرون إلى فن التمثيل الصامت على أنه "فعل" قبل كل شيء، فعل يدور في لحظة ما، وهذا الفعل ينبغي على الفنان أن يوضحه بقدرته ومواهبه التمثيلية، وقد أدت هذه النظرة والالتزام بها إلى تأخر الممثلين الرواد عن القيام بتجارب جديدة على صعيد الشكل والمحتوى لتدعيم المعنى أو المعاني التي كانت قيد الاستهلاك، وظل تمثيلهم أسير الخشبة فقط، ولم يُجنّس أدبياً، باستثناء بعض المحاولات المفردة التي قام بها بعض عشاق هذا الفن (14).

وأصبح من خصائص فن (البانتوميم) الشخصية التي تتجسد عن طريق الرمزية الشرطية، فممثلوه يقومون بأدوارهم دون أن ينطقوا بكلمة واحدة، إن لغتهم هي الإشارات والحركات ورشاقة الجسد وليونته. كل شيء على خشبة المسرح شرطي عدا الممثلين الحقيقيين، وعلى الرغم من ذلك فإن المشاهدين ينجذبون لتلك الحركات الصامتة، ويتابعون أفعال الشخصيات باهتمام شديد، ويشعرون بسعادة خاصة، وذلك بفضل الحركات الدقيقة للحياة المتخيلة والتي يحولها المشاهد إلى واقع ملموس بمشاركته وتفاعله مع العرض.. هذا وإن أهمية فن (البانتوميم) تكمن في المواقف التي تتطور في ظروف شرطية، واستخدام وسائل تعبيرية شرطية، وهكذا يستطيع أن يخترق الزمان والمكان بحرية دون حدود، وهذه الخاصة لفن (البانتوميم) إنما تؤكد ثقته الكبرى بالخيال الإبداعي لجمهور المشاهدين وثمة تفاهم مسبق بين خشبة المسرح وحالة المتفرجين حول قوانين وشروط اللعبة في هذا النوع من فن التمثيل الإيمائي فهناك عملية إبداعية مشتركة تتم بين الطرفين، وهذه العملية الإبداعية المشتركة هي أحد الأسباب التي تجعل تأثيره قوياً على الجمهور (15).

السينما الصامتة والإيماء

عندما ظهرت السينما في بداية القرن العشرين كانت صامتة وكان الممثلون يؤدون أدوارهم دون كلام أو موسيقا، تماماً كما يفعل ممثلو الإيماء على خشبة المسرح، حتى اعتبر بعضهم السينما الصامتة التوءم الثاني لفن الإيماء، غير أن ممثلي السينما يتمتعون بحريات أكبر، ويقومون بأفعال لا يستطيع ممثلو الإيماء القيام بها، كالتجول في الأماكن، ودخول الأبنية، وركوب وسائل المواصلات.. الخ، كما أن ممثلي السينما لا يكونون على تماس مباشر مع الجمهور، كما يفعل ممثلو الإيماء على المسرح، والحقيقة أن الجمهور يتفاعل مع ممثلي المسرح أكثر بكثير مما يتفاعل مع ممثلي السينما، لأنهم يمثلون أمامه مباشرة، ومع هذا فقد نجحت السينما الصامتة في جذب شريحة كبيرة من الجماهير إليها، وقدمت إليهم المتعة والتسلية والخبرات الحياتية الجديدة، ومما ساعد على جماهيرية السينما ظهور ممثلين عباقرة اكتسبوا شعبية واسعة، وكان من أبرزهم على الإطلاق (شارلي شابلن) 1889- 1977 الذي كانت له شخصية مميزة وهيئة غريبة (الحذاء الضخم، القبعة، العصا، الشوارب، السترة الضيقة، والبنطال الفضفاض) والذي أصبح لا يعرف بدونها، إذ انطبعت صورته تلك في أذهان الناس في شتى بقاع الأرض، وأصبحت (كراكتراً) عالمياً حتى الآن.

وبلا تردد يمكن القول إن أفضل حركات إيمائية، وأعمق مشاعر، وأغنى روح شاعرية تتواجد في (شارلي شابلن) الممثل والمخرج وكاتب السيناريو والموسيقي والمنتج، وهو بلا مبالغة على رأس قائمة أهم فناني السينما وحتماً من أفضل المؤدين على الشاشة الفضية، وربما يظل إلى الآن العلامة الأبرز في تاريخها.

بالإضافة إلى خبرته الفنية الكبيرة التي اكتسبها منذ أن كان في الخامسة من عمره، وتجوله مع فرقة (الفريد كارنو) في العديد من المدن الإنكليزية لتقديم فن (البانتوميم) والاستعراض، فقد استطاع (شابلن) أن يحقق ذاته الفنية وعبقريته التمثيلية من خلال الإصرار على العمل بطريقة تخالف تماماً تلك النظم والقوالب التي وضعتها الاستديوهات الكبيرة آنذاك، ويمكن الإشارة أيضاً إلى ارتباط (شابلن) بقضايا عصره، وقدرته الدائمة على توجيه النقد لكل ما يستحق النقد (16).

البانتوميم الآسيوي

بما أن المسرح عالمي ومن أقدم الفنون وأعتقها في تاريخ البشرية، فهو ليس كتابة لغوية أو نصية فقط، ولكنه مجموعة لغات وتقنيات بصرية وفضائية وجسدية، وبالتالي وجدت فيه (الإنثروبولوجيا) (17)، متناً مهماً لدراسة خصوصيات الثقافات الإنسانية من خلاله، وقد كان يعتقد أن المسرح الغربي الذي نبع من الحضارة اليونانية هو أصل المسرح في العالم، وبعد ذلك كان من الضروري تحطيم تلك الفكرة التي تعيد إلى الأذهان المركزية الأوروبية، واعتبار أن المسرح الأوروبي شكل من أشكال الفرجة التي تنتجها الثقافات والحضارات المختلفة، وقد قطع (الإنثروبولوجي) شوطاً مهماً في المسرح الآن، حيث يستفاد من تاريخ الثقافات والحضارات في كشف مناطق الجسد المسرحي، وسبر أغوار ذاكرته وطريقة اشتغاله على الخشبة، كما قطع شوطاً مهماً في دراسة الفرجة والأشكال المسرحية عند مختلف الشعوب، والتي لا تتخذ من المسرح الغربي أنموذجاً لها، مثل مسرح النو والكابوكي اليابانيين، والحلقة العربية والسامر والكاتالاكي وغيرها من التعبيرات الفنية المستقلة والتي لا تنبع بالضرورة من الشكل المسرحي الأوروبي (18) وقد ظهر التمثيل الإيمائي، كما قلنا في السابق، في الحضارات القديمة كالصين واليابان والهند وكوريا ومصر وبلاد الرافدين والشام، من خلال الرقصات الدينية أو الاحتفالية والتي ما يزال بعضها متوارثاً حتى الآن، بل وأصبح تقليداً متعارفاً عليه. وقد أقامت هذه الدول- حتى بعض الدول النامية والصغيرة- المسارح الكبيرة، والأوبرات الحديثة، كما أنشأت المدارس والمعاهد والجامعات التي تهتم بكل أشكال المسرح ومنها البالية والبانتوميم والأوبرا.

والشيء الرائع، والذي يدعو إلى الإعجاب والتقدير، أنه يقام في كل عام مهرجان المونو دراما الآسيوية المسرحي (19) بالتبادل مع كوريا والهند وتتم المشاركات تحديداً من قبل فناني الدول الآسيوية في القارة، وعلى رأسها اليابان وكوريا والهند وبمشاركات من ماليزيا وبنغلادش والصين وغيرها من الدول الآسيوية ومقر اللجنة التنظيمية الرئيسية هو في مدينة (سيؤول) عاصمة كوريا الجنوبية، وتقدم في هذا المهرجان عروض الإيماء والعزف المنفرد و(المنودراما) (20).

التمثيل الإيمائي في الوطن العربي

لا يوجد تمثيل إيمائي متخصص ومحترف، بالمعنى المتعارف عليه، عند العرب حتى الآن، وإن وجد فبشكل إفرادي أو بحالات خاصة واستثنائية، وبتجارب متفرقة هنا وهناك، غير أن الإيماء موجود لدى العرب ومتأصل بأشكال عديدة منذ القدم، من خلال الاحتفالات الشعبية كالزواج والختان والموالد، والحج والزار، ومن خلال المناسبات الوطنية والدينية والصوفية وحلقات الذكر، بالإضافة إلى الرقصات (الفولوكلورية) التقليدية كالسماح والاستسقاء والدراويش والمولوية، وكذلك النشاطات المسرحية الشعبية المتوارثة عبر الأجيال كخيال الظل وكراكوز وعيواظ والحكواتي وغيرها.
وعندما عُرف المسرح الحديث، في بداية القرن العشرين، وانتشر بين الناس، وخاصة في سورية ولبنان ومصر، بدأ فن الإيماء يدخل ضمن عروض الدراما، والمسرحيات الاستعراضية، وعروض السيرك وغيرها، وفي النصف الثاني من القرن العشرين أخذ المسرح يتوسع ويزدهر، ومن ضمنها الإيماء، حيث بدا يتوضح أكثر وبشكل حرفي، وخاصة لدى تشكل المسارح الكبيرة ودور الأوبرا والفرق القومية في مصر وسورية والعراق.

كما تشكلت، وبشكل واسع، الفرق المسرحية والراقصة والفولوكلورية والأوكرباتية وغيرها في معظم الدول العربية، وقد ظهرت فرق عديدة محترفة في جميع فنون المسرح كالدراما والرقص والباليه والأوبرا وكذلك الإيماء، الذي ظهرت له بعض التجارب الناجحة في المغرب العربي ومصر وسورية والعراق ولبنان. ولا ننسى بالطبع دور السينما والتلفزيون اللذين كان لهما تأثيراً كبيراً في ترسيخ مفاهيم الفن، ومن ضمنها الإيماء بشكل علمي ومدروس في أذهان الجماهير، من خلال البرامج الخاصة بالفنون ومنها الإيماء، أو نقل الاحتفالات والمهرجانات التي تعرض التمثيل الإيمائي أو تعرّف به.

وفي سورية، على سبيل المثال، كان للفنانين (دريد لحام) و(نهاد قلعي)  تأثير كبير على الجمهور من خلال المسلسلات التلفزيونية، أو الأفلام السينمائية أو العروض المسرحية الهادفة، والتي كانت تحوي قسماً لا بأس به من التمثيل الإيمائي وخاصة   المسرحيات . كان من نتيجة ذلك أن ترسخت الثقافة الفنية في أذهان الناس وأصبحوا يميزون بين كل أشكال الفن ويعرفون الجيد منها والرديء، وأصبح لكل نوع من الفنون جمهوره الخاص.

ولا ننسى أخيراً جهود وزارة الثقافة، من خلال مديرية المسارح والموسيقا ودار الأوبرا والمؤسسة العامة للسينما، والكتب والمجلات الثقافية التي تهتم بالثقافة الفنية الهادفة، وإقامة المهرجانات السينمائية والمسرحية والاهتمام بثقافة الطفل، والمراكز الثقافية المنتشرة في كل أرجاء الدولة وغيرها الكثير ولا ننسى جهودها في ترسيخ مفاهيم الفن الصحيحة والهادفة في أذهان الأفراد من أبناء هذا الشعب العظيم، كما لا ننسى جهود بعض الأفراد والفرق الفنية في تعريف الناس بالباليه والبانتوميم والرقص الفني  الهادف وغيرها من الفنون أمثال لاوند هاجو ومعتز ملاطيه لي وندى الحمصي وفرقة أمية وفرقة إنانا وجلنار- وغيرهم الكثير لا يتسع المجال لذكرهم.

الهوامش:
1-
c.l.barber- the story of language- Lebanon- 1975 p. 31
2-
john burgess Wilson – English literature- London 1970- p.57
3- الحياة المسرحية – العدد (56)- وزارة الثقافة- دمشق 2005- مقال بعنوان: فن التمثيل الإيمائي، فاسيل انجف، ترجمة محمد سعيد جوخدار.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- الحياة المسرحية- العدد (51)- وزارة الثقافة- دمشق 2002- من مقالة بعنوان: المسرحية الصامتة- بقلم صباح الأنباري.
7- الممثلون والتمثيل- توبي كول وهيلين كريش سينوي- ترجمة ممدوح عدوان- وزارة الثقافة- المعهد العالي للفنون المسرحية- دمشق 1997 ص84.
8- الحياة المسرحية- العدد 56.
9- الحياة المسرحية - العدد 51.
10- الممثلون والتمثيل- ص79.
11- الممثلون والتمثيل- ص80.
12- الممثلون والتمثيل- ص 77- 78.
13- الحياة المسرحية- العدد 56.
14- الحياة المسرحية- العدد 51.
15- الحياة المسرحية- العدد 56.
16- المجلة العربية- العدد 327- الرياض- السعودية- 2011- من مقالة بعنوان (الصعلوك- شارلو) بقلم عماد النويري.
17- الأنثروبولوجيا (
anthropology) علم دراسة الإنسان وما يتعلق به.
18- مجلة المعرفة السورية- العدد 568- وزارة الثقافة- دمشق – 2011- من مقال بعنوان (الخلفية الفكرية للنهضة في المسرح العربي) بقلم عبد الناصر حسو.
19- مونودراما: (
monodrama) مسرحية يقوم بتمثيلها ممثل واحد.
20- الحياة المسرحية – العدد (45)- من مقالة بعنوان (مهرجان المونودراما في اليابان) بقلم ندى الحمصي- وزارة الثقافة- دمشق- 1998.


المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011