الخميس, 18 أبريل 2013

فلسفة الجسد

Description: فلسفة الجسد

يثار اليوم نقاش قديم جديد حول تعبيرات الجسد وأهميته في المجال الإبداعي، وما صاحبها في السنوات الأخيرة مما سمي بالجرأة وحرية كشف الجسد سواء على خشبة المسرح أو السينما أو في الأماكن العمومية ، وتطور الأمر ليصبح كشف الجسد العاري تعبيرا وسلوكا احتجاجيا. مما يطرح تساؤلات عن فلسفة التعامل مع الجسد في ثقافة الشعوب، ويعيد السؤال عن وظيفة الفن، ومقولة الفن من أجل الفن، وسؤال علاقة الفن بالقيم والأخلاق ، وسر الموجة الحالية .

فلسفة الجسد :

شكل الجسد في مختلف الثقافات تمثلات أنتروبولوجية وإثنية وروحانية تتحكم فيها ثقافات الشعوب سواء المتقدمة أو التي في طور النمو. وقد سعى الباحثون إلى فهم الإنسان وكينونته من خلال التركيز على مفهوم الذات ، والوقوف على المؤثرات في شخصيته سواء منها البيئية أو الاجتماعية . وقد  اتفقت اغلب التحليلات على أن كل ثقافة تؤسس لمفهوم ديني عن الجسد، كما أن كل ثقافة تختزن مفاهيم و تصورات فلسفية عن موضوعة الجسد.

 

إن أول توصيف للجسد يبدأ من قصة آدم وحواء عليهما السلام واكتشاف الجسد العاري " فبدت لهما سوءاتهما" ” فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكم الشجرة و أقل لكما إن الشيطان عدو مبين" إنه بمجرد المخالفة يكتشف الإنسان عمق الخطأ والجزاء ، تكشفت عورتا آدم وحواء وبفطرة سليمة طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، هذه الحالة اغريزية التي جبل عليها الإنسان تمنع من كشف سوءته للآخر .

ولقد أجمعت الديانات والكتب المقدسة ، والفلسفات الجمالية ، بأن الإنسان خُلق على أجمل صورة وأحسن تقويم . فجسد الإنسان الحي جسدٌ ناطقٌ وفاعلٌ وجميلٌ بالقياس إلى المخلوقات الحيّة على مختلف أنواعها ، جسدٌ يؤثّر في العالم ، ويتأثّر به ، بفعل الأعضاء والحواس والقدرات العقليّة والنّفسيّة والمواهب الطّبيعيّة الموجودة فيه . من هنا اعتبر الإنسان رأس المخلوقات وسيّدها جميعاً ، بوصفه ذا قدرةٍ وسلطةٍ فاعلةٍ على نفسه وعلى الأشياء من حوله .

وعمل الإنسان البدائي التعبير بلغة الإيماء والإشارة والحركة  للتعبير عن رغباته وحاجياته، عن فرحه وحزنه ، استخدم الرقص والإشارة ، لأنه لم يكن يمتلك لغة للتخاطب ، وكانت لغته التواصلية الوحيدة ، وهي إحساس حركي شعوري نابع من النفس. فحركة الجسد هي ما تعكسه النفس فطريا.

على أنَّ خلقة الجسد ليست واحدةً لدى جميع أفراد النّوع الإنساني ، إذ تنطوي على ضروبٍ من الاختلاف والتّنوّع والتّباين ، ما يجعل من اختلافها وتنوّعها سمةً مميّزةً لها . من هنا لا وجود للخلقة الكاملة الخالصة ، المنزّهة عن النّقص وضروب الفساد في الحياة الدّنيويّة ، لعلّة انطوائِها على مزيجٍ متناقض من عناصر الجمال والقبح والنّقاء والفساد .
الجسد العاري والمستور:
عد الجسد العاري عيبا وعورة في الكثير من الديانات، ونظر إلى العورة على أنها نقص، وإشارة إلى عدم الكمال، وهناك من يرى أنه الجسد العاري عيوبه أكثر من عيوب الجسد المستتر، فكلّما كان اللّباس خافياً أعضاء الجسد عن حاسّة العين قلّت عيوبه ، ناهيك عن أنَّ عُريّ الجسد يكشف مواطن القبح فيه ، على اعتبار أن الجسد الكامل جماليّاً غير موجود .
من هنا ستر الجسد سترٌ لقبحه بمعنى ما من المعاني ، حتّى أنَّ الوجه غير الجميل ، يمكن إخفاء عيوبه ، بالاستعانة بالمساحيق التّجميلية ، أو بمنديلٍ جميل من قماش . 
من ناحيةٍ أخرى يميل الإنسان بفطرته إلى اكتشاف الجسد المستور ، فيُفتتن به لدى انكشافه عليه ، ويتعلّق به عاطفيّاً ، في حين لا يبعثُ الجسدُ السّافر قدراً مساوياً لهذهِ الفتنة والإثارة ، ليس هذا فحسب بل يبعثُ الجسدُ العاري على التّنافر والتّباغض ، في حين يبعثُ الجسدُ المستور على التّجاذب والمودة والتّراحم . 
لذا ستر الجسد ضرورةٌ جماليّة وأخلاقيّةٌ للجسد ، ضرورة القشرة للثّمرة ، فالقشرة غطاء الثّمرة تحفظها من التّلف والفساد ، مدّة أطول من المدّة الّتي تكون الثّمرةُ فيها بدون قشرة ، القشرةُ غطاء الثّمرة وسِترُها وعفّتها ، تطيل في عمرها وتقيها ممّا يُفسدها ، فتحفظُ نضارتها ، وتجعلها صالحةً للتّناول في أوقاتٍ مختلفة ، كذلك الحال بالنّسبة لغطاء الجسد ، فيه وقايةٌ للجسد من العوامل الجويّة كالبرودة والسّخونة ، به يبقى الجسدُ نظيفاً بمنأىً عن التّلوّث الّذي تُحدثهُ الغبارُ والأتربةُ والأشعّةُ ، وكثيرٌ من الأوبئة المبثوثة في الهواء ، وبهِ يتحقّقُ سترُ عيوب الجسدِ ومفاتنه ، إنَّهُ غطاءٌ لعفّة الإنسان ، على ألاّ يُفهَم من ذلك أنَّ غطاء الجسد وزينتهُ الظاهريّة أمارةٌ على عفّة الإنسان ، فرغم أنّهُ شرطٌ ضروريٌّ لازمٌ للعفّة ، إلاَّ أنّهُ غير كافٍ لتحقّقها ، فكم من الأجساد الكسوّة بثياب العفّة تسكنها رذائلُ جامحة . 

لكن في الثقافة الغربية كان لتعرية الجسد منظومة فكرية تؤطره بين المقدس والمدنس ، جعلت الغرب ييرجع إلى أصول قديمة للبحث فحفر في ذاكرة الكوميديا انطلاقا من تجلياتها الأولى في المسرح اليوناني التي انحدرت من الأناشيد الإحليلية وبلغت نضجها مع ارسطوفان، وصولا إلأى آخرتالأعمال المندرجة ضمن ما يسمى بكوميديا البولفار يكشف أن الاستراتيجية الثقافية لهذا النوع الضاحك قامت على اساس إجراءين اساسين هما : تشذير FRAGMATION  الجسد أو تفكيكه DECOMPOSITION وتحطيم المقدس DESACRALISATION :

لقد اعتبر المسرح فن جسدي، لاسيما وأنه ينهض على دعامة أساسية هي الممثل وعلى إجراء ملموس هو التجسيد ، وعد المقدس ذا ابعاد دينية وسياسية، فكل ما تحميه  الممنوعات سياسيا ودينيا، وتقوم بعزله يندرج في إطار المقدس . وتحدث بيكيت عن الجسد المخفي.

الجسد الراقص والمقدس في المسرح

عندما يرقص الانسان يستعمل جسده لتنظيم الفضاء واعطاء ايقاع للزمان يرى العالم ( الكسندر لوود ) في كتابه ( اللذة ) ان المجتمع الذي نتجلى حضوره الفعلي في العائلة ، والذي يسميه حضارة بالمعنى الواقع بتوجيه الى السلطة لا الى اللذة مما يجعله يقلب نظام القيم الطبيعية . ومن ثم فان السلطة توازي الانا عند (فروي) بينما تقف اللذة في موازاة الجسد وبما ان ان الحضارة تركز على الانا فانها حضارة شيطانية تعارض الطبيعة الانسانية لانها تحقق انقساماً بين الجسد (اللذة = الخير) والانا (السلطة = الشر) بعبارة اخرى اننا نشبه الدكتور (فاوست) لاننا على استعداد لاستقبال نموذجات الشيطان الذي يعيش في كيان كل منا على شكل (انا) يعمدنا بتحقيق اللذة على شرط ان تكون في خدمته . وهذا يعني ان هيمنة الانا على الفرد هو اغراء شيطاني للطعية الانسانية . لذلك ان الانا لم يوجد خطاً ليكون سيد الجسد ، ولكن ليكون خادمة المطيع والمخلص . وعلى عكس الانا فان الجسد يتوق للذة لا الى السلطة اي ان الذة الجسد هي اصل كل سعادة وكل تفكير . اذن ان الجسد عنصر مادي قابل للهلاك وعلى عكس الفكر ونتاجه الذي يظل قائماً . وفي نظر (فرويد) الجسد يوازي (اللاوعي) على اعتبار ان التقابل بين السلطة واللذة يقودنا الى التناقض القائم بين الانا والجسد ، حيث يتجلى الاول كممثل للذات الواعية ، بينما يقف الجسد ممثلاً للذات اللاواعية ، الشيء الذي وضع المجتمعات الغربية الاهتمام بالجسد في المسرح اهتماماً كبيراً في جميع حالاته وكما اهتم المسرح الاسيوي باحساسات الجسد والعواطف وبروح الجسد وتأدية الطقوس كممارسات جماعية وكما استخدم الرقص كعلاج لبعض الحالات المرضية لذلك فان اولوية التعبير الجسدي موجودة وحاضرة في حياتنا وسلوكنا اليومي ، حيث ان المسرح والسينما والتلفزيون والاعلانات والصور والمجلات لغرض الجسد الموضوع هو الذي كان ولم يزل حاضراً في فضاء الحضارات الانسانية منذ القدم، عيد الشعائر والطقوس الوثنية او المقدسة التي مارستها كل الحضارات من خلال (الاحتفال) الذي شكل العامل الاول للنشوة والاشراق والصراع والجاذبية عبر الرقص لانه يرتبط بالشعائر القديمة ، حيث هي الاصل في المسرح وبما ان الانسان عندما يرقص يستعمل جسده الراقص الخاص لتنظيم الفضاء واعطاء ايقاع للزمن اي انه يعطي صوتاً داخلياً يقول له قف وارقص الى ان تنبعث قوة سحرية تنبثق فيها الحياة والعاطفة والعافية كما تذوب وحدة الانا (الذات) وتسود وحدة المجموعة وهكذا فأن الرقص يعد منذ القدم كظاهرة مقدسة وسرية ، وانه قد أخذ ابعاداً خاصة حسب الحضارات التي ينتمي اليها ، الا ان غايته الاساسية هي البحث عن المقدس والسير نحو الافق الذي تلتقي فيه السماء بالارض من خلال جسد ذلك الممثل لهذا عندما حاول المسرح الحديث توسيع افق ممارسته لجأ الى استخدام واسع الى الجسد والتركيز على قيمة الصورة والاحساس والتوتر الدرامي للانتاج الفكري ، وهذا ما جعل مثلاً المسرح الحديث (مسرع صدمة) يعتبر فعلاً التمرد ، ويعارض التحرير القائم على الحلم بالتكيف الذي يفرضه الواقع لذلك دعا (آرشو) الى ضرورة تجاوز المألوف وتمرير الجسد عبر الصدمة البدائية ، الشيء الذي ادى بالدراما الحديثة الى العودة للاشكال البدائية المقدسة في المسرح اذ يلتقي فيها الارتجال باللامنطق ، كما يلتقي الزائف ما بالاصل وهذا اللقاء لا يتم إلا عبر جسد الممثل ، والذي قال عنه (رولان بارت) (ان جسد الممثل هو حجر المحك وحجر عثر وعن طريقه ؟؟ يحدث شيء في الفضاء المفتوح للمسرح) وهذا الجسد يستطيع ان يعتم هذا الفضاء المسرحي او يضيئه ، لكن لا يستطيع فعل ذلك الا عبر دلالات وشفرات ورسائل تصدر من قبل الممثل ، اذن ان المسرح هو مكان التقمص اللامنتهي يكون فيه الجسد مضاعفاً اي في الوقت نفسه جسد حي منبثق من طبيعة مقدسة ، ذات بلاغة دلالية في الفضاء المسرحي حين يدرك المثل اجزاء جسده بها لانه كنية كبيره للعلامات، وهذا ما جعل من جسد الممثل الغربي جسداً (فيزيولوجياً) لاجسداً تشكيلياً مما ادى به الى ممارسة مميزة داخل فضاء المسرحي لان المسرح فن يهيب الجسد وينزعه في الوقت ذاته. لذلك يعتبر الجسد في المسرح اساساً ومحتملاً ، اساسياً ؟؟لا نستطيع امتلاكه ومحتملاًً بمعنى انت لا تستطيع امتلاكه . حتى ان تعامل مع الجسد عبارة عن نتاج ذات دلالات مقدسة دوماً من اجل خلق جماليات العرض المسرحي ، بحيث يصبح جسد الممثل جسداً ناقلاً الى العلامات يتوق اليه المتفرج ويرغب فيه ، وكذلك يندمج فيه في هذا الصدد تعمل التراجيديا على القاء حركة الرأس اما الدراما السايكلوجية فأنها لا تعتمد سوى اليدين والوجه، في حين تعطي الاشكال الحديثة في المسرح اهمية كبرى لحركية الجسد في شموليته المقدمة من خلال انتاج المعاني لانه عبارة عن ترسانة كبيرة من الايماءات والحركات الرمزية، وان لديه لغات متعددة ينبغي على المتلقي ان يفكك رموزها. وهكذا ينتقل من جسد ليتحدد بدقة عبر الجلد والاعضاء الى جسد غير متفرد تتحول كلياً حدوده ووظائفه بحيث تنمحي فيه التضاريس الاجتماعية والذهنية لتبرز الحدود الجديدة لما يسميه (ياختين) بالجسد المشفر.

اعتبر الجسد في الفكر المعاصر أحد الوسائل الأساسية لتعبير الذات عن تخارجها إذ أنه عن طريق جسدي أفهم الغير ، مثلما عن طريق جسدي أيضا أدرك الأشياء.

فالجسد هو ما يجعل الذات ذاتا وموضوعا في الوقت نفسه ، كما أنه سيعير اداة الأنا في فرض أناها وتصوراتها في الخارج، بل وتغير شروط واقعها وأنساقه المختلفة لتستطيع مواجهة إشكالياتها المختلفة، من هنا ترتبط تعبيرية الجسد البشري بسلوك هذا الجسد نفسه وحركاته ، ووظائفه، وبينهما وبين الجنسية واللغة فهو إذن موطن المعني ومكان ولادته ، كما أنه أداة الدلالة التي تخرج الذات من ذاتها ،

وتضعها في عالم بين ذاتي تصبح فبه علاقة ورمزا ( لغويا، فنيا…… الخ ) لوجودهما الخاص. ، لهذا ظل الجسد يشكل عنصرا أساسيا في الفلسفة الفنومنولوحية، فنري موريس ميرلوبونتي (1908_ 1961 م ) يتجاوز الكوجيتو الديكارتي الذي حصر الوجود الذاتي في الفكر إلي كوجيتو وجودي يقدم لنا من قبل دافع وجودنا الفعلي في العالم بين الأشياء والآخرين كعالم نحياه ونعيشه، ويعتبر  "ميرلوبونتي " أن أجسادنا ليست مستقلة عنا، بل هي وسائلنا التي نعبر بها عن أنفسنا بشكل طبيعي، ويستعير عبارة " مارسيل" الشهيرة: " أنا جسدي ، وبما أن أجسادنا تحيلنا بشكل دائم إلي العالم والآخرين، فإن خبرة أجسادنا وخبرة جسد الآخر هي ذاتها جوانب لوجود واحد، فمن هنا حيث نقول أننا نري الآخر، في الحقيقة يحدث غالبا أننا نجعل أجسادنا موضوعا والآخر هو الأفق أو الجانب الآخر لتلك الخبرة، وهكذا نتكلم مع الآخر رغم أننا لا نتعامل إلا مع أنفسنا، ويفرق " ميرلوبونتي " بين الأجسام الطبيعية وجسم الإنسان، هذا الجسد الذاتي الذي يطلق عليه الفنومنولوجي، ومن أجل فهم هذه الخبرة الفنومنولوجية كما حددهما فيلسوفنا، والتي تعني لديه " بداية الجوهر " 
وتعود كل المشاكل حسبما تري الفنومنولوجيا إلي تعريف الجوهر: مثل جوهر الإدراك الحسي، وجوهر الوعي…. الخ إلا أن في الوجود " ولا تعتقد أننا نستطيع فهم الإنسان والعالم بطريقة أخري لا تبدأ من حقيقتها، وهي أيضا فلسفة متعالية تعلق الحكم علي تأكيدات الموقف الطبيعي من أجل أن تفهمهما، كما أنها أيضا فلسفة يظل العالم بالنسبة لهما موجودا من قبل دائما، قبل التأمل كحضور غير قابل للتحويل، حيث يكرس كل جهد لإعادة إيجاد هذا الاتصال الساذج مع العالم لإعطائه أخيرا وضعا فلسفيا، إنه طموح فلسفة تود أن تصير من " العلوم الدقيقة "، إنهما أيضا نتيجة للمكان والزمان… والعالم المعاش، إنها محاولة لوصف مباشر لخبراتنا كما هي دون أي اعتبار لنشأتها السيكولوجية، والتفسيرات العلية التي يمكن أن يمدنا بها العالم والمؤرخ وعالم الاجتماع، من هنا كان الاهتمام الشديد بالجسد الإنساني كتعبير عن اهتمام الفنومنولوجيا بتلك الحياة الواقعية التي نحياها في العالم من خلال أجسادنا، ومن خلال تلك العلاقة بين خبرات أجسادنا وخبرات الأجساد الأخرى.
فحين يفاجيء الجسد ذاته من الخارج في أثناء ممارسته لوظيفة المعرفة، هو بذلك يحاول أن يلمس نفسه لمسا، لأنه يرسم " نوعا من التأمل " وسيكون هذا كافيا للتمييز بين الأشياء التي نستطيع القول أنها " تلمس  أجسادنا عندما تكون عديمة الحركة، ولايفاجيء الجسد ذاته في وظيفته الإكتشافية، ومع هذا فالجسد موضوع عاطفي، بينما الأشياء الخارجية هي ما يتمثل لنا فقط.
ويري " ميرلوبونتي " أنه اذا كان علم النفس الكلاسيكي قد قام بتحليل دوام الجسد الشخصي لاستطاع هذا أن يقوده إلي الجسد، ليس باعتباره موضوعا للعالم، ولكن وسيلة للاتصال به، بعالم ليس محصلة لموضوعات محددة ولكن كأفق لخبراتنا دون توقف أمام فكرة قاطعة، ويستعين "ميرلوبونتي " بجدل السيد والعبد عند "هيجل " ليوضح علاقة الجانب الجنسي كأحد أعراض الجانب الوجودي دون أن يهمل الجانب الميتافيزيقي _ القول: " لدي جسدا هو إذن طريقة للقول بأنه يمكنني أن أكون مرئيا كذات وأن الآخر يمكنه أن يكون سيدي أوعبدي، بشكل يجعل الحياء وعدم الحياء يعبران عن جدلية تعدد الوعي وأن لديهما معني ميتافيزيقيا ".

الجسد المشرح:

لعل القرن الحادي والعشرين هو القرن الذي سيحتل فيه الجسد في الدراسات الإنسانية اهتماما كبيرا، وذلك بعد إدراك المدارس الفكرية المختلفة لمدي تغييبه في العصور الماضية، ولعل ظهور جمعيات حقوق الإنسان، واهتمام المنظمات الدولية بأمره، يبرهن علي مدي ما حظي به الجسد الإنساني من رد الاعتبار خاصة في ظل ممارسات الحداثة الغربية أخيرا، والتي أحالته إلي كم مهمل في إطار فوضي الكونية والأداتية.
من هنا أصبح الاعتماد علي الجسد هو عبارة عن إعادة الحلقة المفقودة بين الذات والفرد الفاعل، بينما تشكل الفرقة بينهما لب الأزمة، ومرض الحضارة الحديثة.
فمع تقدم علم التشريح خاصة علي يد الطبيب البلجيكي  فيسال  (1514/1564 ) انزاحت القداسة عن الجسد وأصبحت عمليات تشريحه تتم علي الملأ في الساحات أمام جماهير غفيرة من البشر، ومع تقدم فنون الرسم والتصوير تقدمت علوم الطب، كان كلاهما يستكشف الجسد النساني بطريقته الخاصة، وكانت دراسة علم التشريح وكذلك كل لوحة جديدة بمثابة الحل الخاص لتعطش المشرحين والفنانين للوعي، والمعرفة والفهم واليقين، واستمر هذا التعطش منذ ذلك التاريخ حتى الآن، استمر عبر تاريخ العلم كافة، وعبر تاريخ الفنون كافة

إبداع الجسد:

وقد ظهر الجسد العاري في الفن في المائة عام الأولي من عصر النهضة الكلاسيكي، عندما تداخلت الشهية الجديدة للتحليل القديم مع عادات العصور الوسطي في الترميز والتشخيص ، وقد بدا وقتها أنه لا يوجد مفهوم مهما كانت عظمته لا يمكن التعبير عنه بالجسد العاري ، وليس هناك شيء مهما كانت تفاهته لا يمكن تحسينه عند إعطائه شكلا بشريا ، ففي طرف نجد  الحساب الأخير " لمايكل أنجلو"، وفي الطرف الآخر نجد مقابض الأبواب والشمعدانات ، حتى مقابض الشوك والسكاكين ، فبالنسبة للأول ربما يكون الاعتراض كما هو الحال في معظم الحالات أن العري ليس مناسبا لتقديم المسيح وقديسيه ، أما الاعتراض الذي يثيره الاستخدام الثاني وهو ما يحدث في أغلب الحالات فهو أن شكل فينوس العاري ليس هو ما نحتاجه في أيدينا عندما نقطع طعامنا أو ندق علي باب ، وهو ما أجاب عليه أحد الفنانين بقوله : إن الجسد البشري هو أكثر الأشكال جمالا وكمالا ولهذا فلا يمكن أن نمل من رؤيته  ، وبين هذا وذاك توجد غابة من الأجساد العارية المرسومة أو المحفورة بالجص أو البرونز أو الحجر مما ملأ كل مكان خال في عمارة القرن السادس عشر .
وليس من المحتمل أن يعود هذا النهم للجسد العاري، فقد نبع من امتزاج مجموعة من المعتقدات والتقاليد والأحاسيس البعيدة جدا عن عصرنا، عصر الجوهر والتخصص، ومع ذلك فانه حتى في المملكة الجديدة التي للإحساس الجمالي يتوج الجسد العاري، فقد جعله الاستخدام المكثف له من قبل الفانين العظماء نموذجا لكل الأبنية الشكلية، وهو لا يزال وسيلة لتأكيد الإيمان بوجود الكمال المطلق. فيكتب "سبنسر " في ( نشيد علي شرف الجمال ): " لأن الروح هي الشكل وهي ما يقدمه الجسد " وهو بهذا يردد كلمات الإفلاطونيين الجدد، ومع ذلك لا يوجد دليل في الحياة يؤكد هذا القانون إلا أنه ينطبق بشدة علي الفن، فالجسد العاري يظل أعظم مثال علي تحويل المادة إلي شكل، وليس من المحتمل أيضا أن نرفض الجسد مرة أخري كما حدث في تجربة الزهد والتقشف في مسيحية العصور الوسطي، فلم يعد يمكننا أن نقدسه ولكننا تصالحنا معه وتقبلنا حقيقة أنه يصاحبنا طوال حياتنا. 
وبما أن الفن يهتم بالصور الحسية، لا يمكننا بسهولة أن نتجاهل توازن الجسد وإيقاعه، فمجهودنا المستمر ضد اتجاه الجاذبية الأرضية من أجل الحفاظ علي توازننا في وضع قائم علي الساقين يؤثر في كل حكم علي التصميم بما فيه مفهومنا عن الزاوية التي نسميها بالزاوية الصحيحة، كما أن إيقاع تنفسنا ودقات قلوبنا جزء من الخبرات التي نقيس بها العمل الفني، والعلاقة بين الرأس والجزع تحدد المقياس الذي نقيم به النسب الأخرى في الطبيعة، كما ترتبط مواقع الأماكن في الجزع بأكثر خبراتنا وضوحا، وهكذا تبدو الأشكال المجردة مثل المربع والدائرة ذكرية وأنثوية، والمحاولة القديمة التي قامت بها الرياضة السحرية بتحويل المربع إلي دائرة هي مثل رمز للاتحاد الفيزيقي، وقد تبدو الأشكال البيانية بتخطيط نجمة البحر التي رسمها منظرو عصر النهضة سخيفة ومثيرة للسخرية، لكن المبدأ الحسي يحكم أرواحنا، وليس من قبيل المصادفة أن الجسد ذا الشكل المتعارف عليه بأنهالإنسان الكامل ¢ قد أصبح الرمز الأعلى للإيمان الأوربي، فيجب أن نتذكر أنه قبل  صلب المسيح  لمايكل أنجلو، كان الجسد العاري أكثر موضوعات الفن جدية، حتى أن أحد دعاة الوثنية قد كتب: " أصبح الإنجيل لحما ودما، وعاش بيننا مليئا بالجمال والحق.

ميشيل فوكو والجسد:

بعد تأكيده على الترابط العضوي والعليّ بين الجسد والعقل، يضع «فوكو» الجسد في قلب الاهتمام، ويجعل من العقل مجرد وظيفة، فالجسد هو ما يستحق الاهتمام والرصد، حيث يجب أن يعبر بكل حرية وبكل تلقائية ومن دون موانع أو قيود؛ لكي يتجلى المكبوت وتظهر الحقائق دون زيف، لذلك كله لا يرى «فوكو» فائدة ترجى من تغييبه، بل يجب أن يصبح الجسد حاضراً في اليقظة والمنام، وجذوة مستقرة في الوعي واللاوعي، كي لا يغيب التفكير في المكبوت والمحرم والمقموع، فالانحراف والجريمة والجشع عنوان عريض لتلك الأعراض المرضية، وهي خير من يكشف قيم ثقافية زائفة اضطهدت الجسد وكبلته وعطلت طاقته ومارست عليه الحجر؛ لذلك يرى أنه من اللازم إعادة الاعتبار للجسد عبر الكشف عن المسكوت عنه، فالجسد له فكره، والفكر له جسده، ومن لا جسد له، لا فكر له، لأن الجسد حضور ووعي بالكينونة، لأنه والروح صنوان لا ينفصمان، إذ لا توجد ذات متعالية فوق الجسد، فهو المأوى والمثوى. ليس هذا فقط، بل إن «فوكو» يؤكد أن تحقير الجسد، وإنكاره وتغييبه بمثابة حرب مدمرة للروح أيضاً، لذلك فإن حق الجسد في الوجود علامة أولى لوجود الروح وسعادتها أيضاً، ومن ثم أصبح الجسد والاحتفاء به عند «فوكو» كناية عن الوجود، وبالتالي فالاحتفاء بالجسد مجرد حق ثم إرجاعه لنصابه بعد أن تم تغييبه طويلاً. (حسن المصدق 2007)
وقد عمل «فوكو» على تقديم تحليل علمي للجسد وفق منهجيات جديدة حيث فكك الآليات والنظم المتعددة التي ساهمت في إخضاع الجسد، إذ أن «فوكو» ينطلق من قضية أساسية، وهي أن الجسد كان عرضة لقوى متعددة ساهمت في إخضاعه وترويضه،

لقد كان «فوكو» منشغلاً على مدار تحليلاته بالكشف عما يكبل الجسد، ويقيده، لأن ذلك في رأيه تكبيل للعقل، ففك أغلال الجسد من آليات التوجيه والنفي والترويض هو إطلاق سراح العقول من سراديب الحجر والزيف والإثارة والحاجيات المزيفة. (حسن المصدق 2007)
ففي أعماله المبكرة، كان «فوكو» يدرس كيف يمكن للجسد أن يظهر في ممارسات مختلفة تساهم في ضبطه وإدارته، ففي ولادة العيادة كان مشغولاً بفهم كيف تنتج المعرفة والممارسة الطبيعة الجسد، وكيف تطوعه داخل شبكة المؤسسات المستقرة للسلطة الطبية، وفي دراسته عن مولد السجن حلل نمو الجسد المنضبط والوديع كنتيجة للممارسات العقابية التي اقترنت بالنظرية النفعية للألم، وفي دراسته عن تاريخ الجنس كشف عن أن بروز خطاب الجنس في القرن التاسع عشر اظهر الجنس كموضوع أو قضية مهمة، وكشف عن أن الجنس قد أضحى مادة للصراع السياسي تمارس من خلال معرفة طبية محددة. (Turner 1992: 53)
فالجنس كمظهر من مظاهر أنشطة الجسد يشكل رهاناً سياسياً، فهو من جهة يرتبط بأشكال ضبط الجسد: ترويض، تقوية، توزيع القوى، تدبير الطاقة، ومن جهة أخرى يرتبط بتنظيم السكان مع كل ما يثيره هذا التنظيم من قضايا. (زينب المعادي 2004: 26)
إن الجسد في فكر «فوكو» إذاً واقع تحت تأثيرات قوى متعددة ومتنامية تعمل على تطويعه، وقد كشف «فوكو» باقتدار عن هذه التأثيرات من خلال ما أبدعه من أدوات منهجية؛ شكلت في ذاتها نقلة نوعية في منهجيات العلوم الإنسانية.

علاقة الغطاء بالجسد: 
نعم ثمّة ما يمكن قولهُ عن علاقة الغطاء بالجسد ، فالغطاء الّذي يزيّن جسداً ما ويكسبه مزيداً من الحسن والجمال ، يمكن أن يضيف قبحاً لجسدٍ آخر ، تبعاً لجماليّة الغطاء من ناحية ، وقدرته على إخفاء النّواقص والعيوب أو إظهارها من ناحية أخرى . 
أمّا إظهارُ بعض أجزاء الجسد ـ كالوجه والرّأس واليدين إذا لم يكن عيبٌ ظاهرٌ فيها ـ خيرٌ من إخفائها رغم أنّها مغطّاة إمّا بالأدمة أو بالشّعر ، بوصفهما لازمتين جماليّتين لها ، نعم فالشّعر أجملُ غطاءٍ للرّأس الحليق .
 جماليّة الجسد والأخلاق الفاضلة :·
ثمّة علاقة بين الجسد الجميل والأخلاق الفاضلة ، إذ يمكن أن تتّخذ شكل علاقة اتّصالٍ واتّحاد ، أو علاقة تنابذٍ وانفصال . من هنا ليس بالضّرورة أن يكون الجسد الجميلِ فاضلاً أخلاقيّاً ، غير أنّهُ بالمقارنة مع الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، فإنّهُ أقلّ مرتبةً جماليّة منه بالضّرورة . 
فإذا كان الجمالُ خاصيّةَ الجسد الجميل جماليّاً ، فإنَّ الرّوعةَ والجلالَ والاستثناءَ خاصيّةُ الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، لعلّة الأثر الجماليّ الّذي يُحدثه العنصر الأخلاقيّ ، في إصدار الأحكام الأخلاقيّة والجماليّة المتعلّقة بجماليّة الجسد . 
فالجسد المبتذل أخلاقيّاً لا يحظى بنفس القدر من الاحترام والتّقدير ، والتّبجيل والإعجاب الّذي يحظى به الجسد الفاضل ، مهما بلغ من مراتب الحسن والجمال .
لقد حظي الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، باهتمام الأدباء ، والفلسفات الأخلاقيّة ، والدّيانات على مختلف أنواعها ، فكان موضع ثناءٍ وإعجاب ، بينما قوبل الجسد المبتذل ، بالنّبذ والإدانة والاستنكار . من هنا تشكّلُ العفّةُ الأخلاقيةُ عنصراً ضروريّاً ، ينضاف للعناصر الجماليّة عند الإنسان ، بوصفه أساساً في إصدار الأحكام التّقويميّة والجماليّة لدى كثيرٍ من الأفراد ، وكأنَّ الجمال الموضوعيّ للجسد الإنسانيّ ، يضلُّ ناقصاً ما لم يقترن بالعنصر الأخلاقيّ لدى الإنسان.

.دور الفنــــون فى تــرقيـــة الــمجتمع :

كما أن الفنون هى إفراز لثفاقة مجتمع ما ... ، فإن ثقافة هذا المجتمع ،  بصورة عكسيه ،  هى مرآة وناتج هذه الفنون ... ،  فالعلاقة التبادلية بين الفنون ، كقيمة ثقافيه تطرح على العامه ، وبين عموم المجتمع ، كتجسيد حى متفاعل مع هذه القيم  ،  يجب أن ترتقى دوما إلى أعلى ولا تنحرف أبدا ولو بقدر ضئيل إلى أسفل ... ليس فقط على مستوى إعلاء قيمه الإحساس بالجمال ..، ولكن أيضا على المستويات الأخرى كإعلاء قيم الأخلاق والفضيلة وقيمة العمل  الجاد  وقيمة العلم و قيمة الدفاع عن الوطن إلى آخر هذه القيم التى تمثل عصب نجاح و تطور أى  مجتمع متحضر معاصر ... لذلك فإن دور الفنان على كل مستويات الفن : التشكيلى / الغناء / الدراما / الشعر  يجب أن يرتقى أن يكون دائما ودوماً عنصراً إيجابياً مؤثرا يرتقى بهذه العلاقة التبادلية إلى أعلى ولا يهوى بها أبدا إلى أسفل  ... خصوصاً أن عموم الفنانين فى كافة مجالات الإبداع يشكلون صفوة المجتمع و يحظون بإعجاب خاص من عموم الناس  ، وإفتنان العوام بهم شئ ملحوظ  ، مما يوقع على كاهلهم  فى الواقع مسئولية أكبر وأعظم فى قيادة المجتمعات إلى التزكى الثقافى والترقى الحضارى على وجه العموم ...