شعرية الايماءة
:
الجزء الاول
د.
احمد محمد
أنَّ الإيماءة ما هي إلاّ أنماط حركية سلوكية تصور واقعاً ، تلتقي معها اللغة
اللفظية نظراً لفاعلية الدوال الجمالية التي تحملها ، لذا فإنَّ وظيفة الإيماءة لا
تُكّمن دلالاتها في إيصال المعنى فحسب ، بل في القيمة المعرفية التي تحملها في
ذاتها أي بوصفها حاملاً يحمل طابعاً ( جمالياً ، فنياً ، تعبيرياً ) ، إنها أقرب ما
تكون برسالة تشترط قصدية الإرسال ، لذا فهي عادة ما تشتغل آلياتها حول الإفصاح
والإجهار في توصيل ما هو غير مرئي ، على اعتبار أنه قضية وجدانية غير متداولة ،
فيلجأ باث العلامة في هذه الحالة إلى تشكلات إيمائية نفسية مجردة من خلال التجربة
الجسدية للحواس ، أما الوظائف الأخرى فهي رغبة باث الإيماءة في إعادة خلق عالم
ومجتمع متخيل تكون للإيماءة فيها وظائف عدة ، منها وظيفة معرفية ، استكشافية تكشف
عن هوية الذات الأخرى ، ووظيفة نزعوية ذاتية ، تكشف عن رغبات شخصية واشتقاقية ،
وإضافية ، لا تفهم إلاّ عن طريق إضافة أو إجراء تعديلات داخلية فيها . وإيماءات
علائقية محضة يرتبط المعنى الأول فيها بالمعنى الثاني ، عن طريق ارتباط بعضها ببعض
أو أقل اصطلاحاً في العادة من الإيماءات الاجتماعية ، وبالتالي فإن صراحة تشفيرها
أقل منها في الثانية ، إنها تشتغل في ظل تركيب معين فتنتقل من حركتها الجزئية في
المجتمع إلى حركتها الكلية في العمل المسرحي الصامت لتبنى علاقاتها الخاصة . ومن
هنا تتأتى تداوليتها ، أي من خلال اشتغالاتها التركيبية والذهنية العقلية معاً .
كذلك إيماءات مقامية ، حتى يمكن من خلالها إيضاح طبيعة الشخصية العلمية أو
الاجتماعية أو الثقافية . والإيماءات الوظيفية هي إيماءات تشخيصية أو تصويرية
تستخدم في العروض الصامتة لتصوير البيئة المتخيلة من أبواب وشبابيك وأدوات . تُعرّف
الشعرية
( Poeticism )
بأنها " علماً يهدف إلى تحليل العناصر التي تكوّن العمل الفني ، يأخذ التركيز على
الناحية اللفظية للأثر مكانة مميزة فيه ". كما يُعرّفها ( تودوروف ) بأنها : "
السمة المميزة التي يفترق بها العمل الأدبي عن غيره ، فهي الخصائص المجردة التي
تصنع فرادة الحدث الأدبي ". كما حدد ( جاكوبسون ) الوظيفة الشعرية والجمالية على
أنها علاقة بين الرسالة والمرسل إليه ، ويرى أنها وظيفة جمالية راقية بما فيها من
مواضيع تذهب إلى خلف حدود الإشارة المباشرة التي تكمن فيها.
يمكن لصاحب المقال الإشارة إلى أن شعرية الإيماءة هي الكيفية التي تخلق بها
دلالاتها المؤثرة ، أي من خلال جمعها لما هو ( معرفي / جمالي ) ، وبطريقة تتحول فيه
من قانون تشكلها الأدائي الذي يقرأ قراءة تقليدية بإحالتها إلى المرجع تحول إلى
قانون يخالف المألوف ، لتظهر فرادتها الدلالية التي تتجاوز الصريح والمباشر نحو
الباطن والجوهر . كما أنَّ شعرية الإيماءة تظهر من خلال قدرتها على ترك أكبر أثر في
ذهن مشاهدها من خلال تغير العلاقات البنائية ( استبدالية ، تتابعية ، تراكبية ، ...
) التي تنشئها مع البنى الإيمائية الأخرى إضافة لابتعادها عن الأداء المماثل أو
المحاكي للواقع بشكل تام ، وهو ما يُنشط البعد الدلالي والفعل التأويلي عند المشاهد
. تميز الشكلانيون الروس بتركيزهم على ( الأداة ) أو ( الوسيط ) أو الطريقة التي
تُبرز التعبير ، كما عدّوا اللغة الجمالية لغة تتجاوز وظيفة التواصل أو الترميز ،
لتصبح شيئاً له وجوده المستقل ، مثيراً للمتعة بسبب تلافي استخدام الوسائل
التقليدية المتاحة أمام المبدع كالإيقاع ، الترميز ، التناغم ... الخ ، لتحوّل هذه
إلى كيان ذو قوى متوافقة ومتنافرة أيضاً ، كأنها عمل درامي أو فعل حركي لا مجرد رمز
خاص
.
يؤكد صاحب المقال ، أنّ الشكلانيين قد أضافوا على الخطابات الجمالية أبعاداً دلالية
مضافة من خلال تفعيل حرية بنائها من جهة ، على النحو الذي تخرج به عن السياق
المألوف ( التغريب ) ، وأعطوها من جهة أخرى تعدداً وتنوعاً في المعايير أو القوانين
التي يحتكم عليها العمل الفني ، وترتكز عليها انطلاقاً من تعدد الثقافات ، والرؤى
الفلسفية والدوافع الإبداعية . لذلك تصبح لبنية الإيماءة خطاطة معرفية جمالية ترسم
أطر الموضوع وأبعاداً دلالية من خلال أثرها الذي تخلقه في وعي مشاهدها ، فهي بنية
متحركة داخل العرض أدائياً وخارجة دلالياً ، أي داخل ذهن المشاهد
.
شعرية الإيماءة في التمثيل الإيمائي الصامت تنشأ من الانحرافات البلاغية
(Poetic deviation )
عن الإيماءات المعيارية
( Normative gesture )
، أو المقارنة بين عالمين يختلفان في الترابط المنطقي والشكلي ، أو بين السكون
وإمكانيات الجسم وحركاته ، فمن خلاله يخلق المشاهد حواراً ذهنياً لقراءتها .
فالتمثيل الإيمائي الصامت يرمز في عمله إلى شيء معين في الواقع وليس مجرد محاكاة
.