خطاب الجسد ونظام التواصل الإشاري في المرويات الشفاهية الشعبية.

ـ مقاربة تداولية ـ

الأستاذة : جنات زراد

                                         

 شهد هذا القرن تحولات هامة في جميع  التخصصات نتيجة تطور العلوم والتكنولوجيا، واكتساب المهارات العلمية، لتشخيص زوايا الحقائق والطروحات، ولقد مست هذه التحولات طرائق التعامل مع الأثر الفني ونشير إلى أن الناقد والمفكر "بالمر" بحث عن الروابط والعلاقات بين اللغة والتفاعل البيولوجي في كتابه الموسوم بـ "الأسس البيولوجية للتواصل اللغوي"، بل وإمتد البحث إلى ما يسمى "بالذكاء الإصطناعي" الذي يلتقي في كثير من الأمور مع الذكاء الإنساني كما أثبت ذلك الدراسات الحديثة.

إن هذا العصر هو عصر الإشارة والعلامة والمرجع والرسالة، وهي أمور شغلت الخطاب النقدي الجديد الذي مرّ بمرحلة مخاض أنجبت أسلوبا متميّزا اسمه "السميولوجيا" والتي تنطوي على فضاءات واسعة ومرنة، تحتاج إلى جهد إضافي لرسم المعالم والحدود.ولاشك في أن الممارسة السيميائية هي درس بلاغي متجدد وبحث عن مظاهر خرق قانون اللغة، بأسلوب علمي بسيط، وبطريقة دقيقة تعيد تشكيل الأنساق اللغوية والغير لغوية وفق معطيات ومرجعيات حديثة.

وكما هو معروف فإن تراث أي مجتمع  يتشكل من قسمين: قسم منطوق وقسم صامت ولكل منهما دوره ووظيفته ودلالته ولا يمكن الإهتمام بالمنطوق والعزوف عن غيره المتمثل في الوسائل الخطابية الإشارية والتي تسهم في كثير من  الأحيان في إعادة قراءة تاريخ المجتمعات الذي ينبعث من تلقائية الجسد «عبر الحركة الجماعية أو الذاتية المشاهدة المتوارثة المتداولة أو الحركة الإيمائية الإشارية الجسدية عبر مسارات أخرى كالفنون النحتية والتصويرية... وغير ذلك كثير، إذ  أن الحركة فعل اتصالي»(1) ، إن عملية التواصل مع موروثنا الحضاري ومع ثقافتنا الرسمية والشعبية ومع مجتمعنا  تحتاج إلى دعم حقيقي من قبل الباحثين والدارسين على جميع المستويات، والحقيقة أن إنتاج وسائل التبليغ أو الاتصال وتطويرها إنما يكون من واقع الحركة الاجتماعية في علاقاتها المتعددة، وذلك بتنشيط مخزونها الثقافي وإعادة استغلال جوانبه المختلفة، وسأحاول في هذه الدراسة الوقوف عند خطاب الجسد أو الإشارة كوسيلة من وسائل الإبلاغ إلى جانب اللغة، وقديما قيل: ربّ إشارة أبلغ من عبارة.وقبل الانطلاق في هذه الدراسة سنعمد إلى توضيح المصطلحات الأساسية التي سنستعملها:

1- السيمياء : وهي العلم الذي يدرس حياة العلامات أيا كان مصدرها ونوعها في إطار الحياة الاجتماعية وقد جعل "دوسوسير" هذا العلم مقتصرا على دراسة العلامات ودلالتها الاجتماعية بما يفهم به البشر بعضهم بعض.ولم تصبح السميائية علما قائما بذاته إلاّ بفضل المجهودات التي قدمها كثير من الدارسين على رأسهم الأمريكي "بيرس" C.Peirce، "1839-1914" فهي في نظره علم الإشارة الذي يشمل جميع العلوم الإنسانية والطبيعية الأخرى حيث يقول:" ليس باستطاعتي أن أدرس أي شيء في الكون كالرياضيات والأخلاق والميتافزياء والجاذبية الأرضية والديناميكية الحرارية والبصريات والكيمياء وعلم التشريح المقارن وعلم الفلك وعلم النفس وعلم الصوتيات وعلم الإقتصاد وتاريخ العلم والكلام وو... والسكوت والرجال والنساء والنبيذ وعلم القياس والموازين، إلاّ على أنه نظام سيميولوجي"(2).

2- التبليغ  Communication:

التبليغ ظاهرة معقدة تتحكم فيها عوامل عديدة: لغوية ونفسية واجتماعية وتعليمية وثقافية وعوامل أخرى غير لغوية، وهو تبليغ رسالة شفاهية أو كتابية تتضمن معلومات أو أفكار أو أراء بفضل الكلام المنطوق أو المكتوب أو الإشارات، والتبليغ عبارة عن عملية يتم من خلالها تبادل المفاهيم بين متحدث ينتج خطابا موجها إلى متحدث إليه. ويعد التبليغ عنصرا بالغ الأهمية في الحياة الإنسانية فهو " الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطور، إنه يشمل كل الرموز الذهنية مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزها في الزمان ويتضمن أيضا تقاسيم الوجه وهيئات الجسم والحركات ونبرة الصوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والقطارات والتلغراف والتلفزيون وكل ما يشمله آخر ما تم من الإكتشافات في الزمان والمكان"(3) وتتأسس العملية التبليغية على العناصر التالية:المرسل،المرسل إليه، قناة التوصيل ومقامه، والوضع اللغوي (Code).

3- العلامة : تتكون العلامة من صورة حسية يتم إدراكها بحاسة من الحواس الخمس السمع أو اللمس أو البصر أو الشم أو الذوق «وتتأسس هذه الصورة على ما يتواضع عليه  متخاطبان اثنان أو مجموعة من المتخاطبين»(4). فبارتباط الشكل الحسي مع ما يتواضع عليه المتخاطبون تفصح العلامة عن مكنونها وتبوح بمعانيها ودلالاتها، ويتحقق الإتفاق على الوضع مع كل قناة يمكن إستعمالها في إيجاد لغة ما.

تعد العلامة معطى نفسي واجتماعي وثقافي وحضاري، أصله الوضع والعرف والإصطلاح من خلالها يمكننا معرفة العلاقة بين سعة أي نظام تبليغي وطبيعة مكوناته الدلالية، فهناك تناسب طردي بين«اعتباطية أي نظام كلامي وسعة إبلاغه وهو يفضي بنا إلى القول بأن مقبولية العلاقة بين الدال والمدلول في كل نظام تواصلي على أساس الاقتران المنطقي تتناسب تناسبا عكسيا مع طاقة ذلك النظام المعتمد في الإبلاغ ، فيكون معيار الاعتباطية الذي هو مرآة العرفية هو النموذج الأوفى للجهاز البلاغي»(5).

ومنه فإن المكون الاعتباطي الذي تشمله العلامة في كل عملية من العمليات التبليغية هو الذي يبين لنا سعة القدرة على التبليغ، وعلى هذا فإن المتلقي للرسالة لابد أن يكون على معرفة بنظامها لكي يتمكن من فهمها وتحليلها ومعرفة مختلف وظائفها وأغراضها .

4- الإشـــارة : تعتبر الإشارة "نتاج عمل إنساني يهدف إلى غاية معينة موّجهة /الغرض منها إقرار واقع خارجي وإبلاغه للآخرين"(6). وهي وسيلة لنقل المعنى من ميدان التخاطب باللغة إلى ميدان التخاطب  بالإشارة أو بالإيماء أي التخاطب بالصمت، ويمكن أن نترجم الإيماءات وحركات اليد فكرة أو كلمة أو مفهوما  أو حالة نفسية أو روحية أو تترجم مجموعة معقدة من الأفكار المختلفة، فيستطيع الإنسان التعبير عن معاني كثيرة جدا بعينيه، فللعينين لغة متميزة شكلت معينا ثريا للأدباء والفنانين عبر العصور  فإذا أخذنا البيتين التاليين لعمر ابن أبي ربيعة:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها            إشارة مذعور ولم تتكــلم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا           وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّـم

فعندما نفسر هذين البيتين نجد:

 المشير / المرسل (يتمثل في المحبوبة).

       :طرفا التبليغ ، وهمــــا

المشار إليه المتلقي (يتمثل في المحبوب)

مقام التبليغ: يتمثل في الخوف والذعر ولذلك تم إرسال الإشارة بالعين حتى لا ينتبه الأخرون  للخبر ويعرفونه، إذ يتطلب المقام التكتم.

المواضعة  (Code): وهو الشفرة المتعارف عيها بين المشير والمشار إليه  ولذلك حصلت الفائدة وتحققت الغاية من الحديث  الإشاري.

العلامات غير اللغوية:

لقد كانت عملية المشافهة القناة الأولى والأساسية للاتصال والتواصل بين البشر في المجتمعات القديمة قبل إكتشاف الكتابة التي تحقق البقاء المادي للرسالة مما يتيح لها تجاوز حدي الزمان والمكان بينما هذا غير متاح للإتصال الشفاهي وبعبارة قديمة جامعة على لسان الجاحظ"اللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مطلق في الشاهد والغائب، وهو للغالب الحائن مثله للقائم الراهن، والكتاب يقرأ بكل مكان، ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه ولا يتجاوزه إلى غيره"(7). وقد استعان الإنسان الأول بالمرويات الشفاهية وأشكال التعبير الشفوي الشعبي كالحكاية والملحمة والمثل و الأغنية واللغز...الخ  كقناة يمرر عبرها إيديولوجياته وينقل من خلالها خبراته بغية التواصل مع الأجيال اللاّحقة.

وتعتمد عملية المشافهة على وسيلتين بيانيتين هما الصوت والإشارة هذه الأخيرة التي كثيرا ما يحتاج إليها اللفظ من أجل معاونته في الإبانة والإفصاح عن المعنى، فهي نعم الترجمان عنه بل أحيانا كثيرة تنوب عنه وتكون أبلغ منه.أما بالنسبة للأداء الصوتي فالكلمة المنطوقة لها –حتما- أداء صوتي من علو وانخفاض ونبر وتنغيم وحين تكتب هذه الكلمة فإنها تفقد هذا الأداء»(8) .

ولعل الباحث الأنثروبولوجي يلاحظ تلك العلاقة الوطيدة التي تربط بين النص الشفهي والمتلقي وتأثير الراوي كوسيط فيهما، وليضمن الرواة المحترفون – بوصفهم  حفظة التراث –وصول رسالاتهم إلى الجمهور المتلقي بنجاح يحرصون على استغلال جميع قدراتهم الفنية ومواهبهم الفذة في الحكي من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الجمهور معتمدين في ذلك على عناصر لغوية وعناصر غير لغوية أو ما يسمى في اللسانيات بـ " مميزات فوق اللغوية paralinguistique    المرافقة للكلام المنطوق ... مثل الإشارة والإماءة وتعبير الوجه"(9) وهي لغة موازية للخطاب المنطوق، ذلك أن هذه الخصائص تكسب النص الشفهي ديناميكية سردية وتعتبر عاملا مساعدا للراوي على نجاح مهمته في نقل وتصوير أحداث الحكاية بدقة متناهية من أجل والتواصل مع غيره من خلال خطاب غير منطوق ولا مكتوب يدعى خطاب الجسد.

خطاب الجسد ـ قراءة في الدلالة ـ :

 يعتبر الجسد نسقا تواصليا له امتدادات في كل مناحي الحياة، ذلك أنه ليس مجرد كتلة كلية، بل ليس جمودا يستقر في بوتقة واحدة ولكنه كيان متحرك  له خطاب خاص إيمائي ينم عن علامات سميولوجية كثيرة تكون محل تفكيك من طرف المتلقي من أجل إنتاج الدلالات  والتواصل، أنه خطاب أو خطابات لها قوانينها ومنطقها وأسرارها أيضا. إنه المبدأ المنظم للفعل وهو الهوية التي بها نعرف وندرك ونصنف، وهو كذلك الواجهة التي تخون نوايانا الأكثر سرا"وليس غريبا أن نلح في الحديث عنه ونتغنى بجماله ونربت عليه وننصت إليه في قوله وفعله، وفي جده وهزله في سكناته وحركاته ونهتم به حيث يصحو ويغفو وينشط ويكسل ويتألم وينتشي ويذبل وينتهي »(10).إن للجسد قراءة خاصة ،الغاية منها الكشف عن الطريقة التي ينتج بها الجسد دلالاته والدلالات هي طاقات تعبيرية كامنة فيه (الجسد) .

 الدال الجسدي :

 يشكل الجسد نسقا منفردا ضمن أنشاق ضمن أنساق أخرى، تلوذ جميعها بالكون بحثا عن معنى وعن دلالة ، فإذا كانت كل الأشياء لا تدرك إلا من خلال ارتباطها بهذا الكون اللامتناهي الامتداد " فإن كينونة الجسد تمكن أيضا في ارتباطه بكون ما، وجسدنا لا يوجد في الفضاء إنه الفضاء "(11). إن تشكل الجسد كدال متكامل ومكتف بذاته وقادر على توليد سلسلة لامتناهية من الدلالات  انطلاقا من تنوع الأنماط الصانعة لكينونته، هو الحظوة نحو انفصاله عن الأشياء والغوص عميقا في الحقل الثقافي .

تداخل العملي والثقافي :

 يزاوج الجسد في وظيفته بين العمل والثقافة ونقصد بالعمل هنا الناحية الفزيولوجية والبيولوجية أي الحركة العملية أما الثقافي  وهو الأعم فهو تلك القراءة النسقية له ، فإذا كان الجسد خلق عبر تنقله في الفضاء سلسلة من الوحدات الإيمائية فإن هذه الوحدات تخلق سلسلة من الانزياحات تعود إلى نوعين من النصوص الجسدية .

ـ نصوص طبيعية "  وهي تدرك وفق النص الثقافي العادي، أي ما يعود إلى التجربة المشتركة، (إنه يمشي ، إنه يأكل، إنه يشرب).

ـ نصوص ثقافية: تدرك باعتبارها خروجا عن المعيار المحدد للفعل الحركي العملي وفي  هذه الحالة "فإن الانزياح لا يتم انطلاقا من الوضع الابتدائي ، بل يتم انطلاقا من الفعل الحركي العملي، ما دامت كل الحركات الثقافية متولدة عن الحركات العملية وتدرك وفق قوانينها ، فكل الملفوظات المنجزة من طرف ذات الجسد عبر التنوع الإيمائي، لا تفهم إلا من خلال تحديد مسبق للسياق الثقافي الذي تنجز داخله هذه الوحدات الإيمائية "(12) .

إن كل حركة هي في واقع الأمر إنجاز لمشروع ثقافي ، إنها تشكل مشروعا لأن هذه النصوص هي نصوص مليئة بالبياضات والأجزاء غير المتكاملة، ولكنها تمثل من حيث البعد الإجرائي الامتلاء الدلالي في أبهى صوره،ذلك "أن الجسد في هذه الحالات شبيه بالوحدات المعجمية لا يملك معنى، إنه يعيش على وقع الاستعمالات الأمر الذي يجعل من إيماءة واحدة منبعا لسلسلة كبيرة من  التأويلات"(13) .

إن أية حركة معزولة في المرويات الشفهية قد تولد نصا متكاملا ينفتح على سلسة من الإيماءات الدالة على ممارسة معينة وفق مقتضى الحال، مثلا الاستعمالات المتنوعة لليد فهي تدل على التهديد، وعلى المنع، وعلى العناق، وعلى الطرد، كما تدل على الإشارات الرامزة للفعل الجنسي.وعندما نغير من سياق حركة ما أو يكون المتلقي جاهلا بالنص الثقافي الذي تنجز داخله هذه الحركة  نقع في الغموض والإبهام أو أمام ما يخدش " الحياء" أو خرق لطابو الجماعة.                

مصادر الحركة :

إن مصادر حركة جسد/جسم الكائن تتنوع بتنوع العضو المتحرك فيه وما يعبر عنه عضو لا يعبر عنه عضو آخر، فالرأس وهو أكبر أقسام الجسم وأعضاؤه المتموقعة فيه  لها إمكانيات تعبيرية دالة تفوق التعبير الصوتي الذي هو من جملة الإمكانيات التي تضاف إليه فنجد فيه حركة العين، وحركة الأنف، وحركة الأذن وحركة الرأس كله، واللحية والشارب، والخد والفم وتمطيط الحنكين ، ...الخ ، وهذه الأعضاء قد تؤدي الحركة الموحية مباشرة وقد تتعاون مع أعضاء أخرى من الجسد في أدائها  كالعين وحركة الرأس، والغالب في العضو المساعد أن يكون اليد ومكوناتها بالأصابع مضمومة أو مبسوطة أو في اتجاه عمودي أو في حركة سريعة منسجمة مع حركة أخرى، ومثال ذلك وضع اليد منحية على الأذن للدلالة على عدم السماع الجيد لمصدر الصوت أو طلب رفع الصوت.

والحركة الجسدية في الغالب حركة تمثيلية محاكية لفعل له تصور مسبق عند المتلقي ، ولذلك لا نعجب إن وجدنا رجلين من منطقتين لغويتين لا يتواصلان باللغة ولكنهما يتواصلان عن طريق الحركة التلقائية الفطرية البسيطة كحركة التعبير عن الجوع والألم أو الفرح ...الخ.

الحركة الجسدية عند الراوي الشعبي ووظيفتها :

إن الحركة الجسدية باعتبارها أداة تعبير تنقل الوعي من فضاء إلى فضاء في لمحة تختصر الكثير من الكم الصوتي واللغوي و لا تتجاوز حدود استخراج الصور من ذهن المتلقي، وإعادة النظر في علاقة هذه الصور واكتشاف قسماتها وملامحها التي كانت خافية وهي بذهنه، فالإشارة أو الحركة الجسدية وسيلة من الوسائل السريعة التي تسمح للمتلقي من التجول في مخزونه الثقافي وفق شحنات الخطاب لتفجر مكامن ذاكرته " إنها تمنحه إمكانيات هائلة في الاستجابة السريعة للفهم وتدفعه لتشغيل الذاكرة بقوة لاستحضار الصور وتجاوز حدود اللغة المنطوقة التي تستهلك الزمن الحاضر"(14).

 تعتمد الحكايات الشعبية كموروث شفاهي أساسا على ما حفظته لنا ذاكرة الحفظة، أي على براعة الراوي في تذكر ما سمع وقدرته ومهارته في نقل ما يحفظ إلى غيره بطريقة مشوقة تجلب انتباه الجمهور المتلقي المحيط به حتى يتم التواصل بين الأجيال بطريقة واعية وجادة ذلك أن " كل عملية إبلاغ لا تتم إلا إذا اكتملت فيها أعضاء المثلث المكون للجهاز الإبلاغي: الباث ،المتلقي، الرسالة"(15)   أي الراوي و الجمهور المروي له ونص الحكاية.

ونظرا للدور الفعال الذي يلعبه الراوي في فهم وإيصال معاني الحكاية للمستمع، وخلق جو خرافي ينطلق من الواقع المدرك والمحسوس ليحلق  بعيدا في عالم الخيال المطلق،  ويجعل المستمع يندمج مع جو الحكاية  و يتابع أحداثها بشغف واهتمام شديدين .

فالراوي يروي بلسانه ويسهب في الشرح أحيانا متوسلا في ذلك بعبارات وكلمات منتقاة، كما يروي بجسده كأن يختار جلسة معينة ، فهناك من الرواة من  يفضل الجلوس في وسط الجماعة وأثناء عملية الحكي يتلفت يمنة ويسرة ويشرح بين الحين والحين لهؤلاء وهؤلاء ، ويتابع في وجوههم أثر وقع كلماته عليهم، ويتابع حركاتهم وهمساتهم وتجاوبهم معه، وهناك من يفضل الجلوس في مكان مرتفع أعد خصيصا له يجابه الجمهور مباشرة مثل المعلم والتلاميذ في الصف. وهناك من لا يروي إلا وفي يده عصى يمثل بها وهو متكئ على وسادتين وكان تلك الجلسة المميزة تعيده إلى الزمن الماضي البعيد مع الأجداد، وعليه فطريقة الجلوس جزء من تقاليد الحكاية.

كما يروي الراوي بحركاته وإشاراته، فنراه يحرك رأسه وعينه ويده ورجليه ويتلمّظ بشفاهه عند نطقه ببعض الكلمات ، كما يستعين بأدوات وآلات من محيطه الذي يجلس فيه كل ذلك من أجل أن يحقق مقاصده الدلالية والرمزية " فهو يتكلم ويتحرك ويحرك جسده وأعضاؤه وأشياؤه، من أجل التشبيه والمقارنة والتفسير وتعليل مواقف نصه للمتلقي، فالراوي يفتح نصه على الخارج وللخارج كما يصنع من الخارج ذاته جزءا من النص"(16).  

وتظهر أيضا طاقاته الإبداعية في طريقة استعمال نبراته الصوتية فيفخم ويرقق ويرفع ويخفض صوته حسب حاجته لذلك،ووفق الطريقة التي تتحدث بها الشخصية المضحكة في الحكاية ،كأن يتحدث بصوت به غنّة، فعادة ما يكون صوت الراوي أول السبل لجلب  انتباه الجمهور فيثير بصوته مخيلة المتلقي ويعزز ذلك بحركات مقصودة تجعل المتلقي يعيش متعة السياحة في عالم الحكاية الشعبية دون أن نغفل هيئة وملامح الراوي وأبعاده الدلالية وكيفية تفاعله مع النص الحكائي وكذا تفاعل المتلقي معهما، فتبدو قسمات وجهه كمسرح للأحداث فإن أراد التعبير عن حدث مفرح تنبسط أسارير وجهه علامة على الرضى والاقتناع، وإن عبس وقطّب حاجبيه فذلك دلالة على حدث محزن أليم وغير سار، وأحيانا كثيرة عندما تكون أحداث الحكاية مسلية ويصل الراوي عند حدود مواقف مضحكة فإنه ينفجر بالضحك قبل وصفه المشهد أو الحديث عنه، وكلما أراد الكلام تغالبه نوبة الضحك ويعجز عن مواصلة الحكاية مما يدفع بالمستمع إلى مجاراته وتقليده في الضحك دون معرفة السبب لأنه يتوقع أن الحدث مضحك فعلا فيتلهف لفك طلاسمه ويزداد شغفا لمتابعة بقية الأحداث.

وليتأكد الراوي من مدى استجابة الجمهور له ومتابعته للرواية، يختار اللحظة الحاسمة  في الحكاية حيث تتأزم الأمور وتتصاعد الأحداث إلى أن تصل ذروتها فتشرئب الرؤوس وتتطاول الأعناق وتتسع الأحداق وتتلاحق الأنفاس لمعرفة الحل عندها فقط  يصمت الراوي ويدّعي التعب ويرجئ بقية الأحداث إلى الغد ـ بنفس الطريقة التي كانت تمارس بها شهرزاد سلطة الحكي وسحر الحديث مع شهريار في حكايات ألف ليلة وليلة ـ أو يتوقف ليسأل المستمعين: هل تعبتم؟ فيجيبه الجميع بحركة واحدة من رؤوسهم دلالة على النفي وبصوت واحد: لا، ثم يترجونه أن يواصل بقية الأحداث.

وأحيانا كثيرة يتظاهر بأنه نسي أين توقف ، فيجد الكل يذكره بالحدث الذي توقف عنده، في تلك اللحظة فقط يرتاح الراوي لهذه النتيجة لأن مجهوده لم يذهب هباءا منثورا، وقد وجد أذانا صاغية وأذهانا واعية تقدر قيمته وتستمتع بمجلسه وأن حكايته قد وجدت صدى في نفوس وقلوب جمهوره، وذلك أن الأسلوب الذي يستعمله الراوي بمزجه بين الكلمة والحركة يكشف عن طريقته المميزة في استمالة الجمهور، ويوضح أسلوبه المنفرد وذكائه وبراعته وقدرته في ترجمة ما يريد قوله بالحركة والإشارة فالراوي في الحكاية " يتمثل الحياة الباطنية أو الخارجية بعلاقتها المكثفة ثم يرمز لها أو يحكيها باللغة "(17) .

ونشير إلى أنه يوجد تباينا ملحوظا بين الرواة وهذا التباين والاختلاف في طريقة السرد وكذلك في الحصيلة اللغوية وغزارة المادة المروية والتمكن من تقديمها، أي من حيث قدراتهم في توصيل الأفكار التي تبثها الحكاية وتأثيرهم في الملتقى سواء أكان فردا أم جماعة عن طريق الحركة والإشارة أي أنهم " يتمتعون بموهبة فنية وكلامية فائقة وذهن متفتح قادر على الخزن ولكن بدرجات"(18).

   والملاحظ أن هذا التفاوت في التخزين والأداء يعتبر معيارا أساسيا في عملية التصنيف حيث يصنف الرواة إلى رواة غير محترفين ورواة محترفين، والراوي المحترف هو راو بارع الإيماء يسعى إلى الربط بين الشخصيات الروائية وبين المتلقين مهما تباينت ثقافتهم واختلفت أعمارهم وتعددت طبقاتهم، حيث أن الشخصية الوهمية تتحرك داخل نفس الجمهور وفي خياله تعيش وتتمرد وتثور وبحركات الراوي الجسدية يقرب هذه الصورة إلى ذهن ونفسية المتلقي.

ومن هنا فالحركة الجسدية تلعب دورا مهما في تبليغ الخطاب وخلفياته المرتبطة به مع ما يصاحبها من ملامح وانفعالات كما ذكرنا آنفا، وهي تتموضع في مقدمة الأدوات والوسائل البيانية التي يستغلها الراوي، فإلى جانب إيحاءات السرد وأجواؤه وسحره تأتي لغة الجسد خطابا يستغله الراوي ليزيح الفارق ويسوي في درجة الفهم، وقد تكون هذه اللغة غير المنطوقة ضرورية حين يغمز بها ذوي الخبرة خاصة عندما تتعلق بأمور الجنس أو المرأة عموما.

فالحركة التي تصدر من الراوي عبارة عن مجموعة من الأوضاع المتفق عليها تلقائيا لأنها حركة تدخل في ثقافة المحيط ولغته، وهي معروفة للجميع و إلاّ تعذّر الاتصال بين المتلقي والفاعل، وغالبا ما تكون رمزية في الأشخاص الذين ينتمون إلى وضع اجتماعي واحد خاصة عندما لا يحدث التجاوب بالنسبة للأشخاص خارج ثقافة الراوي ومجتمعه فإن التواصل هنا يقل نتيجة التغاير الثقافي، وهذا ما أشارنا إليه من قبل.والشيء الأكيد أن الراوي يلجأ إلى الرموز المعترف  بها اجتماعيا ولا يحاول الابتكار في الأغلب إلا إذا تعذر وصول خطاب لغة الجسد فإنه يلجأ إلى إحداث تغيير في شكل الحركة وذبذبتها بما يتماشى  وملامح المتلقي حتى يكون هناك قدر من التواصل بين الراوي والجمهور.

 ويمتاز الراوي بسرعة إدراك رغبة الجمهور وحاجاتهم ويعرف الحركة والإشارة الدالة على البيئة التي هو بصددها و إلاّ كانت حركته لغة ضدية تلغي وظيفته كراوٍ، وهو بهذا يصبح ممثلا يمارس أدق خصائص التمثيل والتي أهمها الحركة الجسدية مع ما يصاحبه من إنفعالات وملامح وأصوات. ومن هنا فإن فكرة التمثيل واردة من أجل التواصل وعلى صلة بما لدى الراوي من مخزون اجتماعي وحضاري شامل استطاع أن يكسبه بطريق أو بآخر، ولذلك فإن حافز الحركة أو الإشارة أحيانا يكون أقوى وأكثر إقصاء لغيره من وسائل التعبير والتواصل خاصة اللغة .

 ونشير إلى أن حركة الراوي لا تشبه حركة الممثل المسرحي أو السينمائي الذي يتقيد بنص وبتوجهات أسهم فيها مبدعون آخرون يرون أن حركته الجسدية يجب إخضاعها لأوضاع معينة وبذلك فهي وليدة رؤيا سابقة عليها. ولا يخفى ما في أنواع التمثيل المسرحي من تقييد للذاكرة والبديهة والإنفعال الحر والتأثر المطلق على نحو يخالف جميع الناس، تبعا للإرادة الخارجية عن ذات الممثل بينما ينطلق الراوي الشعبي من حرية الإرادة والإختيار بعيدا عن أي تأثير إلا بما يقتضيه النص ويتطلبه الجمهور المتلقي، فقد يتعرض الراوي إلى حالات نفسية وإنفعالية تكون فيها سلبية الخطاب بادية وقد تحضره اليوم حركات وتغيب غدا وفقا لحالته النفسية وظروفه وانسجامه، لذلك فإن الحركة في المرويات الشفاهية حركة تتولد لتلبي حاجات آنية ذاتية ليس لها امتداد في كل الأحوال في الماضي أو المستقبل البعيد.

أنواع الحركة الجسدية:

1ـ حركة لاإرادية: وهي تصدر عن اللاوعي الذي ينشط فيفتح نوافذ ليطل في ثنايا العرض فيمنح إشارات لها مكان في لاوعي الجماعة كلها ولذلك فهي تصادف هوى في نفوسهم وتؤدي دلالات يكشفون عنها ومن ثمة تتداعى ذكريات المتلقي فتضيف إلى مضامين الحركة مضامين أخرى.

2ـ حركة مقصودة: وهي حركة يقصد الراوي إحداثها والتأكيد عليها لتوضيح عبارة أو فكرة ما ويريد الراوي من خلال هذه الحركة أن يدفع الناس إلى الإنتباه إلى الحركة الجسدية لئلا تتشتت أفكار المتلقين في فهم المضمون الذي هو بصدد عرضه.

المروي له:

 إن الحديث عن الراوي وفعل الحكي يقودنا بالتأكيد للحديث عن المتلقي الذي يعتبر جزءا أساسيا في ديناميكية وحيوية النص المروي الشفاهي حيث « يشكل المتلقي (المروي له- المرسل إليه) الوجه الآخر للراوي على المستوى القبلي – الما قبل- أو على المستوى البعدي – الما بعد- حيث يكملان بعضهما البعض من حيث الطرح الوظيفي لفعل البث والتلقي»(19).

وتتميز عملية تلقي جمهور القص لهذه المرويات بالإيجابية فالجمهور لا يكتفي بالاستماع فقط بل نجده يتفاعل مع كل الأحداث، وكثيرا ما نجده يلح في طلب سماع حكاية بدلا من أخرى، ذلك أنها تعبر عن مواقف وأحاسيس قريبة إلى نفسيته من غيرها، فيتطلع المتلقي إلى الراوي في شغف وإهتمام شديدين ويندمج في أحداث الحكاية إندماجا كليا حتى أنه ينتقل من العالم الواقعي الذي يعيشه إلى عوالم أسطورية بعيدة عن منطق الحس والإدراك يخلقها له جو الحكاية فيحدث إتحاد عاطفي عبر الزمان والمكان شبيه بالحلم ونراه يسمع ويخزن في ذاكرته ويتلقى بحماس ويتجلى ذلك من خلال سمات وجوه المستمعين أثناء ممارسة فعل الحكي، فينفعلون ويتفاعلون مع ما يروى ومع الراوي كذلك فنرى ملامحهم تتغير وأنفاسهم تعلو وتهبط حسب توتر خيوط المقاطع المروية، وكثيرا ما نرى وجوههم تتجهم ويكسوها الحزن والأسى حينما يتأزم وضع البطل الذي يمثل بالنسبة لهم قيمة أخلاقية سامية، وتتهلل أساريرهم وتنبسط حينما ينجو البطل من المأزق ويحسن التحكم في الموقف وتنقشع سحب الضيق والمشاكل من سماء حياتهم. وتكاد تكون حركاتهم وإشاراتهم وإيماءاتهم نفس حركات وإيماءات وإشارات الراوي الذي يسعى إلى عكس عمق إحساسه بالأحداث وتأثره بالحكاية المروية. وعليه نقول أن طبيعة المادة المروية أو طريقة الراوي في السرد تتضافران معا من أجل جلب إنتباه المتلقي وانسجامه كلية وتفاعله مع الرواية ولولا ذلك التفاعل من قبل الراوي والمروي له لما استطاعت الحكاية الشعبية أن تضمن خلودها وإنتشارها وإنتقالها من مجتمع قص لآخر بغية التواصل والإنتماء إلى الجماعة.     

الإحالات  و الهوامش:

1 ـ محمد أضرور:المقاربة التواصلية وديداكتيكية اللغات ،مجلة الدراسات النفسية والتربوية، العدد11، كلية التربية – الرباط – 1990، ص73.

2 ـ بيرغو : علم الإشارة و السميولوجيا، ت :منذر عياشي، دار طلاس ،ط1، 1998، ص 10/11.

  3محمد عيلان، من سيميولوجيا التواصل ،مجلة السيميائية والنص الأدبي ،منشورات جامعة باجي مختار ـ عنابة ـ دط ، 1995 ، ص254.

4ـ عبد السلام المسدي :اللسانيات وأسسها المعرفية، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر  1986 ، ص32.

5ـ أحمد حساني :العلامة في التراث ، مجلة تجليات الحداثة ، عدد2، معهد اللغة العربية وآدابها ، جامعة وهران،1993 ، ص27

7ـ المرجع السابق، ص74.

8ـ محمد عبد العزيز الحبابي :تأملات في اللغو واللغة ، الدار العربية للكتاب ـ ليبيا تونس -1980 ،ص 65.

9ـ  الجاحظ : البيان والتبيين ، ج 1 ، شرح وتحقيق عبد السلام محمد هارون ، مكتبة الخانجي – القاهرة – 1968 ،ص45.

10ـ جميل عبد المجيد : البلاغة و الاتصال ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة – د ط ، 2000 ، ص 68.

11ـ تجليات الجسد ، تجليات الإنسان :افتتاحية مجلة إبداع ، العدد التاسع، ديسمبر 1997 ، ص4.

12ـ سعيد بنكراد : السميائيات ، مفاهيمها و تطبيقاتها ،دار الحوار للنشر والتوزيع  - سوريا – ط2 ، 2005 ،ص192.

13ـ المرجع نفسه ، ص 195.

14ـ محمد عيلان : من سيميولوجيا الاتصال،ص 254.

15ـ محمد طول : البنية السردية في  القصص القرآني ، ديوان المطبوعات الجامعية ، بن عكنون – الجزائر – دط ، 1991، ص126.

16ـ محمد سعيدي : نص الاستهلال في الحكاية الشعبية ،مجلة بحوث سميائية، العدد1، دار الغرب للنشر والتوزيع – تلمسان – دط ، 2002 ، ص148.

17ـ الطاهر رواينية : قراءة في التحليل السردي للخطاب ، مجلة التواصل ، جامعة باجي مختار – عنابة- ع4، 1994، ص 19.

18ـ داود سلمان الشويلي : القصص الشعبي العراقي في ضوء التحليل المورفولوجي ، مجلة التراث الشعبي –بغداد- آذار، عدد2 ،1977، ص147.

19ـ محمد سعيدي : نص الاستهلال في الحكاية الشعبية ، مجلة بحوث سنيائية ، ص 149.