بروح وحركة صمت (البانتوميم فن) فلسطينية 

 

  

    سعيد سلامة فنان مسرحي فلسطيني من مدينة شفاعمرو قضاء الناصرة وقف على خشبات المسارح العالمية وقدم عروضه الإيمائية (مسرح البانتوميم) والمستوحاة من الحياة الفلسطينية. تأثر في أدائه من الفنان العالمي مارسيل مارسو لكنه نجح  في تثبيت "جانره" الفني الخاص. بدأ مشواره الفني عام 1982 وقدم عروضا مشتركة مع أخيه الفنان الراحل زيدان سلامة حتى عام 1988 حيث تركه أخوه حينها لدراسة الحقوق. استمر سعيد في طريقه الفني وحيدا بين قلة قليلة من الفنانين العرب الذين احترفوا هذا الفن ويرسخ بذلك هوية وحالة فلسطينية من فن الصمت والحركة التي تفعّل الحس البصري، تفهمها جميع شعوب العالم من دون ترجمة فحركه الأطراف تنساب مع موسيقى خاصة تشترك الأذن والعين بحل لغزها، يستخدم فنان الإيماء ماكياجا وموسيقى وأدوات خاصة ليجسد حالة يومية ويترجم نصا قادرا على تخزين صورة شعرية ومشهديه معبرة تعتمد خطة إخراجية محكمة يرسم بها الممثل البسمة على الوجوه ويحرك الانفعالات الحسية.



درس سعيد "فن البانتوميم" في كلية "بيت روتشيلد " في حيفا وهو خريج "معهد ثقافة الشعوب" في القدس و"مدرسة مارسيل مارسو للبانتوميم" بباريس. أنشأ "مدرسة سعيد سلامة لمسرح الإيماء" والتي تخرج سنويا جيلا جديدا من الفنانين المحترفين بفن التمثيل الصامت، أسس مع مجموعة من أصدقائه "مؤسسة زيدان سلامة للثقافة والفنون" بمدينته شفاعمرو والتي ترعى الفرقة المسرحية للتمثيل الصامت والمكونة من خريجي مدرسته، يهدف بهذا دعم هذا الجيل الجديد ليجد منصتة وليتمكن من تقديم فنه.
ترعى المؤسسة "المهرجان الدولي للتمثيل الصامت "حيث يستضيف سنويا فرقا عالمية تقدم عروضها في مدينة شفاعمرو.

 
التقيت الفنان سعيد سلامة ليحدثنا عن تجربته مع المسرح الصامت:


حدثنا عن بداياتك وكيف تقربت لهذا النوع من الفنون؟

 

تابعت بطفولتي أفلام شارلي شابلن ولوري لوهاردي الصامته، قلدت حركاتهما ومشاهد من أفلامهما. بعدها قدمت عروضا مسرحية مدرسية متعددة وعملت ومثلت مع عدة مسارح. أخي زيدان رحمه الله هو من جذبني لاحتراف التمثيل الصامت حيث درسه من عام 1981 حتى 1983 على يدي الاستاذ داني لوتساتو، كان زيدان أول عربي يطرق غمار هذا الفن، احتراف "الإيماء" يلزم دراسة أكاديمية لتقنيته الخاصة حتى يتمكن الممثل من أدواته التمثيلية .قدمت معه عروضا مشتركة من العام 1981 حتى العام  1988 حيث تركني حينها ليدرس الحقوق وفي عام 1997رحل زيدان مبكرا عن الحياة.


كيف أثر عليك أخيك زيدان في حياته وكيف أثر عليك غيابه؟


كبرنا وترعرعنا كروح وجسد واحد، قدمنا سوية مئات العروض سنويا، رحيله أشعرني بالوحدة وبالمسؤولية لترسيخ فن الإيماء فأنا أريد الاستمرار بتقديم هذا الفن مع حَمْلي موروث زيدان الفني.


ما الذي يميز هذا الفن برأيك؟


   عالم الحركة مميز يدخل قلب المشاهد مباشرة وبسرعة ويعشق المتفرج عروضه لحبه لعالم الخيال، كلنا يستخدم بشكل دائم حركات الأطراف ونحمل في داخلنا ممثل إيماء صغير، الحركة  أقوى من الكلام فهي كالسهم لها مفهوم واحد ولكن الكلمة لها عدة أوجه، تنطلق الحركة بصورة مباشرة وتصيب القلب والعقل معا.

ما الحيز الذي يشغله مسرح البانتوميم بين الفنون المسرحية العربية الأخرى؟

للأسف لم يتم تطوير"مسرح البانتوميم" بطرق علمية ومدروسة عربيا، على الرغم من أن تاريخ هذا الفن يعود إلى الإغريق وقد طور العرب جميع الفنون الاغريقية لكنهم استثنوا منه " فن البانتوميم" الذي يشغل مساحة كبيرة من المسرح العالمي ومساحته مختفية في المسرح العربي،
هناك محاولات مسرحية قليلة ولكنها غير مستمرة، فن الإيماء يحتاج لعمل متواصل ومستمر، هذا الوضع أشعرني بمسؤولية كبيرة في دفع عجلة هذا الفن للأمام وليس على المستوى الفلسطيني فحسب بل على المستوى العربي في محاولة لتطوير "جانر" فني جديد في المسرح العربي.

 
لماذا أنش
أت مدرسة الإيماء؟ وكيف يمكنك أن تحافظ على استمراريتها؟


أقيمت مدرسة "سعيد سلامة للإيماء" لترسيخ وتثبيت "فن البانتوميم" على الساحة المسرحية وأقمنا مؤسسة زيدان سلامة للثقافة لتحقيق هذا الهدف،
ترعى المؤسسة فرقة مسرحية لفن البانتوميم وأعضاؤها من خريجي المدرسة، نسعى لرعايتهم حتى يستمروا في تقديم عروضهم. تعتبر المدرسة الإطار الخاص الذي يستوعب بها الطالب مهارات لكيفية تهذيب حركات الجسد وصقلها بالشكل الصحيح ويجب عليه دراسة تقنية خاصة بهذا الفن. تساهم المدرسة في خلق حالة فلسطينية فنية خاصة بـ"البانتوميم" ونراعي بذلك  تأسيس "مسرح صامت" حسب القواعد الفنية الصحيحة والسليمة حتى يواكب ويسير إلى جانب المسارات الفنية العالمية الأخرى

 والتي تهتم بهذا النوع من الفنون الجسدية، من جهة أخرى يجهل المشاهد الغربي معرفة الكثير من المعلومات عن حياتنا الثقافية وموروثنا الشعبي، لذا يجب أن يقدم مسرح الإيماء فنانين فلسطينيين يؤدون عروضه بشكل واع وراق وصحيح، ويجب أن يتعرف الغرب علينا وعلى حضارتنا بأساليب فنية يعرفها ويفهمها ولكنها متطورة ومتناسبة مع حياتنا وحضارتنا.


حدثنا عن "المهرجان الدولي للتمثيل الصامت" ؟ولماذا أقمته؟

ترعى مؤسسة زيدان سلامة "المهرجان الدولي للتمثيل الصامت" من العام 2004 في مدينة شفاعمرو، أقيم المهرجان حتى يثير الاهتمام بفن الايماء ولترسيخه في أذهان الناس وبنفس الوقت فإننا نسعى لإثارة تسليط إعلامي على هذا الفن. يستضيف المهرجان فرقا من جميع أنحاء العالم يقدمون عروضا مختلفة ونستقبل آلاف الزوار الذين يأتوننا من كل أنحاء البلاد، استضاف المهرجان عام 2008 فرقا من الأرجنتين وأرمينيا وألمانيا وتشيكيا، استخدمت كل فرقة تقنيتها الخاصة والتي طورتها بشكل فردي ما جعل طريقة الأداء وشكل العرض يختلف من فرقة لأخرى حيث تنفرد كل فرقة بتطويره بشكل مستقل يتعلق في الموسيقى والعادات والتقاليد الشعبية لكل بلد، هذا يضفي خصوصية في أسلوبها من حيث اتباعها نمط خاص بها يجعلها مدرسة فنية مستقلة للبانتوميم، لكن جميعها تقف تحت راية مدرسة مسرح الإيماء. باعتقادي محظوظ من تتاح له فرصة مشاهدة عروض المهرجان كون المشاهد يملك جسدا ولا يعي حدود هذا الجسد فحدود اللسان واضحة حيث لا حدود له وحدود أطراف الجسد واضحة أيضا وقوة تعبيرها أرقى من الكلام وليس صدفة أن قيل إذا كان الكلام من فضة فالتعبير بالجسد من ماس.

 
هل يمكن أن تحدثنا عن خصوصية أسلوبك الفني وتجربتك العالمية؟

فن "التمثيل الصامت"  لطيف وقريب من القلب. ابتكرت أسلوبا فنيا خاصا يتلائم مع إحساس وذهن المشاهد العربي والفلسطيني، جسدت الشعر على المسرح، اخترت  قصائدا للشاعر سميح القاسم، مثل قصيدة "ليلى العدنية"، قصائد القاسم مشبعة بالأحاسيس واللوحات الفنية وبين كلماتها تنبض روح وحركة خاصة، قدمت قصيدة توفيق زياد "سرحان والماسورة" وعرضتها بمرافقة الكلمات. قدمت عروضي في أماكن لم يقدم  بها المسرح، أرفقت معها الموسيقى الشرقية بالرغم أني درست الإيماء بمرافقة الموسيقى الغربية. قدمت قصص فلسطينية أمام جمهور أوروبي وأوصلت الحكاية لهم بلغة الجسد حيث ضحكوا وصمتوا عند اللزوم ولفتت عروضي انتباه الصحافة الغربية  ففني يروي حياتنا اليومية والوضع الفلسطيني العام على جميع المستويات السياسية والاجتماعية  والاقتصادية  قدمتها بأسلوبي الخاص الذي أثبت هويتي الفلسطينية وتأثري بالفنان مارسيل مارسو.

مدرسة مارسيل مارسو الفنية للبانتوميم


يعتبر الفنان العالمي مارسيل مارسو أحد أعمدة المسرح الإيمائي العالمي الحديث،
أثر مارسو في تشكيل شخصية الممثل الإيمائي من خلال الشكل والهندام والطلاء الأبيض على الوجه. تميز بشخصية "بيب" المهرج الأبيض الشاعري ذي القبعة الطويلة والمزروعة بزهرة، جسد من خلالها شخصية الإنسان العادي بحالاته المتعددة. أنشأ "كلية الإيماء الدرامي الدولية" بباريس عام 1978، ونجح مع فرقته في الفترة ما بين 1950 و1960 أن تكون الفرقة الإيمائية الأولى التي تقدم عروضها بأكبر المسارح الباريسية ومن ثم العالمية واستمر يعمل على خشبة المسرح حتى آخر حياته.

ما هي علاقتك بالفنان مارسيل مارسو؟ وما هو تأثيرة عليك؟

   التقيته أول مرة عام 1987، حيث درست حينها فن الإيماء بمدرسته في باريس مدة سنة تعليمية كاملة ،تعرفت خلالها على تقنية هذا الفنان العالمي الذي استطاع عبر جسده الصغير خلق حالة فنية أحبها العالم، يعتبر مارسو من أهم الفنانين العالميين الذين طوروا المسرح الصامت وتخرج من مدرسته آلاف الطلاب، تعرفي عليه عن قرب أحدث تغييرا كبيرا على أسلوبي وكيفية تعاملي ونظرتي لمسرح الإيماء.


ما هي الفلسفة الفنية التي تتبعها؟ وما هي رؤيتك وتصوراتك المستقبلية؟

حين يمتلك الفنان الخصوصية الفنية ويقوم بالبناء والتطوير الفني يجب عليه أن يمتلك رؤيا فلسفية خاصة به يحدد بها كيف ينظر للحياة وكيف يرى الأشياء بمجملها ليستطيع تطوير ذاته ومهاراته وخطه الخاص المحرك الأساسي لرؤيته وأسلوبه الفني. رؤيتي المستقبلية هي ترسيخ هذا الفن وبعث جذور جديدة تلامس الجذور القديمة وخلق حالة مسرحية تضاف إلى مجمل التجربة المسرحية في العالم العربي والعالمي بشكل عام لأن "البانتوميم" تجربة عالمية وأنا أتعامل مع مهرجانات دولية مختلفة والدائرة تتسع، فكلما شاركت في مهرجان عالمي تتم دعوتي لمهرجانات عديدة أخرى.

هبة زعبي

(17 سبتمبر 2008)

 

عن موقع باب المتوسط