البانتومايم ـ دراسة في المسرح الصامت

سعد عزيز عبد الصاحب

 2013-10-02
يمكن اعتبار الكتاب الذي بين ايدينا اضافة معرفية هامة للمكتبة الاكاديمية وثقافة الجسد بشكل خاص على ندرة مصادر فن البانتومايم المؤلفة والمترجمة التي وصلتنا ومن المهم الاشادة بالجهد الهائل للمخرج والكاتب سليم الجزائري في ترجمته للعديد من المصادر الجيكية والسلوفاكية التي جعلت من المعلومات الواردة في الكتاب معلومات اصيلة وجديدة على مسامعنا غير مكرورة ، جاء الكتاب باطار منهجي فني تاريخاني علمي ابستمولوجي ، اضعه حسب زعمي تراتبيا مع اهم الكتب التي شكلت علامة فارقة في تاريخ الفن المسرحي والاشكال الايمائية ككتب الافاق والاعماق لاودين ديور واعداد الممثل لستانسلافسكي والتكامل الفني في العرض المسرحي للالكسي بوبوف وجماليات الاخراج المسرحي لسيجموند هبنر والمكان الخالي لبيتر بروك وغيرها لانه قادم من قريحة رجل مسرح عارف باسرار وخفايا اللعبة المسرحية ، مشتغلا لسنين طويلة على فن الممثل حافرا بمعاول قوية في صرح البنية الثقافية لفن المسرح لاسيما وقد اندك الجزائري مع البنية المسرحية الاوربية كونه خريج معاهد جيكوسلوفاكيا بلد الابتكارات الحديثة في المسرح والسينما والبصريات بخاصة ... ولو تخلص الكتاب من المقدمة الدخيلة على فحواه والتي كتبها احد النقاد المعروفين ـ كونه على ما يبدو لم يجهد نفسه في قراءة الكتاب ـ اذ يقول في ص 11 ما نصه ( بعدما ساعد الحجم الواسع للمسارح الرومانية على انتشار هذا الشكل المسرحي ـ يعني البانتومايم ـ حيث يكون اسهل على الجمهور ان يرى من ان يسمع ) والمعروف ان المسارح الرومانية عزلت خشبة خاصة صغيرة في المسرح الروماني الكبير بمقاعد محدودة لتقديم عروض البانتومايم لان اعداد الممثلين في هذا اللون الصامت قليلة وايضا للمشاهدة الجيدة لتعبيرات وجوههم .. وهذا ما يؤكده الجزائري نفسه في الكتاب ص 90 ... واعود مرة اخرى الى الكتاب الذي يقع في قسمين الاول في ستة فصول جاء الاول ليبحث في اصول فن البانتومايم البدائية في المحاكاة الايمائية لدى القبائل والاقوام البدائية ومن ثم السومريين والبابليين مرورا بالعصر اليوناني الذي قسم الكاتب فن الايماء فيه الى ثلاثة انواع رئيسة الرقص الايمائي والميموس وعروض الولائم الخاصة وقبل هذا الفصل يشرع المؤلف في كتابة مقدمة هامة جدا في توضيح الفروق الاصطلاحية للنوع الفني بين المسرح الصامت البانتومايم ومسرح الصمت او دراما الصمت لمترلنك وبين الصمت الدرامي التقليدي .... وعند الحديث عن المسرح اليوناني يفصل بشيء من الاستفاضة للفرق بين الميموس والبانتومايم فالاول بوصفه تجسيد للاحداث اما بالحركة من دون كلام اوباستخدام الكلام في نطاق محدود لاغراض التقديم او الربط بين الفقرات حيث نشا هذا اللون في اليونان القديمة وانتقل الى الامبراطورية الرومانية وهو ينحى باتجاه الشعر ويفتح افاق التعبير رحبة ويطرح ظلال المعاني تاركا للمتفرج شان تاويلها بحرية ، في حين يتكا البانتومايم على سلسلة حركات خفيفة الظل ... ويشرح المؤلف الاشكال الايمائية في الحضارات الاسيوية القديمة كالكاثكالي في الهند واوبرا بكين ومسرح النو في اليابان ، وفي الفصل الثاني يفصل المؤلف الحديث عن موطن وحاضنة فن البانتومايم الاصلية الدولة الرومانية التي نحت منحى مغايرا للمسرح اليوناني مستبدلة الوظيفة التربوية الارشادية باخرى تعنى بالتسلية والترفيه ... واصبح الممثل البانتومايمي جزءا عضويا في المجتمع والثقافة الرومانية وامسى الممثلون الايمائيون يصحبون الجيش الروماني بوصفهم مترجمين يستعينون بالحركة بدل اللغة لتوصيل المعنى ، واستعان القيصر الروماني نيرون بالممثل الايمائي باريس متخذا اياه مترجمه الشخصي عند استقباله ممثلي الاقوام والحكومات الاخرى ، واخذ البانتومايم يشكل شكلا اساسيا في المفاعيل الفنيه البصرية الرومانية وصاحبت الموسيقى العروض الايمائية لممثلي البانتومايم ...ويستخدم بعض ممثلي البانتومايم الرومان القناع الذي يختلف عن قناع الممثل التراجيدي ، بخلوه من فتحة الفم وباتساع تجويفي العينين لتمكين المتفرج من رؤية حركة عيني الممثل ، ويدخل سليم الجزائري في القرون الوسطى واكتشافها لشخصية المهرج ـ المعتوه ، وكان يراد به الافلات من طوق الممنوعات لتقديم وجهة نظر اخرى مغايرة وكلنا يعرف مهرج البلاط ـ الذي هو نوع من الجوكولاتور ـ ووظيفته الاجتماعية في ادخال المسرة الى قلوب ضيوف سيده ، باعتباره الشخص الوحيد القادر على قول الحقيقة ، وفي الفصل الثالث وهو من امتع الفصول في الكتاب حيث يتجول الكاتب في عصر النهضة والكوميديا ديلارتيه وانماط شخصياتها الارتجالية وصولا لتوضيح مصطلح ( اللازي ) وهي كلمة ايطالية تعني المزاح او الهزل او تجسيد الموقف الساخر حركيا ، وهو مصطلح عممته الكوميديا ديلارتيه باعتباره عنصرا رئيسا في الفن الايمائي يلزم كل ممثل بتمييز شخصيته ب( لازي) خاص بها اي لازمة حركية او شفاهية . ويشرع المؤلف في الكشف عن تعبير ومصطلح اخر في الكوميديا ديلارتيه وهو (الكانفاه) وهو السيناريو الحركي للشخصيات في عروض الديلارتيه ومنه نشا النص او السيناريو البانتومايمي في المسرح الحديث وشروحه المستفيضة لشخصية ( ارلكين) الخادم الساخر في الربرتوار الديلارتي والتي تطورت وتناسلت الى شخصيات ايمائية اخرى ك ( بيير) وغيرها  ، وصولا الى البانتومايم الانجليزي وانواعه ، وفي الفصل الرابع يسيح المؤلف في عصر الثورة الصناعية وخفوت وتواري للفنون الايمائية في هذه الحقبة بسبب ان الثورة الصناعية اقترنت بهجرة واسعة من الريف الى المدينة ، والمهاجر الجديد لا يندمج بسرعة في مجتمع المدينة ، ولا يميل لثقافة او نمط عروض فنية .. ويستمتع القارئ بمجموعة من السيناريوهات الايمائية لتلك الفترة تمثل الموضوعات البانتومايمية ااثيمات التي كانت تقدم . ورغم ان البانتومايم الكلاسيكي كان مضطرا للانتظار بعض الوقت ليعاود عصر نهضة اخرى ، الا ان ذلك لم يمنعه من التواصل مع جمهوره من خلال عروض فنية اخرى في مقدمتها السيرك والباليه والبالية الايمائي اللذان شهدا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتعاشا كبيرا يقول المؤلف ( تعود نشاة شخصية المهرج الحديث الى نهاية القرن الثامن عشر حيث اقدم بعض الفنانين الشعبيين الانكليز على المزج بين مضحكين يحفل بهم التراث الايمائي الانجليزي اشتهروا في فن ( dumb show  ) ( عروض الفواصل ) وبين شخصية (ارلكين) الشهيرة واطلق عليها تسمية (clown ) ، ويتطرق المؤلف الى لحظة هامة من تاريخ البانتومايم هي لحظة ظهور الفلم الصامت والانجازات الكبيرة التي حققها الممثل والمخرج الصامت شارلي شابلن في افلامه ( كيد ، البحث عن الذهب ، اضواء المدينة ، الازمنة الحديثة ) وغيرها ...
وفي الفصل الخامس الطليعية والمسرح الايمائي ينفتح المؤلف على اسماء محدثة هامة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين امثال اندريه انطوان وبول فورت وجورج فوش وماكس راينهارت وجوردن كريك وجاك كوبوواودولف ابيا وارتو وستانسلافسكي وارتو ومايرهولد وتايروف وفاختانكوف وبسكاتور وبرشت ... ولا ادري لم اختار المؤلف لكتابه بعض المخرجين والمنظرين الذين ينتمون الى مسرح المؤلف امثال ستانسلافسكي وبرشت وبسكاتور كعينات لهذه الدراسة حيث كان عليه  حسب زعمي ان يقتصر على المخرجين الذين كان لهم دور واضح وجلي في توظيف فن البانتومايم والايماءة في عروضهم امثال مايرهولد وتايروف وراينهارت وارتو وكروتوفسكي وغيرهم .....ويستمر المؤلف في الولوج داخل الاتجاه الطليعي في امريكا وتجارب المخرج روبرت ولسن ... وفي الفصل السادس يطالعنا المؤلف بتصوراته عن البانتومايم في مستهل القرن العشرين وتجارب الفرنسيين : ( جاك كوبو واتين دكرو وجان لوي بارو ومارسيل مارسو ) حيث يرى مارسو ان البانتومايم اقدر من الكلمة في التعبير عن الحياة والموت ، نقول مثلا عن احد انه مات ، لا تفي المفردة بالتعبير عن فعل الموت الا بصعوبة ، في حين ان البانتومايم يجسد لحظات الموت بادق الصور وينتقل المؤلف بالحديث عن فن البانتومايم في النصف الثاني من القرن العشرين بعينات ( جاك لوكوك ووديمتري وتوماشفسكي والروسي ينغباروف ) ويتطرق الى تمارين الاسترخاء لدى كروتوفسكي وتمارين القناع والعيون التي عملها في مختبره الشهير ، وفي القسم الثاني من الكتاب الذي يتالف من اربع فصول تستعرض بايجاز مبادئ وعناصروتقنيات البانتومايم الاجرائية مشفعة بالصور التوضيحية الدقيقة ... والتي يستفيد منها الطلبة الدارسين لفن التمثيل بشكل عام .
في الختام يمثل كتاب البانتومايم للكاتب سليم الجزائري اضافة قيمة وغير مسبوقة للمكتبة الفنية العراقية والعربية في الكتابة بشكل منهجي في الفنون الايمائية والحركية ، بشكل يجعلنا نكبر ونثمن هذا المنجز القيم بوصفه علامة فارقة في مدونات الحقول المعرفية الانسانية