عن / موقع المسرح دوت كوم

  ثلاثة ملامح من المسرح العراقي المعاصر

 2 مايو 2003 | الكاتبالمحرر

مشكلة أسمها المونودراما

قد يتشعب بنا الحديث ونحن نستعير مصطلح كرودفسكي الشهير: «المسرح الفقير» في محاولتنا هذه رصد واحدة من أبرز ظواهر المسرح في العراق اليوم، وهي ظاهرة المونودراما، او مسرحية الممثل الواحد. فالمسرح الفقير الذي نقصده هو المسرح الذي لا يعتمد على تكاليف الإنتاج المعروفة، ولا تقنيات العرض المتقدمة، انه مسرح يقتصد في كل شيء، وعلى وجه الخصوص في إنتاجه وتقنياته.  لقد كانت سنوات التسعينيات العجاف من القرن الماضي بالنسبة للمسرح العراقي تمثل سبباً منطقياً لكي يبحث المسرحيون الوسائل الناجعة لتقديم عرض «رخيص» في كلفته الإنتاجية، و«بسيط» في أشكاله التقنية، ولكنه يحاول أن «يبوح» ويجتهد.. ومع سيادة المسرحية الاستهلاكية على مسارح العاصمة فقد انضم العشرات من الفنيين والتقنيين والممثلين والمخرجين لهذا التيار مادام قادراً على أن يوفر لهم لقمة العيش في ظرف اقتصادي صعب عموماً، ويضمن لهم من جانب آخر الاستمرار في العمل المسرحي، حتى لو كان هذا العمل لا يمثل طموحاتهم الفنية والفكرية.  وكانت المشكلة قد ألقت بضلالها على «الجادين» من أهل المسرح العراقي، أولئك الذين لم يستسيغوا فكرة «التنازل» عن قيمهم ومثلهم ورؤاهم لينخرطوا في تيار المسرحية الاستهلاكية فكان عليهم البحث عن البديل، والبديل هنا لم يكن مثل بديل الثمانينيات والسبعينيات، حيث كانت الدولة تدعم «فعلياً» المسرح مما أدى إلى ظهور نماذج بارزة فيه، البديل اليوم يجب أن يكون فردياً، وبالتالي لابد أن يكون «فقيراً»!. منذ مطلع التسعينيات بدأت المسرحية المونودرامية تتقدم بقوة في مهرجانات المسرح العراقية، حتى وصل الأمر بدائرة السينما والمسرح، أكبر جهة للإنتاج المسرحي في العراق، أن شرعت بعقد مهرجان سنوي لمسرحيات المونودراما، قد يكون المهرجان الأول من نوعه في العالم!، حيث وجدت هذه الدائرة، أن مهرجاناً من هذا النوع هو الكفيل بتشغيل العشرات من المسرحيين «الجادين»، كما انه مثل لهؤلاء فرصة البديل المناسب لتقديم رؤاهم وأفكارهم الفنية والتعبيرية والفكرية.  ومع تزايد الاهتمام، الرسمي والشخصي، بالمونودراما بدأ الحديث عن «مشاكل» المونودراما، وهي مشاكل في أغلبها فنية تتمثل بقدرة هذه العروض على إقامة نسق تواصلي مع المتلقي الذي يبحث عن متعة بصرية وحركية لا توفرها الكثير جدا من عروض المونودراما… ولقد حاول غير باحث أكاديمي أن يدلي بدلوه، فتقدم الفنان حسين علي هارف بمشروع رسالته للدكتوراه عن المسرحية المونودرامية، فيما كانت ثمة بحوث مهمة في هذا الاتجاه كتبها نقاد وفنانون متخصصونإن المسرحية المونودرامية تختصر، ما يسمى بالعقول العديدة في إنتاج المسرحية، إلى عقل واحد او عقلين، حيث دأب المسرحيون العراقيون على تقديم مسرحيات مونودرامية يكتبها ويخرجها ويمثل دورها الوحيد ويضع مؤثراتها الصوتية والضوئية ويصمم ديكورها وازياءها شخص واحد!، وقد تكررت هذه الظاهرة في العشرات من العروض المونودرامية دون أن يكون ـ من يقدم هذا النموذج وبهذه الطريقة ـ سوبرماناً خارقاً، مما أدي إلى مفعول عكسي لتلك العروض، كان ابرز ملامحه الملل الذي يتسرب إلى المشاهدين، وهم يرون الممثل الوحيد على الخشبة يفعل كل شيء، إلا أن يكون مدهشاً! ومن جانب آخر ساهمت البنيات الثابتة والمتكررة، التي يلجأ إليها المونودراميون في عروضهم، في تأكيد مشاكل هذا النموذج.. فالمسرحية المونودرامية قائمة على حكاية «حدوتة» تجري أحداثها في زمن ماضٍ يتم سرده، سرداً متواصلاً، على الخشبة من خلال ممثل واحد يستعين في ذلك بمشاهد «الرجوع ـ فلاش باك»، ولابد لهذا الممثل من أن يتحدث في جهاز الهاتف، كما إن صوت رنين جرس باب المنزل بات من البديهيات في هذا العرض، والممثل بدوره يمثل ـ حتما ـ مشهد المخمور في ثنايا العرض، ويبدو عالم العزلة والاغتراب هو العالم الفعلي للشخصيات المونودرامية! وبإمكان المتابع استخراج تيم متكررة ـ مثل السابقة ـ من العروض المونودرامية، ليصبح، مع تعداد هذه الثيم، امر تقديم مسرحية مونودرامية أمرا سهلاً للغاية! واللافت في الموضوع، إن عدوى المسرحية المونودرامية انتقلت من خشبات المسارح التراثية، الصغيرة دائماً إلى المجاميع المسرحية العراقية العاملة خارج العراق!، فقد شهدت أيام المسرح العراقي في برلين التي عقدت للفترة من 14 إلي 17 يونيو الماضي، تقديم نماذج عديدة من المسرحيات المونودرامية التي وقعت بمجملها، استنادا إلى تقارير صحفية ونقدية من داخل أروقة المهرجان، وقعت في نفس علل المسرحية المونودرامية ـ داخل العراق!، حيث يقول الكاتب ماجد الخطيب: «الميل نحو أعمال الشخصية الواحدة إذا ما تحول إلى قاعدة للعمل، يقسر الفنان على صرف النظر عن معظم الأعمال المسرحية الأخرى، كما إن تحول الفنان إلى مخرج وممثل لاعماله، اضافة إلى قيامه بمهمات الديكور والاضاءة والإكسسوار وغيرها، وهو ما شاهدناه في برلين، يشتت تركيز الفنان، وان إثقال الفنان بتمثيل الدور والنهوض بأعباء الرواية وتغيير الديكور وانتقاله بين هذا وذاك تتطلب منه مهارات فنية كبيرة وقدرات صوتية ومطواعية جسدية قد لا يمتلكها وتضعف بالتالي من العرض

ويثبت هذا التماثل، بين عمل المجاميع المسرحية العراقية داخل وخارج العراق، وجود واستحكام «الازمة» ذاتها، وهي أزمة تطيح بأخيلة ورؤى المسرحيين مادامت نماذجهم تركن إلى تقديم مسرحيات سهلة ومتداولة ورخيصة إنتاجيا وفنيا أيضا
إننا نفهم الدوافع الحقيقية لإصرار المسرحيين العراقيين في هذه الظروف على تقديم المسرحيات المونودرامية، وهي دوافع نبيلة بمجملها، على أن ذلك لا يعفيهم مطلقاً من مسئولية البحث عن وسائل تتيح لهم تقديم مسرحيات غنية بالجمال، وقادرة على إثارة انتباه المتلقي واشراكه في متعة اللعبة المسرحية.  

***

لماذا البانتومايم ؟

من البداهة القول بأن فن المسرح يمثل المرآة الحقيقية البارزة لقراءة الواقع المجتمعي والسياسي والاقتصادي لشعب ما.. هكذا كان المسرح منذ بواكيره الأولى في اليونان القديمة واستمر كاشفاً، في مراحل عمره الطويل، لنظم المجتمع المختلفة.. والمسرح في العراق لا يشذ عن هذه القاعدة أبداً، ولطالما كان دليلاً لقراءة الخارطة السياسية للبلد على سبيل المثال، فحين تنفس العراقيون بعضاً من نسيم التعددية في سبعينات القرن الماضي كان المسرح يحث خطاه بجد نحو صناعة عرض مسرحي متقدم فنياً وفي الوقت ذاته حامل لفكرة الحرية التي شغلت المثقفين العراقيين في تلك السنوات.. والمثال يتكرر بصورة معكوسة في مسرح التسعينيات العراقي حيث الغلبة لمسرحيات الاستهلاكية (التجارية) في تعبير دقيق عن واقع الحال في عراق اليوم حيث تصير التجارة (شطارة) من أجل الحصول على لقمة العيشوفي سنوات التسعينات هذه، وما بعدها، كان المسرح في العراق يفرز العديد من الظواهر التي تصلح مقدمات لقراءة الواقع العراقي، ومن تلك الظواهر سيادة المسرحية الاستهلاكية (التجارية) ومسرحية المونودراما (الشخصية الواحدة) ومسرح البكائيات و(المناحة) وأخيراً مسرحيات البانتومايم (المسرحيات الصامتة) والتي نحاول هنا التوقف عندها تحديداً .لقد كانت المسرحية الصامتة حاضرة في المشهد المسرحي العراقي بدرجات متفاوتة بين موسم مسرحي وآخر، بل أن كبار الفنانين العراقيين قد اشتغلوا على المسرحية الصامتة في فترات متباعدة، صلاح القصب على سبيل المثال في مسرحيته (أحزان مهرج السيرك) أواسط الثمانينات، فيما عرفت مجموعة صغيرة جداً من المسرحيين العراقيين بعنايتها بهذا النوع المسرحي الحديث، وعلى رأسهم الفنان عدنان نعمة والفنان الراحل محسن الشيخ وأكرم كامل وعصام علي.. وقد هاجر الأول واتجه الثالث لمعترك الحياة في عراق جائع فيما تبع الرابع خطوات الأول ليعمل الآن مدرساً في أحد معاهد التمثيل في عمان.. هذه المجموعة كانت أبرز نتاجاتها في ثمانينيات القرن الماضي، وتوقف نتاجها بالتدريج مع تفاقم الوضع العراقي بعد حرب الخليج الثانية… ومضت سنوات غابت فيها المسرحية الصامتة عن الحضور حتى عادت للظهور، وبقوة هذه المرة، من خلال مجموعة جديدة من الشباب المتعلم (طلبة معهد الفنون الجميلة في بغداد)، فكانت مسرحية (هاملت) برؤية بصرية صامتة للفنانة سندس علي خيون، المدرسة في المعهد، ثم انفرط عقد المجموعة التي عملت معها لتتشكل فرقة جديدة وفتية حملت عنواناً لافتاً هو: فرقة مردوخ، والمتكونة من الفنانين أنس عبد الصمد وياسر عبد الرزاق وعلي طالب وعلي حسن وبان جميل ومحمد عمر وانمار عبد الأمير وفائق شريف وطلعت السماوي ، وقد قدم أعضاء هذه المجموعة عدداً من العروض الصامتة في دورات مهرجان بابل الدولي ثم عرضهم الصامت، الأشهر، (نار من السماء) والذي يعتمد الرقص التعبيري، والذي عرض في بغداد ثم ترشح ليمثل العراق في احتفال المسرح التجريبي في مهرجان القاهرة الأخير، وهذه هي المرة الأولى التي يمثل العراق فيها عرض صامت في مسابقة مسرحية كبرى، وخاصة أن منتجي هذا العرض هم من الشباب الذين لم يكن لهم ذاك الحضور المسرحي قبل هذا العرض.. ومسرحية (نار من السماء) حازت على الإعجاب في عرضها البغدادي وكذلك حين عرضها القاهري، والسبب في ذلك هو اعتمادها الخطاب الصامت، والراقص في آن للتعبير عن محنة العراق الآن من خلال ربط الواقع المعاصر بسجال تاريخي وميثولوجي يمر عبر مراحل مختلفة من تاريخ العراق وحضاراته القديمة .وقد استطاعت هذه المجموعة أن تواصل حماسها في مسرح البانتومايم فكان أن قدمت مسرحيات أخرى في بغداد كان آخرها عرض بعنوان (الصمت كالبكاء) وعرض على صالة المركز الثقافي الفرنسي في بغداد مؤخراً .ينبني العرض الصامت على بنية حركية تلعب الدلالة فيها الجانب الأبرز من الإنتاج المشهدي، ولذلك تتفوق الصورة المسرحية في مسرحية البانتومايم على أي عنصر مسرحي آخر من أجل تعويض غياب عنصر الكلمة عن العرض ، وتتشكل الصورة المسرحية هنا من خلال جسد الممثل، فالجسد هنا هو مصدر الكود (الشفرة) الأساس وتعاونه غالباً مجموعة بسيطة ومتقشفة من الإكسسوارات بالإضافة لذلك الحضور القوي واللافت للموسيقى، سواء أكانت موسيقى حية أو مؤلفة.. وبسبب من غياب الكلمة، مصدر العلانية الأساس في العرض المسرحي، فإن حضور شفرة الجسد تبعد صاحبها عن فخاخ التأويل السلبي (السياسي) وبالتالي تتيح للاعب المسرحي المزيد من الحرية للتعبير عن أفكاره وهواجسه دون خوف من رقيب أو غيره..   

وبسبب من قسوة الرقابة في المسرح العراقي، تلك الرقابة التي لم تفتح لأهل المسرح سوى أحد بابين أحلاهما مر: المسرح الاستهلاكي (التجاري) أو مسرح البكائيات (اللطميات ومناحات الحصار!) فإن فرص العمل الجاد والتجريبي بدأت تضيق شيئاً فشيئاً وهذا ما دفع بعض (المغامرين) من الشباب خاصة إلى ولوج مداخل أخرى للعمل المسرحي، تمثلت تلك المداخل بنموذجين أصبح لهما حضورهما القوي في المشهد المسرحي العراقي، وهما: مسرحية المونودراما ومسرحية البانتومايم.

إن فن البانتومايم، وما يتداخل معه من فنون بصرية حركية، مثل الكيوغرافيا، هي فنون حديثة فعلاً بالنسبة للمشهد المسرحي العراقي، وكذلك للمسرح العربي والعالمي، على أن دخولها المشهد العراقي لم يكن لضرورات تجريبية بالكامل، كما ظهرت في فرنسا مثلاً، وإنما فرض وجودها ذلك الاحتقان السياسي الذي يمر به العراق منذ عقود والذي ضيق المجال إلى أبعد الحدود بوجه حرية التعبير فكان أن لجأ مبدعوه إلى انتهاج فنون تعتمد البناء السيميائي (الدلالي) متعدد المعنى للهروب من التأويلات المضادة التي تتسبب في أحيان كثيرة موت الإبداع .

عن فكرة الانتظار لا يكاد عرض مسرحي عراقي انتج بعد حرب الخليج الثانية أن يخلو من مفردة (الحقيبة)، بل أن ثمة عروض بعينها حملت منذ العنوان مفردة الحقيبة، والحقيبة في أبرز تمظهراتها الدلالية ترمز إلى السفر وما يتصل به من تيم.. وبالطبع لم تكن الحقائب هي السمة الوحيدة لعروض التسعينيات المسرحية في العراق، بل أنها الأبرز والتي تلتقي عندها مجموعة من السمات أهمها على الإطلاق فكرة الانتظار.

واللافت في الأمر أن المؤسسة القائمة على الإنتاج المسرحي العراقي الرسمي قد رعت بطريقة ملحوظة هذا النموذج بالرغم من أنه يحمل الوجهين معاً: الوجه الذي تريده هذه المؤسسة والآخر الذي يريده ويقصده المسرحيون العراقيون!، ولعل مسرحية (قصة حب معاصرة) لفلاح شاكر مؤلفاً والراحل هاني هاني مخرجاً كانت بحق تمثل بواكير المزاوجة بين فكرة الانتظار وتفريعاتها، وخاصة الحقائب، حيث ترى خشبة مسرح الرشيد تمتلئ بالحقائب ومن كل الأحجام والأصناف.. أقول أن المؤسسة الرسمية احتفت كثيراً بهذا العرض، بل أوفدته في أيام شديدة الحساسية، مطلع التسعينيات، لأكثر من عاصمة عربية.. لتتوالى بعد ذاك العشرات من العروض المسرحية العراقية التي اشتغلت على فكرة الانتظار ومدلولاته السياسية والنفسية والاجتماعية لبلد تتراجع فيه قيمة وأهمية الإنسان يوماً أثر يومأجد هذه الكلمات تمثل مدخلاً معقولاً لقراءة ظاهرة تصح أن تكون مصدراً لقراءة الواقع العراقي اليوم.. وقد شغلت بها زمناً، ولكن مجموعة من القصاصات وصلتني بالبريد من الصديق المسرحي العراقي كريم جثير دعتني للتبسم أولاً ثم معاودة الكتابة في هذا الموضوعكتب جثير نصاً مسرحياً بعنوان : الزفاف (نشره في مجموعته المسرحية المعنونة: الأقنعة، والصادرة في دمشق عام 2001، وذيله بتاريخ يقع في نهايات عقد الثمانينيات الماضي)، والقصاصات التي أرسلها المؤلف لي تتعلق بهذا النص وما تعرض له من (سطو) في اليمن، ومن ثم في هولندا.. وفي الحقيقة، وبالرغم من التشابه الكبير بين نص جثير ونص اليمني عبد القادر صبري والعراقي في هولندا رسول الصغير، وأيضاً أبرز ما كتبه فلاح شاكر في خماسية الحب والحرب، فإن الأمر الأشد وضوحاً في القصة كلها هو تعلق المسرحيين العراقيين بفكرة الانتظار تعلقاً متطرفاً جداً، ويبدو الكاتب اليمني متأثراً إلى حد بعيد بتجربة عدد من المسرحيين العراقيين الذين أقاموا في اليمن بعد حرب الخليج الثانية ومن ضمنهم جثير والصغير أيضاً.. لقد استورد المسرح العراقي فكرة الانتظار من تجارب مسرح اللامعقول والعبث التي رافقت الحرب العالمية الثانية أو ظهرت بعدها، وقد نشط الألمان على سبيل المثال في إنتاج مسرحيات غامضة ولكنها ساحرة عن الدمار الذي لحق ببلادهم وعموم أوربا في تلك الحرب، وبالطبع فإن فكرة الانتظار، هي أبرز ملامح الحرب، أي حرب، ولعل مسرحية صامؤيل بيكت الشهيرة: في انتظار غودو قد صارت في العالم، وبالأخص في العراق، تمثل المسرحية الطموح، بالإضافة إلى عدد من مسرحيات هارولد بنتر ويوجين يونسكو، ومن الطريف ذكره في هذا السياق أن المؤسسة الرسمية العراقية قد منعت لسنوات طويلة نتاج هؤلاء الكتاب من التقديم في المسارح العراقية، وإذا ما غامر أحدهم فقدم نصاً لأحد هؤلاء كنا نتوقع أن تقوم الدنيا في العراق على أن الأمر الثابت هو أن تلك المؤسسة كانت تؤمن إيماناً عميقاً بلا تأثير المسرح التجريبي العراقي في عقول الجماهير !وفي السياق ذاته قمت شخصياً بإعداد مسرحية عن رواية ألمانية لهاينرش بول ترجمها للعربية الشاعر ياسين طه حافظ أوائل التسعينيات وأخرجها للمسرح الفنان كاظم النصار، وبالطبع كان فضاء المسرحية هو الانتظار أيضاًعلى أن المؤلف فلاح شاكر هو أكثر العراقيين اشتغالاً على موضوعة الانتظار في المسرح العراقي، وفلاح يجيد اللعبة المسرحية لجهة أنه يركز في نصوصه على إرضاء الجانبين: المؤسسة والجمهور، ولذلك نجحت مسرحياته رسمياً وجماهيرياً فيما تابعها المثقفون والنخبويون العراقيون والعرب بكثير من الشك: خذ آخر مسرحياته مثالاً: وعنوانها الزرقطوني، وهي عن سيرة مناضل مغربي ، فالمسرحية، كما تابعت ذلك من خلال الصحافة، حصلت على رضا المسؤولين المغاربة وجمهورهم (لأنها تتحدث عن واحد من رموزهم الوطنية!)، وكانت مسرحيته التي قبلها، وعنوانها (اكتب باسم ربك)، وقد شاهدت عرضها في العاصمة الأردنية عمان، قد أبكت صدام حسين عندما شاهدها في عرض خاص فأمر بتكريم كادرها وإيفادهم إلى ما يتيسر من العواصم العربية والأجنبية، وفي المقابل فأن الجمهور استقبلها أيضاً لأنها تعوم المشكلة العراقية ويرتفع فيها نبر الخطاب وبلاغة الكلام ولوعة الحصار!!، وهكذا الأمر مع مسرحيات فلاح شاكر الأخرى التي وضعها تحت تسمية (خماسية الحب والحرب). وأعود إلى مسرحية كريم جثير وعلاقتها بمسرحية رسول الصغير واليمني عبد القادر صبري، والمسرحيات الثلاث تتكئ إلى فكرة تجدها أيضاً في مسرحيات فلاح شاكر، وبالأخص مسرحيته (مائة عام من المحبة)، وملخص هذه المسرحيات: انتظار غائب يعود بعد عقود من الغياب، الغياب القسري (قد يكون حرباً كما عند شاكر، وقد يكون سجناً كما عند جثير) وفي الحالين يكون الغياب قسرياً وشرساً لجهة لا إنسانيته، مما يسبب خراباً في بنية العائلة.. أما قصة الأقدمية في هذا الخصوص، فيبدو أن علينا تصديق التواريخ، وهي تقول بأسبقية جثير عن أقرانه حيث قدم اليمني مسرحيته في بداية التسعينيات وفعل شاكر ذلك أواسط العقد الماضي فيما قدم الصغير مسرحيته قبل حوالي عام من الآن .. وعندي فالراجح هو أن الفكرة ذاتها تتمركز تمركزاً شديد الحساسية في وعي ولا وعي المسرحي العراقي ، وكذلك الثقافة العراقية، ولهذا التمركز أسبابه الواضحة للعيان والمتعلقة بالواقع السياسي للبلد حصرا وما يحمله أفق الانتظار بالنسبة لعموم الشعب الذي عاش عقوداً من القهر والاستلاب والتهميش والقمع والجوع ، وقد نقلت الثقافة العراقية هذا المركز إلى مدن الشتات فأنتجت وأثرت، كما في حالة جثير في اليمن والصغير في هولندا على سبيل المثال، وفكرة عروض مسرحية من هذا النوع تبدو سهلة المنال حقاً بالنسبة للمبدع العراقي، دون أن نقلل من قيمة نتاج هذا المبدع، فيكفي أن تبني شخصية، رجالية أو نسائية، تعيش على عقدة الانتظار لتبني بالتالي عرضاً مسرحياً يعبر بشكل تام عن معاناة العراق اليوم.